الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيبة الكونية الزائفة

خيبة الكونية الزائفة
5 نوفمبر 2015 01:18
لا غلو في القول إن المناطقية في الأدب هي جُملة الممارسات التعبيرية الفكرية والأدبية التي تركز نظرها على تصوير خصائص منطقة مجتمعية عرقية أو ثقافية ما وفق تمثيل جمالي. وهو اجتهاد تعريفي تحثُّ هذه المقالة الخطى نحو استجلاء معطياته في أشكال ثقافية ومعرفية وجمالية وأدبية ظهرت في الشرق والغرب ظلَّت تتصارع بين الرغبة بالانفتاح على كونية وكوكبية وعالمية محدثة، والاستجابة لرغبات الذات المحلية في أثوابها العرقية والمناطقية والمذهبية الدينية. كان لتطور العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر أهميته الفائقة في بناء وعي بالمكان المختلف، وهو أمر تزامن مع نمو ظاهرتين رئيسيتين؛ ظاهرة استعمار الآفاق البعيدة أو آفاق ما وراء البحار، وظاهرة الاستشراق التي تزامنت مع ذلك التطلَّع الجارف حتى تماهت معه في حالات عدَّة. ولعل دراسة نصوص تلك الظاهرة ببُعديها؛ الاقتصادي، المشحون بتطلُّعات السيطرة والهيمنة على أصقاع بعيدة من الشرق، والمعرفي، الساعي إلى بناء نمط تمثيل ثقافي يدخل بيوت تلك الأصقاع ويهمُّ بتصويرها معرفياً وجمالياً، وهو ما اشتغل عليه إدو ارد سعيد (1935 - 2003) في غير كتاب من مؤلَّفاته. الأنا المتعالية يركز سعيد نظره في تجربة كاتبين من أصلين مختلفين هما؛ الروائي البريطاني من أصول هندية جوزيف رديارد كبلنغ (1865 - 1936)، والروائي البريطاني من أصول بولندية جوزيف كونراد (1857 - 1924)، وكلاهما غريب في مكان عيشه، لكنهما معاً آثرا عبور مكانية العيش الأصلية والبديلة فيما كتبا من نصوص سردية عندما «استحضرا لجمهور بريطاني - هو أساساً جُزُري وإقليمي - ألوانَ المشروع البريطاني في ما وراء البحار، وفتنته الجمالية، وسحره الرومانسي» (1). يعتقد سعيد أن «رؤى كونراد الرئيسة للإمبريالية تتعلَّق بأفريقيا في رواية «قلب الظلام»، وبالبحار الجنوبية في رواية «لورد جين»، وبأميركا الجنوبية في رواية «نوسترومو». أما عمل كبلنغ الأعظم كيم»، فإنه يركز على الهند، وهي بلاد لم يكتب عنها كونراد إطلاقاً» (2). يبدو جلياً أن التجربة الإمبريالية والاستعمارية كانت حاضرة في نصوص هذين الكاتبين بقوة بحكم الظرفيات المكانية والزمانية السائدة في ذلك الوقت، وكان عليهما تمثيل (Representation) ذلك الأفق بنبرة هوياتية تستجلي طبيعة المكان المسرود بوصفه مكاناً مُستعْمَراً يقع هناك..؛ يقع في الضفة الأخرى من العالم، ما يعني أن تسريد تلك المناطق جاء وفق «منظور نظام استعماري هائل كان اقتصاده وأداؤه العملي وتاريخه قد اكتسب مقام حقيقة من حقائق الطبيعة» (3)؛ تسريد لم يخلو من ملفوظات دالة على ما هو عرقي - إمبريالي يندرج ضمن دوائر التعبير الجمالي الاستعماري الذي يصوِّر مكانيات الآخر كتابع لإمبراطوريات تركت أمكنتها المركزية - أمكنة الفاتحين المستعْمِرين - وترجلت نحو مكانيات هامشية في الكوكب الأرضي مترامي الأطراف في عالم واسع. لا يكاد الأمر ليختلف عن تجربة كونراد في روايته «قلب الظلام» حيث «مارلو في سرده لحكاية رحلته الأفريقية يكرِّر ويؤكِّد فعل كورتز وهو استعادة أفريقيا إلى حظيرة الهيمنة الأوروبية عن طريق أرخنة وسرد غرابتها» (4). لقد قدم كونراد شخصية (مارلو) راوي حكاياته عبر البحار بوصفها ذات ولع بالأمكنة البعيدة؛ يقول مارلو راوياً تجربته: «حين كنتُ فتى صغيراً، كان لدي شغف بالخرائط، كنتُ أنظر لساعات إلى أميركا الجنوبية أو أفريقيا أو أستراليا، أغرق نفسي في كل أمجاد الاستكشاف» (5). وهذا الهاجس بحب الأمكنة لدى الشخصية الراوية في «قلب الظلام» أو «مارلو» هو تأكيد حي على ولادة أدب مناطقي يحتفل بالأمكنة غير المحلية على نحو يتساوق مع ما هو إمبريالي - استعماري، ولذلك يمكن وصف مناطقيته بأنها مناطقية تعصبية ترتد إلى أنا متعالية تؤمن بثنائية المركز - الهامش، وهي مناطقية سردية لها صور كثيرة في الأدب الأوروبي والأنجلوسكسوني خلال العصر الحديث خصوصاً في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. مشرقيات لقد لعب المستشرقون أو علماء المشرقيات (Orientalists) دوراً بارزاً في إحياء (الأدب المناطقي) بالشرق العربي الإسلامي عبر اشتغالهم على دراسة مناطق بعينها. ورغم أننا نكيل لعلماء المشرقيات احتراماً كونهم آثروا الاشتغال على نصوص التراث العربي من جوانب مشرقة عدَّة، إلاّ أن بعضهم لم يكن بريئاً فيما أقبل عليه وهو يدرس الشرق معرفياً وفكرياً، فهناك من المستشرقين ممن عمل في دوائر استعمارية معلنة كما هو حال المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (1883 - 1963)، الذي عمل كمستشار لـ «وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر»، بحسب موسوعة ويكيبيديا. ماسينيون الذي زار الجزائر عام 1901، والمغرب عام 1904، زار أيضاً بغداد في عام 1907، وتجوَّل في مناطقها، وبقي في العراق حتى اكتشف (قصر الأخيضر) عام 1908 على هامش زيارته إلى مدينة الكوفة التاريخية، وخرج من تلك التجربة الثرية بكتابه «خطط الكوفة وشرح خريطتها» الذي يعد دراسة وافية عن مدينة الكوفة منذ تأسيها. علماً أن فكرة رسم معالم مدينة الكوفة في خريطة ما كان قد استأثر باهتمام المستشرق الألماني يوليوس ولهاوزن (1844 - 1918)، وكذلك المستشرق البلجيكي هنري لامانس (1862 - 1937) قبل ماسينيون. كل ذلك يؤكِّد بأن علماء المشرقيات، ماسينيون أو ولهاوزن أو لامانس أو غيرهم الكثير، تمكَّنوا من بناء معرفة مناطقية عن دول الشرق العربي الإسلامي هي اليوم تمثل أرضية معرفية للآداب المناطقية التي قد تكون النوايا وراءها معرفية صادقة أو قد تكون منطلقة من نوازع استعمارية إمبريالية أو شوفينية قومية أو دينية متطرَّفة، لا سيما أن بعض المستشرقين كان زبوناً لدى الإرساليات التبشيرية المسيحية أو اليهودية العاملة في منطقة الشرق الأوسط خلال قرون عدّة ماضية، وهي آداب تعد اليوم مرجعية فكرية وثقافية ومعرفية وأدبية ثرية البناء والتكوين من حيث قيمتها التاريخية. رحلات وسرديات يعدُّ أدب الرحلات شكلاً آخر من أشكال (الأدب المناطقي)، بل هو الأقرب إلى أنطولوجيا المناطقية مقارنة بغيره من أشكال التعبير الجمالي. ومنذ (رحلة جلجامش) في العالم القديم أخذ البشر يتوافرون على نصوص تعنى بالمكان. وكان العرب والمسلمون، ومنذ القرن الثالث الهجري، قد عرفوا هذا النوع من الآداب مثل رحلة السيرافي إلى المحيط الهندي، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز، ورحلة المسعودي، ورحلة والمقدسي، ورحلة الإدريسي الأندلسي، ورحلة البيروني، ورحلة ابن جبير، ورحلة ابن بطوطة، ورحلة لسان الدين الخطيب، وغير ذلك من الرحلات الكلاسيكية التي كانت موروثاً مهماً أمام الرحالة في العصر الحديث، والتي تنبه إليها بعض الرحالة الغربيين والأوروبيين الذين غامروا برحلاتهم إلى الشرق والغرب، وعادوا بنصوص تنتمي اليوم إلى الأدب المناطقي، فالرحلة تقصد المكان بكل حمولاته الاجتماعية والثقافية والجمالية والأدبية والحضارية والعرقية، لكنها أيضاً تقصد غايات مرتبطة بذات الرحالة وأهدافه، ومن هنا يأتي توصيف المكان بناء على نوازع جهوية في أحايين عدَّة، وهو ما نجده في رحلات كثيرة قام بها رجال سياسة وعسكر إلى مناطق متنوعة بالشرق العربي الإسلامي خلال أكثر من خمسة قرون مضت. وهو التراث الذي تنبه له أحد المشروعات الثقافية المهمة التي ظهرت في منطقة الشرق الأوسط ذلك هو مشروع (ارتياد الآفاق) في أبوظبي، حيث قدَّم نصوصاً رحلاتية كثيرة عكست اهتماماً منقطع النظير بجماليات المكان ومناطقه المسرودة، والتي كان بعض الرحالة فيها يرتكز على منطلقات رومانسية احتفائية، بينما غيره كان يكرس نمطاً من أنماط المركزية الغربية والأوروبية التي تنظر إلى الأمكنة الشرقية والعربية والإسلامية، موضوع الرحلات، بأنها هوامش نائية يسودها نمط الإنتاج الآسيوي للعيش والحياة. إلى جانب تلك النُّصوص الرحلاتية التي نهض بها مستعمرون صوَّروا المكان العربي بأنه عبارة عن مناطق مأهولة بأنماط عيش تغلب عليها الأنا العرقية، ويسودها التعبير الهوياتي المنغلق على نفسه، وتقديم تنميط الشخصية العربية بوصفها الكائن الباحث عن لذائذ العيش بأسهل الطرق، بل الكائن الذي يحمل في جعبة وعيه رغبة حميمية من الكراهية للآخر المختلف. في حين تكاد النُّصوص الرحلاتية المعكوسة، أي تلك النُّصوص التي كتبها عرب ومسلمون سافروا إلى البلدان الأوروبية والأنجلوسكسونية، تكاد تخلو من تلك النزعة العنصرية تجاه الآخر المختلف سوى القليل، ولنا في رحلة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» مثالاً على ذلك الانفتاح الحر الخالي من ضغائن الكراهية للآخر المختلف، فكان نص الطهطاوي أنموذجاً لأدب مناطقي نظيف النوايا بينما حفل تاريخ بعض الرحلات الغربية والأوروبية بنوايا تعج بصور الكراهية المنطلقة من أنا متعالية توثبها المركزية الغربية والأوروبية. على الرغم من اعتبار كل النُّصوص الروائية تتوسَّل مكانية معينة في كونها الروائي الذي تجري فيها الأحداث، إلا أن بعضها يقصد مكانية معينة كما هو حال رواية الطيب صالح (1929 - 2009) «موسم الهجرة إلى الشمال» التي ظهرت في عام 1966، حيث العنوان، وبوصفه دالاً إبداعياً عربي الهوية، يُحيل على دلالة (الأدب المناطقي) كون أحداث الرواية تنطلق من السودان صوب الغرب المختلف لتعود وتنتهي إلى مكان الانطلاق (السودان) الذي «يرزح تحت أعباء موروثه الاستعماري» كما يقول إدوارد سعيد (6). بعد عشر سنين، صدرت رواية «شرق المتوسط» للروائي عبد الرحمن منيف (1933 - 2004)، ويكشف العنوان بنحو صريح على مكانية مسرودة هي (شرق المتوسط)، حيث الحالة المزرية التي يعشها بطل الرواية (رجب)، ذلك السياسي الذي خرج من وحل الدمار الاستعماري ليسقط في وحل آخر هو وحل الدولة الوطنية المستبدة بحزبها الواحد حتى يُرمى كجثة مقتولة أمام منزله في كيس قذر. رواية «شرق المتوسط» هي تكريس جمالي لأدب مناطقي سياسي سار في ركبها عدد كبير من الروايات التي تناولت القضية ذاتها ولكن بسبل سردية متعدِّدة لم ترتق المناطقية فيها إلى مستوى العنوان إنما كانت ثاوية في برنامجها الحكائي مع استثناءات صارخة كرواية جمال الغيطاني «حراس البوابة الشرقية» التي جاءت صدى لحرب الخليج الأولى، وكرَّست رؤية مناطقية ذات روح أيديولوجي قومي مُصاغ بأسلوب سردي روائي. إغواء الهوية لقد شهدت مرحلة سبعينيات القرن العشرين عودة حثيثة إلى الماضي حتى نضَّدت مجموعة من المشروعات الفكرية لدى ميشيل عفلق، والطيب تيزيني، وحسين مروة، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وغيرهم من المفكِّرين العرب في محاولة منهم لإعادة بناء حالات الأهل والجماعة والديار والمحلية والهوية الذاتية وفق منظورات ثقافية وفلسفية لم تكن تخلو من ميول جهوية لدى محمد عابد الجابري خاصة والتي أحيت بموجبها ثقافة المشرق الروحاني مقابل المغرب العقلاني، وهي رؤية فتت المشهد الثقافي العربي إلى جغرافيتين فكانت مؤشراً مناطقياً لاذع الأثر في بنية الفكر العربي. في تلك الأثناء، وعلى الضفة الأخرى من العالم، تعالت أصوات النزعة الكونية وهي تتوسَّل العولمة طريقاً لها، فمنذ عام 1964 كان الفيلسوف الفرنسي من أصل يوناني كوستاس أكسيلوس (1924 – 2010) قد تحدَّث عن (فكرة الكوكبية) وجد معطياتها في التقنية الكوكبية، والاقتصاد الكوكبي، بل رأى أن «التقاليد جميعها تُوحَّد في قلب العصر الكوكبي» (7). راحت تلك الأفكار تنعكس في عدد لا حصر له من النُّصوص الروائية التي راحت تتأثر ضمناً بهدير تلك الفكرة؛ فالمناطقية المسرودة لم تعد محلية بل كوكبية التكوين، تكوين مفتوح الروح على ضفاف غير نهائية، وصار العالم منطقة واحدة، ما يعني أن المناطقية بدت عرضة لمحيطها الكوكبي أو العالمي، وأن الكونية بدت تضرب آفاق العالم وسط اعتقاد بأن قيماً مشتركة صار الجميع يعترف بها، إلاّ أن ذلك لم يستمر رغم إقبال العالم على المشاركة في كوكبية عالمية واحدة، فما أن حلت نهاية الثمانيات حتى انفرط عقد جديد بظهور نظرية نهاية التاريخ لدى فرنسيس فوكوياما، ومن ثم صعود نجم نظرية صدام الحضارات لدى صموئيل هنتنغتون، فضلاً عن نظرية عالم ماك لبنيامين بابر، فهؤلاء المفكِّرون كشفوا عن خطاب فلسفي حطَّ من كرامة الكوكبية والكونية والعالمية بانتصارهم لمركزية كونية أميركية تقود العالم إلى هاوية التمركز الآثم، ما يعني العودة إلى مناطقية كونية أكثر تمركزاً من ذي قبل، واستعادة جديدة لمشروع استعماري إمبريالي جديد كانت نظرية صدام الحضارات الأكثر خطورة فيه؛ فمن أجل إحلال أنموذج لمركزية غربية جديدة، لا بدَّ من إرجاع العالم إلى ينابيعه الهوياتية الجزئية؛ لا بدَّ تفتيت العالم إلى هويات جزيئة متصارعة، هويات مناطقية متصادمة بالنار والبارود والحديد، وتالياً بالمفخخات وبشتى سبل القتل البشعة، وهو ما جرى بالفعل في مناطق عدَّة بالعالم، تعود أدراجه إلى الحرب الأهلية في لبنان، وكذلك إلى دول المعسكر السوفييتي المنحلة، وتالياً في العراق الذي يتهالك، حيث دعوات المناطقية والإقليمية التي تنامت بعد عام 2003 كدعوى الزعيم الديني الراحل عبد العزيز الحكيم (1950 - 2009) الذي سعى لإقليم في جنوب العراق وفق أسس مذهبية دينية يقابله رغبة الأكراد في شمال العراق الاستقلال بدولة مناطقية وفق أسس عرقية، وبالتالي حالات الانفصال المماثلة في السودان، ودعوات أخرى مماثلة تحث الخطى لوضع أصولها الهوياتية المناطقية أمامها لتقودها في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من البلدان العربية حتى أصبح العرب بإزاء ثقافة مناطقية باتت تتغلغل في الوجدان المجتمعي العربي، وصارت تنعكس على الحراك الأدبي تباعاً. طفولة الأصل إن تحويل المناطقية إلى إرادة سياسية عملية صار ينعكس على الوعي الجمالي لدى شعوب المنطقة، وصار البحث عن المكان يكتسب مزية هوياتية، ففي عام 2009 أصدر الدكتور لؤي حمزة عباس كتابه «المكان العراقي.. جدل الكتابة والتجربة» عن معهد الدراسات الاستراتيجية في بيروت، ضمَّنه كتابات بأقلام من القصاصين والروائيين والشعراء والرسامين والنقاد والباحثين والمهندسين المعماريين العراقيين كان الهدف منه استجلاء جذوة المكان في مخيالهم الجمالي والمعرفي والفكري، إلاّ أن تلك الضميمة من الرؤى تستبطن موقفاً من المكان بوصفه مناطقية، لا سيما أن بعض ممن كتب في هذا الكتاب عاد إلى العراق بعد غياب، وشهد مستوى التغييرات التي طرأت على المكان الذي أصبح دالاً هوياتياً؛ يقول حسن ناظم عن مدينته (النجف) التي جاءها بغد غياب بالمنافي: «المدينةُ كتابُ علامات، لكنها أيضاً فضاءُ تطاحُن»، ويضيف: «سيميائياً، تعيش النجف اغتراباً مركباً أمام ثنائية الصدر- الحكيم». ولعل هذا التوصيف يعكس حالة من الوعي المناطقي المذهبي الضاج بهوية ما جرى بعد عام 2003، حيث المذهب الديني يمثل أساساً مناطقياً في عراق جديد يُراد له أن يكون ديمقراطيا تعددياً. نبقى في العراق الذي يشهد تمزقاً اثنيا ومذهبياً فادح الأثر، فالمواجهات الطائفية في العاصمة بغداد تتنازعها صراعات طائفية انعكست في روايات عدّة، ولعل رواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد» تعدو تكريساً سردياً لمناطقية جديدة أملتها طائفية مذهبية ودينية وليدة في المجتمع العراقي الجديد حيث منطقة (البتاويين) التي يقطنها يهود ومسيحيون فروا من البلاد حتى استحالت إلى منطقة عنف ديني ومذهبي ومناطقي، ومرتعاً لعصابات الجريمة المنظمة التي تعيش على أزمنة الفوضى المحلية. ليس بعيداً عن ذلك ما أتى به سنان أنطون في روايته «يا مريم» التي تتصدّى لتسريد حالة المسيحيين الفارين من جحيم الحصار الدولي الجائر الذي ضُرب على العراق بعد عام 1991 والأمكنة التي تركوها، تلك التي أصبحت مكانية غامة تشي بفراغ هائل خلَّفه رحيل الأقليات الدينية العراقية عن وطنهم غائر القِدَم. عندما أصدر القاص والروائي العراقي محمد خضير روايته «سيرة مدينة بصرياثا» عام 1993، كان الحنين إلى مكانية الأصل منحنى رومانسي الغاية، وهو منحى هوياتي في ظل الدمار الشامل الذي تعرضت له مدينة البصرة إثر عملية تحرير الكويت، وغياب ملامحها المعاصرة ما دعاه إلى إحياء صورتها التاريخية غائرة القِدم في هذا العمل الروائي المميز. وعلى هذا الغرار الرومانسي، راحت بعض الروايات الإماراتية تستجلي مكانيات ذات أفق مناطقي كما هو الحال مع رواية أسماء الزرعوني «شارع المحاكم» التي صدرت عام 2011، حيث العودة إلى زمن مناطقي تحسبه مسارات الكون الحكائي في هذه الرواية آسر الحضور (8). بينما سارت لولوة المنصوري في روايتها «آخر نساء لنجة» الصادرة عام 2013 صوب مكانية مسرودة قد تبدو ذات مرجعية رومانسية لكنها تستبطن أيضاً ميولاً هوياتية تتعلق باستحضار الجذور السلالية للراوية، وربما الناصَّة أيضاً، كتجربة احتفائية ذاتية (9). وفي الوقت الذي تكرس مريم الغفلي في روايتها «نداء الأماكن» الصادرة عام 2013 مكانية منزاحة شعرياً بحسب عنوان الرواية وعلاقتها بالمبنى الحكائي، تذهب ريم الكمالي في روايتها «سلطنة هرمز» الصادرة عام 2014، إلى مناطقية تاريخية يحكمها متخيَّل تاريخي سردي يحتفي هو الآخر بما أصلاني (Native) أو هوياتي. إن مثل هذه النُّصوص السردية المتخيَّلة وغيرها الكثير مما تم تأليفه بعد حرب الخليج الثانية، وبعد حادث الحادي عشر من سبتمبر، وبعد التغيير الجذري في العراق 2003، وبعد الأحداث في تونس وليبيا والسودان ومصر واليمن، نفضت يدها من كونية بالية، وكوكبية زائفة، وعالمية معطوبة؛ نفضت يدها من كل ذلك ليعود المخيال البشري إلى مكانية الذات، وإلى أصلانية (Nativism) الهوية المناطقية لإعادة تمثيل طاقتها على نحو شوفيني مرَّة، ورومانسي مرة أخرى للهروب من جحيم كونية وكوكبية وعالمية تخلَّت نماذجها الكبرى عنها منذ نهاية الحرب البادرة عام 1989 لتتحطَّم أسطورة عالم ماك، وترتدي أسطورة نهاية التاريخ عباءتها المخرومة لتهوي بها الريح، وحدها سردية صدام الحضارات أتت معادلاتها الموضوعية بالنار والبارود، حيث انتعشت الجهويات الدِّينية والعرقية والمناطقية والمحلية، وصعود نبرة الولاء (Devotion) لنجمها في أفق المعمورة التي تتمزَّق إلى أصولها المناطقية، وتنهل من ينابيع مرجعياتها المتفرِّدة بكل حمولاتها الثقافية التي تكوَّنت منها عبر التاريخ لتعود البشرية إلى طفولة العرق والمنطقة والمذهب الدِّيني لترى فيها مرآة ذواتها التي جرَّبت التيه في ممارسات كوكبية وكونية وعالمية بلا جدوى سوى الشعور بالخيبة والخسران مما يجري والدماء مُراقة على قوارع الطرق مُنذرة بأهوال كارثية لغد عاتم. الهوامش (1) إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، ص 196، دار الآداب، بيروت، ط 3، 1988. (2) المصدر نفسه، ص 196. (3) المصدر نفسه، ص 198. (4) المصدر نفسه، ص 225. (5) جوزيف كونراد: قلب الظلام، ترجمة: مدحت طه، ص 20، وزارة الثقافة، القاهرة، 2014. (6) إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، ص 269. (7) انظر: (جيرار ليكلرك: العولمة الثقافية/ العولمة على المحك، ترجمة: جورج كتورة، ص 485، الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004). (8) انظر كتابنا: (اللمس والنظر، ص 159 وما بعدها، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2013). (9) انظر كتابنا: (شعرية المؤدّى السردي، ص 15 وما بعدها، ندوة الثقافة والعلوم، دبي، 2014). المناطقية في الأدب هي جُملة الممارسات التعبيرية الفكرية والأدبية التي تركز نظرها على تصوير خصائص منطقة مجتمعية عرقية أو ثقافية الشرق والغرب ستبقى مقولة الشاعر الإنجليزي جوزيف روديارد كيبلينغ (1865- 1936): الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، علامة على نمطية التفكير الغربي، الكولونيالي الطابع، حول العلاقة بين الشرق والغرب. علماً أن كيبلينغ ولد في الهند البريطانية. من أهم أعمال كيبلينغ «كتاب الأدغال» 1894، ومجموعة من القصص، تحوي قصة «ريكي تيكي ري?ي»، و»قصة كيم» 1901 و»عبارة عن مغامرة». وكما ألَّف العديد من القصص القصيرة، منها «الرجل الذي أصبح ملكاً» 1888. ولكيبلينغ العديد من القصائد، مثل: «قصيدة مندالي» 1890 و»قصيدة جانجا دين» 1890 و»قصيدة إذا». في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قال عنه هنري جيمس: «لقد هالني كيبلينغ بعبقريته الفياضة التي لم أشهد لها في الحياة مثيل». حصل هذا الكاتب على جائزة نوبل في الأدب سنة 1907 وبذلك يكون هو أصغر حائز على جائزة نوبل، وأول كاتب باللغة الإنجليزية يحصل عليها. تغيرت سمعة كبلينغ مع مرور الوقت مع تبدل الأحوال السياسية والاجتماعية ونتيجة لذلك تفاوتت الآراء من حوله في القرن العشرين. أطلق جورج أوريل عليه اسم «نبي الإمبراطورية البريطانية» غير أنه اعترف لاحقا باحترامه البالغ لكيبلينغ ولأعماله. من أبرز أقواله: إذا أردتم ملاقاة شخص ما عرفتموه وهو دائم السفر، فهناك مكانين على الكرة الأرضية يتيحا لكم ذلك، حيث عليكم الجلوس وانتظار وصوله عاجلا أو آجلا وهما: موانئ لندن وبورسعيد. العنصرية البيضاء نبعت روايات الأديب البريطاني البولندي الأصل جوزيف كونراد، من البحر، وهو يرويها بلسان بحار عجوز اسمه مارلو، ومن أهمها: «قلب الظلام»، «العميل السري»، «النصر»، «تحت عيون غربية»، و»لورد جيم». وعلى الرغم من اتساع المدى الذي تعيش فيه قصصه (البحر) إلا أنها تضج بما سمي «العنصرية البيضاء»، والتي يرجعها البعض إلى الروح العميقة للقومية المكبوتة في بولندا التي كانت تسيطر عليها روسيا، وإلى حدّ ما الإمبراطورية النمساوية وبروسيا لأكثر من 60 عاماً حتى لم يبق لها وجود كأمّة في حقيقة الأمر. وبحسب قراءة إدوارد سعيد ل «قلب الظلام» فإن كونراد يجعلنا نحس أنه يحاول أن يخرج من الدائرة التي وضع نفسه فيها، ليصل بنا إلى واقع ملموس خارج الوصف البشع للاستعمار الذي ينشغل به ذلك الواقع، الذي يمكن في الوقت نفسه أن يكون مناهضاً للاستعمار ذاته. بدأ كونراد حياته بحّاراً في الأسطول التجاري الفرنسي وهو ابن السادسة في مدينة «مرسيليا»، بعدما تم تهجير والديه من بولندا»، وكاد يموت بطلق ناري، غير أن الغالب في حياة هذا الرجل الذي يشبه إلى حدّ ما الأميركي أرنست همنغواي من حيث علاقتهما بالبحر أنه عاش للكتابة وفي صميم الكتابة إلى آخر رمق في حياته، وكان دقيقاً، كما لو أنه معماري، في بناء رواياته. ولد كونراد عام 1857 وتوفي عام 1924 بنوبة قلبية وترك 13 رواية و28 قصة قصيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©