الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحُبّ.. طريق للنصر

الحُبّ.. طريق للنصر
11 نوفمبر 2015 21:43
أطبق الفكر الديني على الفكر الغربي في أواخر القرن الخامس، وبحجة محاربة الوثنية ألغى كل منطق وكل فكر، ووضع ثالوثاً لا سبيل إلى سبره عملياً وعقلياً وهو الإيمان والرجاء والمحبة، القاعدة الفولاذية التي يوزن بها التصرف البشري، وهكذا صار في يد محاكم التفتيش وسيلة سهلة جداً لاتهام أبرأ الأبرياء بالهرطقة والزندقة والسحر والشعوذة. منذ ذلك القرن اتجه الفكر الكنسي، وجرّ معه العقل المدني فترة غير قصيرة، إلى التفكير بالغيبيات، وانخرط اللاهوتيون في معرفة سكان السماء، وراحوا يصنفون الملائكة، ويختلفون في ذلك كل الاختلاف أو بعض الاختلاف، فديونيسيوس يصنف السيرافيم والشيروبيم والفضلاء والقوات وأصحاب الإمارة والرؤساء.. على غير ما يصنفه غريغوري أو بونافتنورا... أو سواهما... وابتكروا شهادة «الدكتوراه» ينالها العاملون في هذه الأبحاث. وبحثوا في حرب السماء بين المتمردين بقيادة أمير الظلام بلزعبوب (لوسيفر) والموالين بقيادة رئيس الملائكة ميخائيل... الخ قبل البحث في حرب البشر... واهتموا بالعدالة الإلهية وطبقوها في محاكم التفتيش، قبل اهتمامهم بالعدالة البشرية. في القرنين السابع عشر والثامن عشر استخف المفكرون بهذه الأطروحة واعتقدوا أن هذا الخلاص ليس سوى وهم، فمهما تجاهل أو تناسى أو ابتعد المرء عن الحياة الواقعية، التي تستوجب استخدام العقل، لا بد أن يتعامل مع الواقع المعاش، مع أعصابه وجسده وفكره والناس حوله. خلاص أرضي جاءنا القرن السابع عشر بالعقل باعتباره باباً للخلاص الحقيقي، وجاءنا القرن الثامن عشر بالتنوير، باعتباره إشاعة لما أنتجه العقل، وبذلك تدخل البشرية مرحلة الخلاص، ولكن على الأرض وليس في الآخرة. وهكذا تشكل طريق آخر للخلاص، ولكنه يعمل لتأمين «الفردوس الأرضي». كل شيء صار يقاس بمقياس العقل، والمنطق الواقعي، وكل شيء يدرس لاكتشاف قوانينه الخاصة... فالبحث عن قانون الأشياء كان الشغل الشاغل للقرنين المذكورين، بالاعتماد على قوانين العقل والمنطق التي وضعها أرسطو، وبتطويرها بحسب الأوضاع والأشياء المستجدة التي لم تكن تذكر في أيام أرسطو، الذي حلّ محل أفلاطون، في أواخر عصر الظلام. فللتطور قوانين وللحركة قوانين ولكل عنصر من عناصر الطبيعة قوانين، ولكل ظاهرة قوانين، حتى في علم الاجتماع صرنا نلمس ميلاً لوضع قوانين تخص هذا العلم. فصار الكون، في هذين القرنين، خاضعاً لصرامة شديدة في الوجود والحركة والسرعة والتباطؤ... والحرية ذاتها صارت خاضعة لقوانين لا تقل صرامة عن القوانين الكيميائية والفيزيائية، وانتقل هذا إلى العواطف البشرية، فلكل ظاهرة بشرية قوانينها، ولا توجد ظاهرة منفلتة من القوانين. حتى الدين المسيحي خضع للبحث والتحري لمعرفة قوانين تطوره، ومعرفة أطواره ومراحله، وكيف ابتدأ وماذا طرأ عليه من جديد، ولماذا طرأ عليه هذا الجديد... ليتبين أن قوانين التطور تشمل كل شيء... إنها مثل حساب التفاضل والتكامل في الحركة. أطبق «العلم» على كل شيء، حتى صرح فرنسيس بيكون بأن الطبيعة كلها تخضع لقوانين العلم التي ستجعلها خادمة مطيعة للإنسان. والشخصيات المؤثرة في هذه المرحلة، إلى جانب بيكون لا تقتصر على شخص أو شخصين بل كانت هناك ما يمكن أن ندعوها ثورة «علمية» في كل شيء، إلا أن أهم من أثر في مجرى الفكر البشري شخصيتان كبيرتان هما دارون ونيوتن، فعلى يديهما نحّي القلب البشري جانباً وهمشت الإرادة الإنسانية، وحلت الحتمية الطبيعية، أو الحتمية التاريخية محل القضاء والقدر. لكن لوحظ أن هذه القوانين العلمية جداً لم تحل المسألة الإنسانية، ولا خففت من البؤس الإنساني، والفردوس الأرضي بات أبعد عن الأرض من الفردوس السماوي، وكلما ضبطت قوانين شيء، تولدت منها تعقيدات ومشكلات تزيد الناس ألماً ومعاناة وبؤساً. ظهرت الآلة البخارية فخلقت اضطراباً شديداً، وظهرت الثورة الصناعية فولدت بؤساً لم يعرف التاريخ له مثيلاً، وظهر علم الاجتماع فصار هناك تصنيف جديد، ووعي جديد، وتحركات وحركات جديدة... الخ. وأدرك الناس بحسهم وبعقلهم معاً أن الاعتقاد بأن العلم يجلب السعادة لا تختلف عن عقيدة ثالوث السعادة المشهور الإيمان والرجاء والمحبة. فمناهضة الوهم المسيحي أدت إلى ظهور وهم علمي لم يلبِّ النزوع الإنساني إلى الحرية والعمل والكرامة والعدالة، بل بالعكس فقد ازدادت القوانين القمعية وتفشت البطالة وأهينت الكرامة وهربت ربة العدالة من الأرض إلى برجها السماوي، وتركت الظلم والانحياز وكل ما ينتج من مساوئ بني البشر، التي تدفعهم في طريق الآلام والمكابدة. الحب والحرب أمام هذا «العلم» الجارف للقرنين السابع عشر والثامن عشر، العلم الذي زعم أنه قضى على «خرافة» الدين، ظهرت الحركة الرومانسية، التي وضعت لنفسها، ولغيرها، مبادئ وتطلعات بشرية مختلفة عن النزعات الوهمية والعلمية معاً، وأعادت للقلب البشري دوره في توجيه الفرد، وفي دمجه مع التجمعات البشرية، فلا تعترف بأن الغيب قادر أن يمسك بكل شيء إلى فترة طويلة، ولا تعترف بأن العلم قادر أن يروي نزوع القلب البشري، مهما أشبع عقله بالقوانين الدقيقة الصارمة. وباختصار يمكن القول: إن الرومانسية حركة نابعة من القلب البشري، فهو مقياس كل شيء، وليس العقل ولا العلم. فالرومانسية تؤكد أن السعادة ليست في العقل ولا في العلم، بل في القلب، فهو بلسم لجميع آلام البشرية. فعندما يحب المرء شيئاً لا يخضعه للعقل ولا للقوانين العلمية بل يخضعه لميوله، فيجد راحته في خدمته، وحريته في العبودية له، وما عذاب المحبين وتضحيتهم في سبيل المحبوب سوى سعادة تزداد بمقدار ما يضحي المحب للمحبوب. وقد استجاب غوته لنداء الرومانسية فكتب «آلام فرتر» الرواية التي تعتبر صورة صادقة للرومانسية. والآثار التي من هذا القبيل كثيرة ومعروفة، ليس أهمها قصة شاترتون... على أن الرومانسية ليست مقتصرة على العلاقة الفردية، بل تنطلق إلى آفاق أبعد من ذلك بكثير، فاللورد بايرون- على سبيل المثال- عشق الإغريق وأحب اليونان حباً جماً، فنذر لتحرير تلك البلاد من الاحتلال كل جهده وماله وثروته وممتلكاته، وذهب ضحية الوباء الذي غيبه، كما غيّب كبار الرجال أمثال هيغل وكلاوزفيتز... وعندما وصل إلى بلاد اليونان لتحريرها، أنفق على حرب التحرير كل ما يملك. وكان الإغريق يعتقدون أن كل ما قدمه أسلافهم القدامى عبارة عن خرافات، فمثلاً كانت هناك «أسطورة» أو «خرافة» تقول: إن ليندر (من مدينة أبيدوس) أحب هيرو (من مدينة سيستوس) يفصل بينهما مضيق اسمه «الهيلسبونت» كان يقوم في كل ليلة بقطع هذا المضيق سباحة ليصل إلى حبيبته. فقد ظنوا أن من المستحيل قطع هذا المضيق سباحة، إلا أن بايرون أثبت العكس فقام بالسباحة قاطعاً هذا المضيق، ومنذ ذلك الوقت تقام مباراة الهيلسبونت السنوية تكريماً لبايرون. وعندما تحوّلت الخرافة إلى واقع في ذهن الإغريق، تهافتوا على الحرب تهافت الظباء العطشى على غدير الماء... وانتصروا. لم يشهد بايرون انتصار اليونان واستقلالها، إلا أن الحرب التي أنفق عليها وشارك فيها نجحت. وكان بايرون نفسه يعتقد أن النصر في الحرب مؤكد لأن الحب عبّد الطريق لتلك الحرب العادلة في رأيه. حرب كلاوزفيتز كل الذين تحدثوا عن الحرب قبل كلاوزفيتز أخضعوها للقوانين العلمية، كقوانين الإغارة والتراجع ومركز الثقل، والإمدادات والحرب الليلية والحرب النهارية والحرب الشاملة والحرب الخاطفة... الخ. كلاوزفيتز كان أول من أدخل فلسفة الرومانسية، ربما متأثراً ببايرون عملياً، وبهيغل فكرياً، وجعل للنفس البشرية مكانة مرموقة في الحرب، باعتبارها مصدر الحب الحقيقي... أو قرينة الكره الحقيقي. مؤلفو كتب «الحرب» اليوم يقتبسون دائماً كلمة كلاوزفيتز المشهورة «الحرب سياسة بوسائل أخرى» ويتجاهلون، أو يغفلون أنه شدد أن تكون هذه السياسة صحيحة وتلقى الدعم من الشعب (ثالوثه: الشعب والجيش والحكومة). هذا أولاً. أما الشيء الثاني فإنهم يتجاهلون الحب الذي يجب أن يسبق الحرب، وشعور الفرد أنه يدافع عن وجوده بدفاعه عن وجود المحبوب، والأمر الثالث أن التضحية تصبح سعادة مثل سعادة بايرون تماماً، وبذلك تحمى الأوطان وتزدهر أنظمة الشعوب والدول. عندما تنمو المحبة تنمو معها الكراهية، فلا يمكن للمرء أن يعشق الجمال ولا يكره القبح، أن يعشق وطنه ولا يكره المعتدي، أن يحب الحياة ولا يكره ذاك الذي يهدده بالموت والدمار، أن يحب العمل ولا يكره ذاك الذي يسبب له البطالة، أن يحب الحرية ولا يكره ذاك النظام العسكري القمعي المدمر... إذن، هناك مهاد للانتصار في الحرب، غير الأسلحة وغير الاستراتيجيا وغير التكتيك وغير التمويل... مع أهمية بالغة لكل ذلك. فلا يمكن لمن يكتب في الحرب أن يتجاهل كل ذلك، ولكن كلاوتزفيتز كان أول من أولى العناصر المعنوية أهمية كبرى في تحقيق النصر في الحرب، النصر الذي يعقبه تماسك في الشعب ونظام في الدولة ووحدة في الجيش الوطني. واليوم كثرت وتكثر الكتب عن الحرب والخطط الاستراتيجية والتكتيكية، ووصلت التطورات إلى حرب النجوم أو حرب الفضاء، وانتهت الأسلحة التقليدية التي جلبت الشهرة لنابليون، ولم يعد الاستطلاع بالأمر الصعب بعد الأقمار الصناعية... ولكنها بلا استثناء تعود إلى كتاب «في الحرب» لترفع القبعة احتراماً لما كتبه عن العوامل المعنوية ودورها الكبير. كم نتمنى لو ينقل الكتاب إلى العربية لتعرف الأنظمة العسكرية مدى ارتباط النصر بالحالة العامة للشعب، والتزام الحكومة بطموحاته، وتقيّد الجيش بالوطن لا بالطائفة ولا المذهب ولا الفئة المتسلطة، ولا بالفرد الدكتاتور، ولا بالزمرة الباغية التي لا تؤمن بعدل، ولا تعترف بحق، ولا تلتزم بقضاء. قوانين بلا أمل كان سقوط تفاحة نيوتن مفتاحاً لعلوم لم تكن موجودة من قبل كحساب التفاضل والتكامل، الذي أحدث ثورة في الرياضيات، ومركز الجاذبية الذي يحدد الحركة أو يجعل الحركات القريبة تخضع لقوانين الجاذبية... ولم تعد التفسيرات السابقة تحترم، ولا يعتمد عليها، كالقول الأرسطي إن الطبيعة تكره الفراغ، ففي القوانين لا يوجد حب ولا يوجد كره، ولا يوجد حقد ولا توجد محاباة، وحتى الأمل كان مفقوداً في هذه القوانين. أثر توفي كلاوزفيتز ولم يكمل كتابه الفريد «في الحرب» فقامت زوجته بنشر ما كتب. وترجم إلى معظم اللغات في العالم، ولا تزال ترجمات جديدة تظهر لهذا الكتاب، حتى في القرن الحادي والعشرين. وأفضل ترجمة إنجليزية لهذا الكتاب قام بها الكولونيل غراهام، في أواخر القرن التاسع عشر وراجعها الكولونيل مود وكتب لها بعض التوضيحات التي يستفيد منها القارئ كثيراً. القوانين العلمية لم تحل المسألة الإنسانية والفردوس الأرضي بات أبعد عن الأرض من الفردوس السماوي .............................. مناهضة الوهم المسيحي أدت إلى ظهور وهم علمي لم يلبِّ النزوع الإنساني إلى العدالة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©