ما إن وقعت عيني على كتب الفنان سبستيان شميدت المصنوعة من الحجر، حتى قفز إلى ذهني، ولا أدري لماذا، كتاب ''النحت في الزمن'' الذي وضعه أندريه تاركوفسكي وترجمه باقتدار يستحق الإعجاب المبدع أمين صالح· لعلها العلاقة المؤسسة في أذهاننا حول علاقة الحجر العتيقة بالكلمات والنقوش وبدايات الأبجدية واختراع الكلام، فالحجر كان منذ بدء الخليقة أسلوباً مثالياً ليخلد عليه ومن خلاله الإنسان القديم ما يجول في عقله وقلبه من هواجس ورؤى وأفكار واقعية أو حلمية·· ولعلها فلسفية التكوين والبناء التي تبدو تجريدية في المستوى النظري لكنها تتحول إلى منجز حسي وحركي في الممارسة التشكيلية، والمثال هنا تحديدا هو النحت· ولعله نداء خفي سمعته يتردد في الأجواء ويأخذني إلى حيث عثرت على هذه اللقية التي أسعدتني على المستوى الشخصي لأسباب كثيرة وكانت واحدة من مفاجآت معرض الكتاب الجميلة·
والفنان شميدت، متخصص في نحت الكتب الحجرية، يشكلها وفق هواه وما يتيحه له الحجر الصلد من ليونة مختبئة تنتظر أدواته لتعمل فيها تشذيباً وقصاً وتمليساً لتتحول إلى تحفة فنية رائعة تخلق أكثر من دهشة، ومع ذلك يظل التحدي الكبير أمامه، كما يقول، هو أن ينحت كتباً تبدو كما لو أنها كتباً حقيقية ''إلى الحد التي تدفع المرء إلى لمسها أو محاولة فتح صفحاتها وتقليبها''· رغم صغر مساحته، يبدو جناح الفنان واسعاً ورحباً ومليئاً بالإبداع والجمال· جناح خاص ومختلف عن باقي الأجنحة، فالكتب التي يعرضها لا علاقة لها بالورق والجلد والكلمات، وإن كانت تختصر الآلاف منها في ضربة إزميل أو طية حجر· إنها كتب مصنوعة من الحجر، الحجر بكل أنواعه وأشكاله وألوانه· كتب بيضاء وسوداء وخضراء بلون الزمرد، وبرتقالية بلون الشمس، ورمادية ووردية، ومن كل لون يمكن أن يتلون به حجر الجرانيت أو البازلت أو الصوان أو الحجر الرملي يمكنك أن ترى في هذا المعرض كتاباً يحمل اللون نفسه·
تتجول ببصرك في جنبات الركن الصغير فترى نماذج شتى من تكوينات الحجر، وتصافحك مجموعة من الكتب المرصوصة بطرق شتى، فرادى أو في مجموعة، كتب عديدة تتجاور معاً لتخلق في ترتيبها وتبايناتها حواراً محملاً بالدلالات الفنية والفكرية· في أقصى الركن كتاب وحيد يحيلك إلى الكتب النادرة أو المتفردة في موضوعها وشكلها، وربما يرسل لك رسالة مشفرة عن أول كتاب عرفته البشرية· وهنا كتابان معاً يتعانقان في نوع من اللقاء الفني الساحر ليشكلا لوحة فنية تروي في صمت حكاية مجيئهما من الجبال البعيدة إلى محترف الفنان ليتحولا الى قطعتين فنيتين تربط بينهما قرابة الفن ووشائج الأصل المشترك· ثلاثة كتب وأربعة وخمسة بعضها يقف بصلابة وبعضها ينام مسترخياً في ليونة الحجر الذي بات مادة دافئة، مكتنزة بالمشاعر والأحاسيس الفياضة، فيما كل التشكيلات التي نسقها الفنان بعناية ودراسة ترتب الكلام بين مسافاتها، و تعلن الاتساق الفراغي بين مساحاتها، ولا تنسى أن تروي كيف خرجت من ''حجريتها'' إلى ''بشرية'' تمت هندستها بروعة، وانطلقت من صمت العدم إلى فصاحة الوجود·
كتب الحجر هذه غادرت قسوة الحجر تماماً، وباتت حوافها لينة في طيات متتابعة كما لو أنها كتاب من ورق، وهي في فكرتها وطريقة تنفيذها لون من الأعمال النحتية التي تبث لغة بصرية تتعانق مع محيطها وتتناغم مع المكان ناسجة نشيداً جمالياً يمتلك تآويل مفتوحة على اللانهائي· وهي إلى ذلك تربط بين ميراث الكتاب وكل ما يحمله من مفاهيم تاريخية وفكرية، وميراث الحجر بكل ما يؤججه من معاني الخلود البشري الذي تمثل في الأعمال النحتية الكبرى في التاريخ والتي ظلت باقية رغم عاديات الزمان وصروف الدهر، فضلاً عن ما يمتلكه العمل النحتي النصي من التوازنات العاطفية والقيم التعبيرية التي تضيء المخيلة وتأخذها إلى آفاق جديدة قد لا تكون في البال·
رغم ذلك، كان من الممكن لهذه الأعمال أن تمارس حضورها الإبداعي على نحو أرحب لو أتيحت لها مساحة أكبر، فالعمل النحتي لا يولد الا بالفراغ ولا يتحرك الا من خلال توزع الاضاءات حوله وبداخله، ولا يظهر بصورته البهية والعملاقة إلا عبر المحيط الذي يوضع فيه، وبعض الأعمال والتشكيلات كانت بحاجة إلى مزيد من المكان والمساحات فيما بينها لكي يتذوق المتلقي جماليات الفراغ·
سيرة فنية
ولد الفنان الألماني سبستيان شميدت في ألمانيا عام 1967 بالقرب من مدينة شتوتجارت، وأنهى دراسته الجامعية في العام ،1985 والتحق بمحترف فني للنحت لمدة عامين، ثم تعلم النحت على الحجر لمدة ثلاث سنوات·
توجد أعماله في مكتبات في ألمانيا، أمستردام، برشلونة، روتردام وأماكن أخرى· شارك في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت، ولايبزج، وبازل· وله أعمال (قطع كبيرة) في تايوان، فنلندا، بلجيكا، ألمانيا، نيويورك، وأبوظبي·
عدد اليوم
