الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر يرقص بألف قدم

شاعر يرقص بألف قدم
1 نوفمبر 2012
هو جيلبرت كايث شاسترتون. ولد في لندن يوم 29 مايو1877، وفيها توفّي يوم 4 يونيو 1936، وهي نفس السّنة التي اندلعت فيها الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وفيها قتل فريديريكو غارسيا لوركا، وتوفّي الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوّا. وهو صحافيّ لامع اشتهر بالسّخرية اللاّذعة، والدّعابة السّوداء، والقدرة الفائقة على إتقان فنّ الجدل. لذا كان خصومه وأصدقاؤه من الكتاب والمفكّرين من أمثال برتراند راسل، وأورسون ويلز، وجورج بارنارد شو، وكلارنس داروو، يهابونه ويخشونه أشدّ الخشية. وكان أيضا شاعرا فذاّ، وكاتبا مرموقا، ومفكّرا سياسيّا نافذ البصيرة في مختلف القضايا، خصوصا منها تلك المتّصلة بالعلاقة بين الدّين والسياسة. وقد لقّب شاسترتون بـ”أمير المفارقات” لجمعه بين المتناقضات. به تأثر العديد من كبار الكتاب في القرن العشرين. وكان بورخيس يصفه بـ”المعلّم الكبير”. عنه كتب يقول: “أسلوب شاسترتون رشيق، ساخر، نزق، ودائما مدافع عن الخيال”. حسونة المصباحي كما اشتهر شاسترتون بمواقف، وبأقوال لا تزال تجري على ألسنة الناس إلى هذه السّاعة. من بين هذه الأقوال: “اللّصوص يحترمون الملكيّة. وهم يريدون فقط أن تكون هذه الملكيّة، بعد أن تصبح لهم، أكثر حماية واحتراما”. ومتحدّثا عن المشهد السياسي في بريطانيا، كتب يقول: “العالم منقسم بين محافظين وتقدّمييّن. ودور التقدميين هو مواصلة ارتكاب الأخطاء. وأمّا دور المحافظين فيتجلّى في تجنّب عدم إصلاح تلك الأخطاء”. ومعرّفا الإنسان السّليم، كتب يقول: “الإنسان السّليم هو الذي له قلب تراجيديّ، وعقل كوميدي”. كما كتب يقول: “كلّما تقدّم الزّمن، ازداد النّاس تأخّرا”، و”أبدا لم يضع النّسر الكثير من وقته إلاّ وهو يستمع إلى الغراب”، و”الذي لا إشراقة في وجهه ليس بمقدوره أن يصير نجمة”... جبل بشري وكان شاسترتون فارع القامة يكاد طوله يبلغ المترين. وكان يزن 130 كلغ! مرّة التفت إلى صديقه اللدود جورج برنارد شو الجالس بجانبه، والذي كان نحيلا، وقال له: “الذي يراك يمكن أن يعتقد أن هناك مجاعة في بريطانيا”. ضاحكا ردّ عليه شو قائلا: “والذي يراك يدرك أنك أنت السّبب في هذه المجاعة”. وذات مرّة وصف جورج برنارد شاسترتون قائلا بأنه “جبل بشري، هائل الحجم جسديّا وثقافيّا إلى ما بعد الحدود القصوى للتصوّر. وهو يكبر أكثر حين يعاين أن الناس ينظرون إليه”. وكان شاسترتون يتجوّل في لندن، ويذهب إلى الحفلات، وإلى المسارح، وإلى النّوادي من دون أن تفارقه قبعته وعصاه التي لها شكل سيف، والسيجارة التي لا تكاد تفارق شفتيه. منه استوحى الكاتب جون ديكنسون كار شخصيّة المفتّش غيدون فيل في رواية بوليسيّة اشتهرت كثيرا في زمنه. وفي كتاب صدر في ريع هذا العام (2012) تحت عنوان: “ستوديو عدم المنفعة”، خصّص الكاتب والمفكّر البلجيكي سيمون لايس دراسة بديعة لكايت شاسترتون، تناول فيها بالتحليل شخصيّته الفريدة، وعالمه الأدبيّ. وقد ولد سيمون لايس، واسمه الحقيقي بيار ريكمانس، في بروكسيل عام 1935. وبعد أن أكمل دراسته في تاريخ الفن، انطلق إلى الصّين التي كان مفتونا بها منذ سنوات الطفولة لينشغل بحضارتها القديمة، وبفنونها وآدابها، وعنها أصدر العديد من الكتب التي باتت راهنا مراجع أساسيّة في هذا المجال. وفي مقدّمة كتابه الجديد “ستوديو عدم المنفعة” الذي احتوى على العديد من الدراسات المتّصلة بمجالات مختلفة، روى أنه، وهو طالب “فقير وجاهل”، أمضى سنتين في غرفة حقيرة في أحد أحياء هونغ كونغ الفقيرة، تقاسمها معه ثلاثة من أصدقائه الطلبة. وعلى جدار تلك الغرفة، كان مكتوبا بأحرف غليظة: “ستوديو عدم المنفعة”. والعبارة تحيل الى كتاب صينيّ قديم فيه جاء أن “تنّين الرّبيع عديم المنفعة”. ويشير سيمون لايس إلى أنه اختار هذه العبارة لأنها تذكره بتلك السنوات “السّعيدة والمفعمة بالاكتشافات”، حيث كانت “الدّراسة والحياة مختلطان، ولهما فوائد جسيمة”. وفي دراسته، يرى سيمون لايس أنّ شاسترتون كان شاعرا بالأساس انطلاقا من أن الشعر ليس أوزانا وقواف، وإنّما هو “شيء آخر أشدّ عمقا وجوهريّة”. فهو “التمسك بالواقع”، وهو يسمّي أشياء العالم المرئيّ بأسمائها. من هنا يمكن القول أنّ أعظم القصائد التي كتبها شاسترتون توجد في نصّه الذي حمل عنوان: “روبنسون كروزو”، والذي فيه استعرض قائمة بأسماء الأدوات التي أتاحت لكروزو النجاة من الغرق. وهي على النّحو التّالي: بندقيّتان، فأس، ثلاثة سيوف، منشار، ثلاث قطع من الجبن الهولّندي، خمس قطع من لحم الماعز الجافّ. بتقديمه لقائمة الأدوات هذه، يعرّف لنا شاسترتون بحسب سيمون لايس الشّعر بأنه يحددّ “علاقتنا مع العالم الخارجي، وهو خطّ الحماية الذي عليه يتوقّف بقاؤنا على قيد الحياة”، بل إنه في ظروف معيّنة “آخر معقل لصحّتنا العقليّة”. الحضور والعجز ويشير سيمون لايس بأنه من الخطأ الاعتقاد بأنّ شاسترتون كان غائب الذّهن عن معضلات عصره، مظهرا عدم الإهتمام بها، وغير مدرك للجوانب المعتمة في حياة الناس من حوله، مفضّلا الانصراف إلى العبث، واللّهو الجميل، ضاحكا زاهيا في المحافل، وكأنه غير معنيّ بالزّوابع والعواصف التي تهزّ العالم، والكوارث التي تتهدّد الإنسانيّة جمعاء. والحقيقة أن شاسترتون كان واعيا بكلّ هذا، وعارفا بكلّ المخاطر، وبكل الفواجع. لكنه كان مدركا أيضا أنه عاجز عن مواجهة ما يحدث. لذا كان يلجأ إلى الضحك والسّخرية لتحمّل المرارة التي تسكنه، والتّخفيف من حدّة الألم الذي يعصره. وهذا ما لمسه كافكا بعد أن قرأ روايته التي حملت عنوان: “الرجل الذي يدعى الخميس”. ولعلّ ذلك يعود إلى أن هذه الرّواية التي تجلّت فيها فنّيات شاسترتون العالية، تخلّلتها كوابيس تشبه كوابيس صاحب “المحاكمة”. ويروي سيمون لايس أن شاسترتون وجد نفسه في أوّل شبابه، وهويعيش حياته حالما سعيدا، ضحيّة أوّل تجربة مع الشّرّ. الشرّ لا كتهديد آت من الخارج، وإنّما كواقع روحيّ يسكن في قلب وعيه، وفي أعماق نفسه. ومنذئذ، دأب شاسترتون على استكشاف ذاته، وعلى التمعّن في حياته ليستعرض في ما بعد خلاصة تجربته الرّوحيّة تلك في أثره الرّائع عن توماس الأكويني. ومجمل ما جاء في خلاصة تلك التّجربة أنّ المسيحيّة عكست الاعتقاد الأفلاطوني القديم الذي يقول بأنّ العالم الماديّ هو السّيّئ. أمّا العالم الرّوحاني فصالح وطيّب. والواقع أن العكس هو الصّحيح. فاللّه حين خلق العالم، نظر ليعاين أن كلّ شيء خلقه حسن وصالح ومفيد. لذلك يمكن القول أنه “ليس هناك أشياء سيّئة، وإنّما يوجد فقط استعمال سيّئ لتلك ألأشياء. أو الأحرى بنا أن نقول بإنه ليس هناك أشياء سيّئة، وإنّما هناك أفكار سيّئة، ونوايا سيّئة بالخصوص”. ويشير سيون لايس إلى أن شاسترتون عاش تجربته الرّوحيّة تلك بعمق بالغ حتى أنه لامس الجنون. ولم يجد خلاصا من ذلك إلاّ بفضل الشّعر. ومن هذا الجانب، هو يقترب كثيرا من المفكّرين الصّينييّن القدامي الذين عاشوا قبله بآلاف السّنين، أي معلّمو “الزّان” الذين كانوا يعتمدون على الفنون، وعلى المفارقات، والألغاز لتبليغ أفكارهم للآخرين. وهي أساليب تعلّم الإنسان الطرق التي عليه أن يتوخّاها في علاقته مع الواقع، والتّمسّك به تماما مثلما فعل روبنسون كروزو الذي حافظ على حياته لاحتفاظه بالأدوات المذكورة. ويصف سيمون لايس شاسترتون بأنه “شاعر يرقص بألف قدم” مثل بطل إحدى رواياته، الذي يدعى “سانداي” (الأحد)، وهو عملاق مشاغب، وحالم، ومراوغ. ثمّ يضيف قائلا: “عندما نقرأ شاسترتون اليوم، فإنّنا نجد أنفسنا دائما مذهولين أمام صحّة أفكاره، وآرائه الواردة في العديد من تحاليله. كما نقف على القيمة العالية لتنبّؤاته بشأن العديد من الأحداث والتّحذيرات، رغم إنها تعود إلى مائة عام خلت. ولا تزال كتاباته تعكس قضايا حاضرنا عكس كتابات المعاصرين له”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©