الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

جيهان عمر تجسد فتنة المرأة بذاتها

28 مارس 2007 02:21
د· صلاح فضل: بعد ديوانها الأول ''أقدام خفيفة'' تخطو الشاعرة الشابة جيهان عمر برشاقة إبداعية إلى مجموعتها الثانية التي تحمل عنوانا مثقفا وغريبا، هو: ''قبل أن نكره باولو كويلهو'' فتصرف قارئها إلى الانشغال بالروائي البرازيلي ''صاحب الكيميائي'' الذي تأججت شهرته وهو مازال شابا متمردا، ثم لا تشبع الشاعرة فضول قارئها حتى يصل إلى القصيدة التي تحمل العنوان ذاته، فيكتشف قصة رفيقة صباها ''جيهان قاعود'' وكيف جمعهما التيمّن باسم سيدة مصر الأولى، لأنه: ''في مكان كالمدينة الجوية / ذلك الحيّ المعزول/ الذي يضم عائلات الضباط / بمختلف رتبهم كانت التسمية السياسية / أمرا عاديا''· وكيف افترق مصيرهما بعد ذلك، حتى قرأت فاجعة مصرعها على يد جارها المعسر ليسرق قلادتها الماسية، وكيف أنها لم تنجح في مقاومته: ''فأطبق بيديه على رقبتها الناعمة / وتبعثرت روايات باولو المتراصة فوق البيانو، حيث لم تكن للروايات / أقدام / كي تصعد بها السلم الموسيقي' عندئذ يمكن لنا أن ندرك سبب كره المغني الشاعر الروائي الذي شغل العالم بشخصيته ورواياته الخلافية، وندرك أيضا طرفا من طريقة الكاتبة في تشعير الحكايات في مقطوعاتها الجميلة ومنحها لمسة الخيال السحرية التي تطير بها من منطقة النثر لتصبح نغما يصعد السلّم الشعري· إيقاع التكرار بيد أن تشعير الحكايات ليس أمرا هينا ولا ميسورا على كثرة توظيفه لدى شباب الشعراء، فقليل منهم من يبلغ في تجربته درجة رفيعة من الإتقان تنسيك التوقّع الملح لرنين الإيقاع، وتغمرك بضباب المتخيل المفعم بشذى الحالة المنشودة، خاصة إذا احتدمت فيه نبرات الأصوات المتحاورة، وبرزت مفارقة الذوات الشعرية، كما نرى مثلا في مقطوعة ''سيميولوجيا'' حيث تقول: ''لا ترتدي الأبيض / يجعلك نقية / لكنه يكشف ضعفك·/ لا ترتدي الأحمر / يجعلك فاتنة / لكنه يفضح شهوتك·/ لا ترتدي الأصفر / تبدين كقطعة من الشمس / لكنه يؤكد وحدتك·/ ارتدي الأسود / الأسود فقط / ارتديه طول الوقت/ الأسود الذي يقدس لون بشرتك/ ويبدو كسماء تسبّح لقمر/ الأسود الذي يشعرني بأني مِتُّ/ وأنك في فترة الحداد / تمزجين الدموع بحبات البن/ وتضيئين الشموع / في دولاب ملابسك/ لترقص فساتينك الملوّنة / احتفاء برحيلي'' المقطوعة مكتوبة بصوت الرجل الزوج المنداح في وجدان الأنثى والمبثوث في ثنايا كلماتها، وربما شرعت الشاعرة بخطاب ذاتها ثم أسلمت لعبة الألوان إلى التحول للنطق بلسان الرجل، فهي وحدها التي تعرف وقع الألوان على حساسيتها؛ نقاء الأبيض وهشاشته، فتنة الأحمر وشهوانيته، حدة الأصفر ووحدته، ثم هي التي تعشق تقديس بياضها القمري في إطار الأسود الذي يسبّح بروعته، غير أنه يجرها إلى الحداد، وهو شعور يخامر المرأة لا الفقيد، وهنا تقفز القصيدة اللعوب إلى حضن قصيدة نزار قباني كما تتغنى بها نجاة التي كانت يوما ما صغيرة، لتقيم معها ما يسمى ''التناص'' أو التداخل النصيّ، مع تحويل الفرحة باللقاء إلى الحفاوة بالرحيل، ومن ثم نجد الشاعرة تعبث بصوت الرجل عندما تستحضره لتنعاه، وترقص فرحة بغيابه· لكن ما يجذب القارئ في مطلع المقطوعة، وهو سر تشعير السرد، تناغم الإيقاع في ترتيب الجمل وتخالف الدلالات، مما يغني عن رنين الموسيقى وهو يعمر الكلمات بنشوة هندسة التعبير، وتساوق التركيب، ومتعة التصوير الجميل· قرار مفاجئ تحفل قصائد الديوان بنماذج لافتة تجسد فتنة المرأة بذاتها بالرغم من تعدد الأصوات الراصدة فيها، وتزخر بالتفاصيل الدقيقة التي لا تنتبه إليها أحداق الرجال، ولا يتسع المجال سوى لنموذج واحد ربما كان يرمز لحواء ذاتها عندما تقول: تلتفت أمام المرآة / لتلمح ظهرها المكشوف/ وتمسح بيديها / على خصرها النحيل/ تتخلل أصابعها / خصلات شعرها القصيرة/ تحتفي بجمالها / وتطلب منه/ أن يشعل لها سيجارة·/ لأسباب لا نعلمها / تركته/ وعود الثقاب مشتعل / بيديه/ إلى الأبد·'' نحن حيال عين الكاميرا الخارجية، لكنها فيما يبدو في يد أنثوية أيضا، فهي تنتقل بالتصوير من أدوات المجاز الاستعارية إلى منطقة التصوير السردي الذي تتكئ عليه القصيدة المحدثة عموما، ومع أن صوت القصيدة يوهم بالحياء الموضوعي، فهو يصف من الخارج ما يراه من حركات الأنثى ومظاهر افتتانها بحسنها قبل تثبيت الصورة ''إلى الأبد'' على مشهد الاشتعال الذكوري، ويمعن في زعم الحياد عندما يقول إن ذلك يحدث ''لأسباب لا نعلمها''، مع ذلك فإنه يجسد في لقطة متحركة وناطقة صورة الطرفين الخالدة، مما يضفي على المشهد بهاء الشعرية الرائقة، خاصة ''البساطة'' التي تبدو كأنها أنشودة، كما كان يصفها حكيم القص العربي ''يحيى حقي''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©