الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسرحية برلسكوني... ولحظة إسدال الستار

مسرحية برلسكوني... ولحظة إسدال الستار
13 نوفمبر 2011 23:31
يبدو أخيراً أن الستار بدأ يسدل نهائياً على واحد من أغرب وأطول المسرحيات المعروفة في العالم، إنه المشوار السياسي لسيلفيو برلسكوني الذي هيمن على الحياة الإيطالية على مدى 17 عاماً، في الوقت الذي قام فيه بلعب عدد مذهل من الأدوار والمهام: رئيس إمبراطورية إعلامية، مالك فريق لكرة القدم، رئيس وزراء، مدافع عن المجرمين، و"زير نساء" لعوب طبقت شهرته الآفاق. برلسكوني، والذي يعد إضافة إلى ذلك، خبيراً مذهلا في التسويق وساحراً إعلامياً بارعاً، صعد إلى السلطة بعد أن أوهم الجماهير الإيطالية بقدرته على رخاء اقتصادي غير مسبوق، حيث وصف نفسه ذات يوم بأنه "أفضل رئيس وزراء" وكذلك بأنه أعظم زعيم في العالم كله. وعليه، فربما يبدو من المناسب أن يغادر برلسكوني الخشبة الآن، وهو الذي وعد بالكثير ولم يحقق سوى القليل، تاركاً وراءه مشهداً من الخراب المالي والأخلاقي في وقت بات فيه بلده على حافة الإفلاس والانهيار الاقتصادي. برلسكوني، الذي يعد أول قطب إعلامي يدير بلداً، كان وفياً للمبدأ الذي يقول بأن التصور هو الواقع: أي أنك إذا جعلت الناس يعتقدون شيئاً، فإن ذلك الشيء يصبح حقيقة. لكن الواقع تدخل لينفي هذه الإطروحة السقيمة: سنوات من الركود الاقتصادي الفعلي، ومن الإصلاحات الموعودة التي لم تر النور مطلقاً، إضافة إلى ديْن وطني يتجاوز 120 في المئة من الناتج الداخلي الخام، وأخيراً، معدلات فائدة خارجة عن نطاق السيطرة. والواقع أن التصور أساسي بالنسبة للأسواق المالية، إلا أنه وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون (أي التصور) مربوطاً ببعض الحقائق الاقتصادية الأساسية. وهكذا، فشل رجل الثقة السياسية هذا لأنه فقد ثقة الأسواق المالية ودوائر القرار الأوروبية. وفي السنوات القليلة الماضية، أضحى اسم برلسكوني مقروناً بالفضائح الجنسية والمالية، وذلك بسبب صولاته وجولاته اللامحدودة مع النساء، وحفلاته الماجنة في القصر الرئاسي، ومغامراته مع عاهرات وفتيات قاصرات من كل جنس ولون، وسلسلة من المحاكمات الإجرامية، وقضايا الفساد المختلفة والمتنوعة والكثيرة. كما أدلى برلسكوني بتصريحات قليلة الذوق ومثيرة للجدل في مناسبات دولية، حيث أشار في إحداها إلى الرئيس الأميركي المنتخَب باراك أوباما ناعتاً إياه بالرجل الذي أخذ سمرة بعد حمام شمس على الشاطئ، وافتخر في تصريح آخر باستعمال مهاراته مع النساء في انتزاع تنازلات من رئيسة فنلندا! كل هذا جعل الأجانب يميلون إلى الابتسام، وهز رؤوسهم والقول: "يحصل هذا فقط في إيطاليا!". غير أنه إذا كان برلسكوني نتاجاً نموذجياً لجانب من جوانب الحياة الإيطالية، فإن هذا التفسير البسيط يغفل شيئاً مهماً. ذلك أن برلسكوني شخصية رجعية تجسد الفساد على النمط القديم، والتمييز على أساس الجنس، والثقافة الذكورية. ولكنه في الوقت نفسه صنيعة سياسية حداثية بالكامل، بل ما بعد حداثية. فالمال والشهرة والترفيه الخالص... كلها جزء من السياسة في كل مكان. ولأنه يعمل في بلد حيث لا يوجد تطبيق صارم لمبدأ فصل السلطة ومراقبة بعضها لبعض، استطاع برلسكوني أن يزاوج بين ثروة بيل جيتس الطائلة، واحتكار روبرت مردوخ الإعلامي، وشهرة آرنولد شوارتزينجر، مخلوطة بالسيطرة على البيت الأبيض وكلا مجلسي الكونجرس... ليصبح السياسي والإمبراطور الإعلامي المهيمن في القرن الحادي والعشرين. لقد تأتى لبرلسكوني نجاح استثنائي عبر استخدام نظام سلطة قديم لأشكال جديدة من التواصل السياسي. ومنذ دخوله عالم السياسة، وصل اثنان من مالكي وسائل الإعلام إلى السلطة في بلدين آخرين، هما تايلاند والشيلي. وقد اتبع الرئيس الشيلي سباستيان بينييرا طريقة برلسكوني بحذافيرها تقريباً، حيث ترأس إمبراطورية تلفزيونية، واشترى حصة كبيرة في ناد رياضي لكرة القدم. مشوار برلكسوني السياسي انطلق في وقت كانت قد بدأت فيه الحرب الباردة والأيديولوجيات التي كانت سائدة خلالها تختفي. كان الحزب الديمقراطي المسيحي وحلفاؤه، بمساعدة من الكنيسة الكاثوليكية، قد حكموا إيطاليا على مدى 45 عاماً، وحافظوا على الحزب الشيوعي خارج السلطة. لكن، ومع اختفاء الشيوعية، فقد هذا التحالف الكثير من أسباب وجوده، وأصبح الفسادُ الذي كان يتم التسامح معه باسم محاربة الشيوعية، فجأة، يبدو غير مطاق. وبحلول عام 1993، انحل الائتلاف الذي كان يجمع الديمقراطيين المسيحيين وحلفاءهم الرئيسيين، تاركاً نصف الناخبين الإيطاليين تقريباً بدون حزب سياسي، فسارع برلكسوني إلى سد هذا الفراغ وعرض حماية علاقات المحسوبية السياسية التي كانت قائمة في النظام القديم، وكان هو أحد المستفيدين الرئيسيين منها، لكن بطريقة جديدة. وقد أدرك برلسكوني أن الإيطاليين يهتمون بالرياضة والترفيه أكثر مما يهتمون بالسياسة، فترأس أكبر ثلاث شبكات تلفزيونية خاصة، وامتلك أنجح فريق لكرة القدم في البلاد، وهو "إيه سي ميلان". وأسس حزباً لا أيديولوجيا حقيقية له غير نوع من الوطنية الفضفاضة، واختار له من الأسماء "فورسا إيطاليا"، وهو النشيد الشعبي للمنتخب الوطني لكرة القدم. وفي عام 1994 أعلن ترشحه من خلال شريط فيديو بث على قنواته التلفزيونية أظهره في مكتبته. وباستعمال سيطرته على وسائل الإعلام التي لا تتوافر عادة إلا لرئيس انتهت ولايته ويطمح إلى إعادة الانتخاب، خلق برلسكوني الانطباع بأنه أصبح منذ بعض الوقت زعيم البلاد، ثم سرعان ما تحول هذا الانطباع إلى حقيقة واقعية. غير أنه خلال السنوات التي قضاها برلسكوني في سدة السلطة، كان نمو حصة الفرد من الناتج الداخلي الخام قريباً من الصفر، والأخفض من بين الدول الصناعية الرئيسية. كما انحدرت إيطاليا بكل المقاييس الاجتماعية والاقتصادية الدولية تقريباً: لاسيما وفقاً لمؤشرات التنافسية الاقتصادية، والحرية، والشفافية، وحرية الصحافة، والمساواة بين الجنسين. ومع ذلك، أعيد انتخاب برلسكوني في عام 2008 بأغلبية كبيرة في البرلمان. والواقع أنه كان بإمكانه أن يعيد تنظيم الاقتصاد الإيطالي لو أنه رغب في ذلك، غير أن كل جهوده أثناء تواجده في السلطة، كانت مركزة على حل مشاكل شخصية. فقد أوصل مديري شركته، الذين كانوا متهمين بالفساد، إلى البرلمان حتى يتمتعوا بالحصانة من المتابعة القضائية، وفعل الشيء نفسه مع محاميه حتى يستطيعوا إعادة كتابة القوانين الجنائية وتخليص الجميع من المأزق. ورغم سمعته كرجل أعمال لا يشق له غبار، إلا أن برلسكوني يفتقر للقدرة على المواجهة واتخاذ القرارات المؤلمة، ويسعى إلى حماية شعبيته فوق كل شيء. فعندما بدأت التفاصيل المثيرة لحياته الشخصية تتكشف وتخرج إلى العلن، اقترح قانوناً متشدداً يجعل من شبه المباح إجراء عمليات التنصت على المكالمات الهاتفية، ويجرم نشرها إلا حينما تقدم في محاكمة قضائية. وبالتوازي مع ذلك، خلقت شركاته الإعلامية سلسلة من الفضائح الجنسية والشخصية لزعماء آخرين –باستعمال وسائل كانت ستشكل انتهاكا للقانون نفسه الذي يقترحه– بهدف صرف الانتباه عن مشاكل برلسكوني ذاته. ومرة أخرى، بدا برلسكوني مقتنعاً بأن الأمر إنما يتعلق بمشكلة السيطرة على تصور الجمهور. فحتى الأمس القريب، كان يحمِّل الصحافة الاقتصادية في بلاده مسؤولية الركود في إيطاليا، حيث اتهمها بنشر قصص محزنة تثني الناس عن الإنفاق. لكن، وبعد أن ازداد حال الاقتصاد الإيطالي تدهوراً، تدخلت الحقائق الصلبة لتُظهر للجميع حجم الأزمة التي تتخبط فيها البلاد. وعليه، فحتى في عالمنا ما بعد الحداثي، مازالت الحقيقة مهمة، في بعض الأحيان على الأقل! ألكسندر ستايل محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©