الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

ما هي تحوُّلات الفكر العربي المعاصر؟

24 مارس 2007 01:44
د· رسول محمد رسول: على غرار ما أنتجه الفكر الفلسفي الغربي الحديث، خلال القرون الأربعة الماضية، من رؤى فلسفية وفكرية، كان المفكرون النهضويون والإصلاحيون العرب والمسلمون قد سعوا، في نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، إلى صب رؤاهم الفكرية والإصلاحية في اتجاهات فلسفية وفكرية بدت على درجة عالية من الوضوح الحقلي؛ فكان هناك المفكرون الإسلاميون بمختلف خطاباتهم الذين جعلوا من الإسلام مرجعية فكرية وفلسفية لهم، وهناك المفكرون الليبراليون بمختلف خطاباتهم أيضاً الذين جعلوا من الفكر الوضعي والعَلماني الغربي مرجعية فلسفية وفكرية لهم، وهناك من المفكرين من جمع بين الفكر الديني والفكر العَلماني ليخرج خطابهم الفلسفي والفكري على نحو توفيقي تارة وتلفيقي تارة أخرى· اللافت في أمر كل هؤلاء أنهم اشتركوا جميعاً في تقديم رؤاهم النهضوية والإصلاحية كل واحد حسب أدواته الحقلية؛ فنجد منهم الفقيه، ومنهم الشاعر، ومنهم الناثر، ومنهم السياسي، ومنهم المناضل الثوري، ومنهم الزبون في صالونات التبعية للغرب الكولولينالي، ومنهم من آثر الارتكان إلى هويته الوطنية ليستلهم من عبقها خطابه الفلسفي والفكري والإصلاحي والنهضوي· لقد حفل القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، عربياً وإسلامياً، بنماذج شامخة من أولئك المفكرين العرب والمسلمين، وكانوا جميعاً يشتركون في قضايا بدت مركزية في العصر الذي مثلوه كمثقفين ومفكرين؛ فكانوا يشتركون في قضايا النهضة والإصلاح، ويسعون إلى بلورة أفكارهم ورؤاهم بغية خلاص الأمة من الهجمة الكولولنيالية التي تعرَّضت لها مجتمعاتهم، وفي الوقت ذاته كانوا يرومون إلى بناء بلدانهم العصرية وفق ما كانوا يعتقدون أنه الأمثل والأفضل والأيسر تخلصاً من أمراض وآفات التخلُّف الاقتصادي والمجتمعي والعلمي والسياسي· عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام ،1945 كان المفكرون الغربيون ينظرون إلى ما بقي في العالم من ألم وبؤس جرّاء ما تركته تانك الحربان العالميتان من دمار وجوع وتردٍّ شامل، فمال أغلبهم إلى النظر في الإنسان بوصفه قيمة بشرية نادرة، وهكذا استعادت الفلسفة الوجودية مجدها لدى أتباعها الجُدد في فرنسا، واستعادت الفلسفة الوضعية مشاربها لترى في الإنسان كائناً يحتاج إلى رقمنة وتكميم علمي، في حين استعادت الفلسفة الشخصانية طروحاتها لكي تُعلي من قيمة الإنسان الشخصية، وهكذا صار الفكر الفلسفي الغربي أكثر اقتراباً من الإنسان رغم تعدُّد المداخل إلى عالمه· ولعل الأمر لم يختلف في الوطن العربي؛ فقد عكف المفكرون والفلاسفة العرب بداية النصف الثاني من القرن العشرين على الانخراط في مشهدية الفكر الغربي خلال المرحلة ذاتها؛ فكان المفكِّر العراقي ياسين خليل (ت 1986) رائد الفلسفة الوضعية المنطقية في المشرق العربي، وكان المفكِّر والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1902 ـ 1993) رائد الفلسفة الوضعية المنطقية في مصر وفي بقية بلدان القارة الأفريقية· وكان الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي (1917 ـ 2002) سيد الفلسفة الوجودية في الوطن العربي، في حين كان المفكِّر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922 ـ 1993) إمام الفلسفة الشخصانية في المغرب العربي· وهكذا تمثَّل الفلاسفة والمفكرون العرب أظهر الاتجاهات الفلسفية والفكرية المعروفة في مرحلة خمسينيات وستينيات القرن الفائت· مع بداية سبعينيات القرن العشرين أخذت الاتجاهات الفكرية في الوطن العربي تتحوَّل عن قاماتها العلمية ـ الحقلية المعروفة إلى ما هو جزئي في مسارات الفكر الفلسفي، بل صار التحوُّل عن الفكر الفلسفي إلى الفلسفات الجزئية فرصة مناسبة للنظر فيما صار يفرضه الواقع العربي من إشكاليات فكرية هيمنت عليها البواعث السياسية والاقتصادية والإنمائية أكثر مما هيمن عليها الباعث الفلسفي والفكري المجرَّد؛ فصار ما هو فلسفي رهين ما هو سياسي واقتصادي وإنمائي، لكنه ومنذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات صارت الإشكاليات قيد الجدل والنقاش رهينة لما هو تراثي حتى بدا النظر إلى التراث ضاغطاً على كثير من المفكرين العرب، فصارت أمام المفكِّر العربي قضية أو إشكالية الحداثة والتراث هماً كبيراً، وصار الميل إلى ربط الحداثة بالتراث ملاذاً للنظر والتأمل والأرخنة والأرشفة· لقد فتح كتاب علي أحمد سعيد (الثابت والتحول) الأفق لهكذا نظر، وكان طيب تيزيني، ''ولد في حمص عام ،''1934 قد أصدر كتابه (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ،1971)، الذي عُدَّ بادئة في هذا المجال تمكَّنت من الاستعانة بالمنهجية الماركسية في قراءة التراث الإسلامي، وكان كتاب حسين مروَّة 1908 ـ 1987 (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) قد واصل النهج الماركسي ذاته، وتأثر به عدد غير قليل من المفكرين العرب· وكان كتاب ميشيل عفلق (البعث والتراث ، 1974) قد فتح الطريق جديداً أمام المفكرين القوميين العرب في قراءة التراث العربي الإسلامي، وبعده بسنوات ولد كتاب محمد عابد الجابري (نحن والتراث، 1980) ومن سار على نهجه القومي· وهكذا هيمنت إشكالية الحداثة والتراث أو المعاصرة والتراث على أكثر من مائة مفكر عربي خلال مرحلة السبعينيات والثمانينيات ليصبح النظر في التراث الفكري العربي والإسلامي طريقاً للدخول إلى إشكالية العصر الكبرى كما صوَّرها النتاج الفكري والفلسفي العربي والإسلامي في هذا المجال· على أن مرحلة الثمانينيات أفرزت أيضاً تطلعاً كان لافتاً في مساراته عندما انفتح المفكرون العرب على أحدث موجات الفكر الفلسفي الأوروبي؛ فكانت الاشتغالات الفكرية في المغرب العربي تتفاعل مع القراءات البنيوية وما بعد البنيوية، ومع التفكيكية وما بعدها، ومع الحداثة وفكر ما بعد الحداثة، ومع جملة الفلسفات اللغوية والنصية والقرائية التي أنتجها الفكر المعارفي أو ''الأبستيمولوجي'' الأوروبي والغرب الأميركي، ما كان من شأنه إحداث طفرة نوعية على صعيد التحوُّل بالفكر العربي إلى الانخراط أو التفاعل الحقيقي مع الفكر الفلسفي الأوروبي، إلا أن نهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينيات، واندلاع حرب الخليج الثانية إثر غزو نظام صدام حسين للكويت، كانت قد قوَّضت كل ذلك التطلُّع؛ فتهاوت جملة الأفكار القومية، وتهاوى التراث بوصفه إشكالية فكرية فاعلة إلى قضية غير مُجدية، في حين صار الانفتاح على الغرب الأوروبي فكرياً يُصدم بالتحوّلات التي أفرزتها عمليات انهيار الحرب الباردة، وغزو الكويت، واندلاع الحرب الكونية على عراق صدام حسين عام ·1991 شهدت مرحلة التسعينيات انحسار النظر في التراث العربي والإسلامي، وشهدت أيضاً انحسار الحاجة إلى الفكر الفلسفي الغربي في ثوبه التقليدي الذي أنتجه القرن العشرون· بينما أخذ المفكرون العرب مطلع التسعينيات يحثون خطاهم لتكريس نوع من القراءة التاريخية لمجريات الواقع الموضوعي الذي كانت عليه البلاد العربية والإسلامية في علاقتها بجملة متغيرات المشهد العالمي وما طرأ عليه من تحوُلات جذرية، وتكريس النظر في جملة مسارات الفكر الغربي السياسي فيما كان ينتجه من نظريات ورؤى كانت فلسفية الروح سياسية الجسد، وهكذا صار المفكرون العرب يمعنون النظر، وبلا هوادة، في نظرية ''نهاية التاريخ'' كما صكَّها فوكوياما، وفي نظرية ''صدام الثقافات أو الحضارات'' كما بلورها صاموئيل هنتنغتون· وكان من نتائج إمعاناتهم تلك أنهم وضعوا مئات الكتب التي ناقشت تينك النظريتين، وبات من المخجل على بعضهم الحديث عن الوجودية أو الشخصانية أو الوضعية أو الوضعية المنطقية، والأمر لم يختلف في شأن عزوفهم عن أي حديث في البنيوية والتفكيكية، وفي ما بعد الحداثة وضواحيها المعرفية سوى من وجد منهم لذَّة في قراءة هذا الفكر الذي بات عتيقاً· كان الانفتاح على فلسفات العصر الجديدة ذات الطابع السياسي قد فتح بدوره أفقاً للمفكِّر العربي في تمثيل إشكاليات العصر بما فيه من متغيرات جذرية؛ ولذلك وجدنا المفكرين العرب وقد انخرطوا في مناقشة جملة تداعيات ما أنتجه الحادث الإرهابي الذي طال الولايات المتحدة الأميركية والذي يُعبَّر عنه بحادث الحادي عشر من سبتمبر ·2001 بل أنخرط أغلب المفكرين العرب المعاصرين في مناقشة الخطاب الأصولي والإسلام السياسي المتطرِّف الذي بات يكرِّس العُنف الدموي في المجتمعات العربية أكثر مما يكرِّس تجربة إسلامية حقيقية تسعى إلى بناء الأمة لإنقاذ حالها مما هي عليه من مشكلات حقيقية تبدو مدمِّرة في حراكها· وكان كل ذلك ليمثل اليوم تحولاً كبيراً يطرأ على حراك المفكرين العرب الذين نزلوا إلى حركة الواقع اليومية بعد أن ظلت رؤاهم حبيسة الأفكار المجرَّدة والنظريات التفسيرية المستمدة من الفكر الغربي الحديث·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©