السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المهرّب الأكبر للحنين

المهرّب الأكبر للحنين
11 نوفمبر 2015 21:43
كتابة - جان ميشال مولبوا آه أيتها العزلة! يا أمّاه! أخبريني عن حياتي فها هو ذا الجدار بلا صليب، والمائدة، والكتاب مغلق.. إن كان المُحال الذي انتظرته طويلا، سيطرق النّافذة كأبي الحنّاء ذي القلب المجمّد، فمن سينهض ليفتح له يا ترى؟ نداء الصيّاد المتخلّف في الأهوار الدّاكنة، آخر صيحة الشّباب، تهن وتموت سقوط ورقة واحدة يملأ رعبا قلب الغابة الأصمّ. لكل منا شخص محبب وأثير، وهذا الشّخص بالنّسبة لي، كان وسيظلّ دوما هو ميلوش. بفضله تمكّنت من التحدّث إلى بيوت الطّفولة وإلى الحجرات الغافية للكتابة. ومذ عرفته، غشيني الخريف وأوراقه، والزّمن الذي يقبل علينا ليقهرنا. أصوات كلّ الأطفال المرضى تهمس في المرج المبلّل للعزلة، وفي مكان ما، وكضباب أبيض، ينتظرنا ميلوش وبيده فانوسا، لا تُسمع أي كلمة ولا أيّ صوت، غير صرير الخطى على الحصى والأعشاب المهتاجة، وإذا بميلوش يلتفت ليقول: أخيرا عدتّم ! لقد أوشكت النّار على الانطفاء! ميلوش الصوفي، ميلوش الذي يتلقّف يدك ليساعدك على تخطّي الأماكن المهجورة، لقد كان هذا المترحّل في ليالي الذّاكرة «يعرف كيف يجعل الطّير تغرّد في الأروقة الأكثر سريّة». إنّه ذلك الحارس لعالم جميل وحزين في آن، عالم قد عشنا فيه من قبل، ولا يزال يتذكّرنا. لقد بات ميلوش يلقي بظلاله على كلّ أقاليمي وبحاري. طارق الأجراس العتيقة لقدّ توفّي منذ أمد بعيد، ولكنّني أظلّ أذكر اسمه، غرامياته وكلماته. كانت العزلة هي زوجته، والعصافير رفاقه، والإنجيل مبتغاه، وقد انمحى من هذا العالم ولم يتحاور حتّى النّهاية إلاّ مع العصافير. فهو بداية من سنة 1924، لن ينشر غير كتب عن التصوّف وعن وطنه الأصليّ، ولم تعد له رغبة في سماع قصائده القديمة، ولكن لن ينسينا ذلك الانغمار في علوم الذّوق والباطن.. الشّاعر الفذّ الذي كان. وستكون ليلة الإلهام المشهودة التي عاشها في 14 ديسمبر 1914 بمثابة الجرح الخفيّ وبداية انجذابه إلى عالم الرّوح وأسراره الخفيّة: «هكذا كنت ألج مغارة أسرار اللّغة، مأخوذا بسرّ الحجارة، منجذبا إلى المعدن، وكان عليّ طرق آلاف الدّروب، من الأسر إلى الخلاص. وحين وجدتني عند تخوم النّور، منتصبا بكلّ جزر اللّيل، كنت أردّد من خَطبٍ لآخر هذه الكلمة، وهي أكثر الكلمات قساوة: هنا !». (من مزمور النّضوج)! آخر قصائده (مزمور ملك الجمال، مزمور التّجديد...)، لم تعد في الحقيقة قصائد، وإنّما تراتيل صوفيّة تبدو غامضة وصادرة عن نفس تكابد المعاناة والألم. وآخر هذه المزامير، مزمار الصّباح، لا يعدو كونه تعويذة إنسان أضحى في مكان آخر «مداعَبا في أحلامه بالأفاعي»، ويرى «بأنّ الأشياء هي كما هي، دموع في الهدب، نيران من مطر على السّطوح، وفي كيس الزرّاع حفنة من نجوم»، يبدو انفتاح المساحات البيضاء ومساحات الصّمت مخيفاً في هذا النصّ. و إنّي لأحبّذ ذلك الميلوش الذي لم يتنكّر للشعر، ميلوش ما قبل الإلهام، ميلوش الذي يقول: صمت من حبّ وقع على ذهب الظّهيرة عشبة القرّاص الغافية أحنت رأسها النّاضج... ومن قبل، من قبل، أخذ القمح ينتصب في صمت كأحلام النّائمين... .. سنحفظك من الهموم في مشفانا هناك حجرة سريّة جميلة: فيها، تدخل الظّلال الخضراء من الشبّاك الذي يفتح على بستان مترع فتنة وعزلة وماء. ينصت ثمّ يتوقّف.. آه يا حبيبتي! كم جميل هو العالم، كم جميل هو العالم! نشيد الرّبيع إنّ هذا الميلوش الذي يقيم تحت سقف بيتي، لهو الطّارق للأجراس العتيقة لزمن البراءة، زمن الطّير المتخفّي. نحوه تمتدّ الأسرار «حين يهبّ النّسيم ذو الخدود الطّفوليّة على الغيم». شاعر الأخوّة، مهرّب المغاليق الصّدأة والعواصف الثّلجيّة للخريف، فإنّ ميلوش يظلّ ذلك الذي يُعِدّ حُجرة الطّفولة الرّائعة، التي تمكّننا من رصد طقطقة ذوبان الجليد من وراء الجدار، وليس ذلك الخيميائيّ المتنبّأ بالمصائر المحتومة. «بيت أسود، أسود مغاليق صدأة، غصين ميّت، مغاليق مزلّجة، درفات الشّبابيك موصدة ورقة على ورقة منذ مائة سنة في الممرّات. كلّ الخدم قضوا. أمّا أنا فقد فقدت ذاكرتي» كلّ ما كان يتأرجح فيه اللاّنهائيّ لا يزال ينبض بداخلي، ويتسارع مضيّ اللّيل. تنتحى أغصان العلّيق جانبا، وتنفسح الطّريق، فإذا بميلوش قد حضر ليفتح أبواب كلّ اللّيالي. إنّ تلك الكآبة السلافيّة لا يمكن فهمها إلاّ متى كانت كلمة الغاب.. تجعلك تتدلّى وتتأرجح في الفضاء. ميلوش هو، وبعمق، رجل الماضي السّحيق، ولكنّه مع ذلك لم يكن متنسّكا، كان يقبل على النّاس، يناضل من أجل بلده الصّغير، لتوانيا القصيّة، الغائمة في وشيع الضّباب. ولم يكن أبدا من الشّعراء الذين انحدر معهم الأدب الفرنسي كما يرى البعض، وإنّما الشّاعر الأوروبي النّاطق بالفرنسيّة، وهو بكلّ بساطة يحمل في داخله هوس الحنين إلى الطّفولة، وهو العالميّ الانتماء. قد يبدو شعره للبعض رديئا، وبعض أشعاره الأخيرة غامضة، ولكن محبّة ميلوش لا تفسَّر فقط بالدّافع الشّعري، فتلك الغنائيّة المهتاجة بلطافة، إمّا أن تلامسكم وإمّا ألا تلامسكم. يطرح ميلوش سؤالا وحيدا «من أجل من الموت في اللّيل الطّويل لجفنيك؟.. ولكن النّهار يتهطّل على فراغ كلّ الأشياء». هذا الإقرار من صديق، من شقيق أكبر، ينبغي أن يجد ملجأ بداخلنا، بصورة عمياء، ولا نحتاج البتّة إلى تبرير. شعره وشاح ناعم ومواساة لا حدّ لها. يكتم الصّمت نَفَسَه، يمضي شبابنا، ويقبل ميلوش علينا، لقد حان الوقت أن نقرأ ميلوش ونعيد قراءته. من المؤكّد أنّ أجمل قصائد القرن المنصرم ستظلّ هي قصائد ميلوش، فهذا المترحّل من فلنيوس إلى فونتانبلو، ما بين أصدقائه العصافير، سيكون المهرّب الأكبر للحنين إلى هناك: تؤنسه في عبوره، شقيقته.. عشبة القرّاص، ورفيقة لياليه زهرة البنفسج. هل تعرفون ميلوش؟ رمزيّ في بدايته، ساحر ثمّ متنبئ في النّهاية، وإنّه لمن المربك حقّا، أنّ رواياته (بداية العشق...) ونصوصه المسرحيّة (ميغال مانارا..) وقصائده، تبقى عصيّة على غبار الزّمن. عندما يكون أغلب معاصريه قد نال منهم قرّاص الأيّام والنّسيان، فإنّ كلمات ميلوش التي كان البعض يتناقلها كقرابين قدسيّة، تظلّ جوهريّة. إنني أذكر الزّمن الذي كان فيه البحث عن نصوصه أشبه ما يكون بالمسعى الفاشل، وكنّا نحن، محبّيه، نرتّل قصائده بملء الصّوت برصيف مرسيليا سنة 1958. الآن، وقد عادت نصوصه تقرأ وتنشر، فإنّ ذلك يمثّل حقيقة رفع لمظلمة طال أمدها، فالشّكر كلّ الشّكر لأندري سلفار، حارس المعبد، ذلك العجوز الرّائع الذي حظيت بالاقتراب منه يوما، ليغشاني إحساس بالمهابة والتّوقير، ذلك التنّين الغيور على نصوص صديقه ميلوش، كان ينصح باختبار تدريبيّ كيما يتيسّر الشّرب من تلك النّافورة، والانتماء إلى الحلقة الضيّقة «لأصدقاء ميلوش». إنّي أشكره من وراء الضّباب حيث يقيم اليوم، إذ أتاح لي نسخ بعض قصائد ميلوش وهو في أوج عطائه. شكرا أيضا لـ لوران ترزياف، المشتعل حدّ الرّماد، والذي كان يجازف من أجل ميلوش ومنح صوت نابض لنصوصه. بفضل هؤلاء يندلع حريق ميلوش في وجه العالم، هذا الذي يكون قد مرّ من بيننا كشاعر- طائر في لغتنا، وكقدّيس للأشواق والتّيه. في منتهى اللّطافة، متصوّف، ومهوس بالإنجيل وبعلوم الباطن، كان ميلوش يسائل في نفس الوقت النّهايات المحتومة والنّافورات الخبيئة لطفولاتنا، ومواعظه عن محبّة الآخرين كانت تحمله على مدّ راحة اليد كي تقتات بداخلها الكلمات، وكانت تلك الكلمات تقترب منه وهي تتراقص من حوله، محتجبة بالصّمت كي تنصت إلى هذا الرّجل العتيق، ذلك الذي كان يتحدّث إلى شقيقته العزلة: «أيّتها العزلة.. يا أمّاه.. أخبريني عن حياتي..»، وإلى البيوت الباردة التي يغطّيها القرّاص وإلى تلك الأوطان حيث لا مكان فيها للشّيخوخة. بشبّاك شعره ينتصب الحنين كنبات متعرّش، ويكون هو، قد نقش اسم طفولته على كلّ جدران الشّعر. لطافة، شوق وتوق، غرابة اللّغة وهي تطلق همساتها، كلّ ذلك يجعل شعر ميلوش فوق كلّ نزعة للاستسلام أو القنوط، سيكون ذلك الذي يلج منفاه باحثا عن هويّته، عابرا الطّريق الرّخوة للطّفولة، «لتعيدي ابنك إلى منابع الذّاكرة!»، ويكون هذا النّداء قد تحقّق، لتكون الطّفولة المستعادة هي نهاية المنفى. ماذا تقول كلمات ميلوش؟ إنّها تقول الآتي: سيكون الأمر كما في هذه الحياة. نفس البستان، عميق، عميق مُدغل ومعتّم وعند الظّهيرة سيبتهج أناس لأنّهم أضحوا هناك أناس مرّوا وهم مجهولون لا يعلمون غير هذا: أن يبالغوا في التأنّق وكأنّهم ذاهبون إلى عرس وأن يمضوا في ليل الهالكين وحيدين، بلا حبّ ولا سراج سيكون الأمر كما في هذه الحياة تماما... هؤلاء النّاس المجتمعون لسماع شعر ميلوش يتدفّق على لسان لوران ترزياف، على ألسنتكم، وأنتم قرب السّراج، هؤلاء هم أنتم، هو أنا، عندما سنستعيد معا المحبّة والسّراج. سيكون ذلك كما في هذه الحياة، كما في أكثر قصائده غرابة «العربة»: هو أنتم، وهو أنا أنتم وأنا يا حياتي. وأنهض لأسأل أيادي المشفى وغبار الصّباح عن الأشياء التي ما عدت أرغب في رؤيتها في البعيد تصيح الحوريّة وتصيح فيصيح النّهر. ... أيّتها الحياة. أيّها الحبّ الذي لا وجه له.. كلّ هذا لصلصال كان قد مزج وحرث وطحن حدّ الأوصال حيث يغفو الوجع ذاته في قلب الجرح وإنّي لم أعد أطيق! لا لم أعد أطيق! قصائد ميلوش هذه تمكث هنا كي تخطّ اسم طفولته على الجدران، وتحفزنا إلى إلقاء الباقات القديمة للكآبة في غياهب آبارنا. نحن نعلم بأنّنا سنلتقيه هنا كما في الماضي، ليظلّ الصّمت هو رفيقنا وتظلّ الأسرجة مشتعلة. تتصاعد من شعر ميلوش «أبخرة بستان تفّاح أسطوريّ توارى وانقرض». لذلك، وحتّى تناسمنا روائح زمن البدايات ينبغي لنا قراءة ميلوش، ينبغي لنا محبّة ميلوش! قطوف من شعر ميلوش أيّامي قصائد منسيّة في الدّولاب ............................................ ترجمة - أحمد حميدة ............................................ سيمفونيّة نوفمبر سيكون الأمر تماما كما في هذه الحياة ذات الغرفة ! أي نعم يا صغيرتي، هي ذاتها ! مع إطلالة الفجر، سيكون عصفور الأزمنة في أفياء أشجار شاحبة كأنّها الموت حين تنهض الخادمات ويسمع الصّوت المتجمّد والخاوي للدّوالي. علينا بالنّافورة! آه أيّها الشّباب الرّائع! مِلء قلبك فراغ ! سيكون الأمر تماما كما في هذه الحياة ستكون هناك الأصوات البائسة أصوات الشّتاء بالضّواحي القديمة و صوت الزَجّاج بأهزوجته الرّتيبة، والجدّة المتهالكة التي من تحت قلنسوتها الوسخة تردّد صارخة أسماء الأسماك و الرّجل ذو المأزر الأزرق الذي يبصق في يده المهترئة بعريش المحمل والذي يصرخ بكلام مبهم كملاك يوم الحساب. سيكون الأمر تماما كما في هذه الحياة. نفس المائدة، الإنجيل، غوته، الحبر ورائحة الزّمان، الورق، المرأة البيضاء التي تقرأ ما بالخاطر الرّيشة، صورة الوجه. وأنت يا صغيرتي. سيكون الأمر تماما كما في هذه الحياة. نفس الحديقة، العميقة، المُدغلة والمعتّمة. وعند الظّهيرة، سيبتهج أناس لوجودهم مجتمعين هنا أناس لم يتعرّفوا إلى بعضهم البتّة ولكن كلّ واحد منهم يعرف هذا الأمر: بأنّ عليه المبالغة في التأنّق وكأنّه ذاهب إلى حفل، وأن يمضي في ليل الهالكين وحيدا بلا حبّ ولا سراج! سيكون الأمر تماما كما في هذه الحياة، الدّرب هو نفسه.. وفي ظهيرة يوم خريفيّ، عند منعطف الممرّ هناك حيث تنحدر الطّريق فزعة، كما المرأة التي تمضي لقطف أزهار التّعافي اسمعي يا صغيرتي! سنلتقي هناك كما في الماضي البعيد وقد نسيت أنت ما كان يومها لون فستانك أمّا أنا، فإنّني لم أعرف غير هنيهات سعادة منخطفة ستكونين متّشحة بلباس أرجوانيّ باهت شجن جميل! وستكون قبّعتك منمّشة بزهيرات حزينة. الطّفولة؟ ألوانكم، أصواتكم وحبّي، كم كان كلّ ذلك منخطفا كالمرور البرقيّ للزّنبور وفي مهبّ الرّيح، كم يبدو وقع الدّمعة المتساقطة على التّابوت زيف محض، خفقة لقلبي متردّدة في الحلم.. عندما ستأتي عندما ستأتي، ما عسى أن يكون لون عينيها، رماديّ أم أخضر؟ أخضر أم رماديّ في النّهر؟ سيكون الوقت جديد في ذلك المستقبل البالغ القدم جديدا ولكن ليس حديثا بما يكفي.. ساعات عتيقة قلنا فيها كلّ شيء أبصرنا فيها كلّ شيء، وحلمنا فيها بكلّ شيء وإنّي لأشفق عليكم إن كنتم تعرفون ذلك. سيكون هناك اليوميّ وصخب المدينة كما اليوم ودوما – يا للابتلاء العسير! – والرّوائح حسب الفصول، من سبتمبر إلى أبريل وسماء زائفة وغيوم في النّهر وكلمات تارة مرحة وتارة باكية تحت سماوات، أحيانا مبهجة وأخرى ماطرة لأنّنا عشنا ونحن نمعن في التّظاهر بأنّها ستأتي بعيون من المطر إلى النّهر ستكون (صوت الضّجر وضحكة العجز) اللّحظة الرّاهنة، المتداعية، العقيمة والجافّة نبض لأبديّة هي شقيقة الصّمت، اللّحظة الرّاهنة كما هي الآن. البارحة، منذ عشر سنين، اليوم، بعد شهر كلمات مروّعة، خواطر ميّتة، ولكن لا يهمّ. عليك أن تأكل وتنام وعليك أن تموت لا بدّ لنا من الإفلات بطريقة أو بأخرى.. العربة إنّها أوّل عربة في الصّباح.. أوّل عربة في الصّباح. تنعطف عند زاوية الطّريق، وفي وعيي سعال الزبّال الهرم ذي الثّياب الرثّة يفتح لي كالمفتاح باب يومي. إنّه أنتم وإنّه أنا. أنتم وأنا من جديد، يا حياتي. وأنهض لأسأل أيادي المشفى وغبار الصّباح عن الأشياء التي ما عدتّ أرغب في رؤيتها الحوريّة في البعيد تصرخ وتصرخ فوق النّهر. لتركعي أيّتها الحياة اليتيمة ! ولتتظاهري بالصّلاة وأنا أعدّ وأعاود عدّ ترتيب تلك الزّهور التي ليس لها إخوة ولا شقيقات في البساتين الكئيبة والوسخة كتلك التي نراها في الضّواحي في زخرفة الجدران التي تهدم، تحت المطر. فيما بعد، في الظّهيرة الرّائعة سترفعون أعين الكتاب الخاوي وسألمح المراكب الرّاسية والبراميل والفحم الغافي والرّيح وهي تركض عبر الغسيل المتعب للملاّحين ماذا عسانا نفعل؟ أنهرب؟ ولكن إلى أين؟ وما جدوى ذلك؟ الفرح لم يعد سوى طقس رائق في منفى، ظلّي ليس بالمحبوب ولا بالمكروه من الشّمس، إنّه ككلمة متى سقطت على الورقة فقدت معناها، هذا كلّ ما في الأمر. فيا حياتي المديدة ! لماذا تغدو روحي مخترقة عندما يعثُر عليّ ذلك الطّفل؟ وعندما شقيقي السّحرْ ينظر إليّ من فجوة الستارة عندما يدوّي وسط المدينة وقع الخطوات الحزينة لامرأة يقذف بها خارج بيتها. ها أنت إذن يا صديق الطّفولة ! أوّل صهيل بالغ النّقاوة، بالغ الوضوح ! آه لهذا الصّوت البائس والمبارك لأوّل جواد تحت المطر ! وإنّي لأنصت لوقع خطى أخي الرّائعة، أدواته على كتفه وخبز تحت ذراعه. إنّه هو! إنّه الإنسان! لقد نهض، والحقّ الأبديّ إذ أخذه من يده الخشنة، جعله يتقدّم نهاره وهو يمشي أيّامي قصائد منسيّة في الدّولاب الذي يفوح برائحة القبر، ويتمزّق القلب ... أيّتها الحياة! أيّها الحبّ الذي لا وجه له! كلّ هذا الصّلصال كان قد مزج وحرث وطحن حدّ الأوصال حيث يغفو الوجع ذاته في قلب الجرح وإنّي لم أعد أطيق! لم أعد أطيق! لم أعد أطيق! في وطن الطّفولة في ماض متفلّت من سطوة الزّمان كانت عيون الحبّ الرّائعة والكئيبة ما تزال تذرف الدّمع المرير تتوهّج منها نار معدنيّة صهباء وسحر ممزوج بكآبة سوداء، في وطن الطّفولة المستعادة.. الدّامعة! لكن النّهار يتهطّل على فراغ كلّ الأشياء. لماذا ابتسمت لي في غمرة تلك الإضاءة العتيقة؟ ثمّ لماذا وكيف تعرّفت عليّ أيّتها الصبيّة الملائكيّة الجفون، الجفون الباسمة، المزرورقة والعاشقة، لبلاب ليلة صيفيّة على سطح قمر من أحجار كريمة، ثمّ لماذا وكيف، وأنت لا تعرفين سيماء وجهي، لا حزني ولا بؤسي، فجأة تعرّفت عليّ أنت الحبيبة الودودة، الشجيّة، الغائمة والشّاحبة أيّ كلمات وأيّة موسيقى مدهشة وعتيقة ترتجف بداخلي حين تجولين بخاطري كحمامة غامضة من الأيّام الخوالي، فاترة وجميلة صدى أيّة موسيقى أنت في المنام؟ في أيّ أيكة للعزلة العتيقة في أيّ صمت وفي أيّة أهزوجة أو أيّ صوت للطّفل السّقيم أعثر عليك يا بديعة الحسن؟، أنت العفيفة والموسيقى المتردّدة في الأحلام ! لكنّ النّهار يتهطّل على فراغ كلّ الأشياء. سهاد أهتف: أمّاه. وأنا أفكّر فيك أنت أيّها البيت يا بيت الأيّام الرّائعة والغامضة لطفولتي أفكّر فيك أنت الذي ما كنت قطّ تؤنّب سويدائي أنت من كنت تحجبني عن النّظرات القاسية آه يا حليفي.. يا حليفي الأليف الذي لم يعد ليصادفني ! فيما مضى، وفي ربيع أيّامي الهامسة تبدّت لي تلك العذراء كانت روحها كروحك غريبة، ظليلة وطيّبة، وأعينها الشفّافة المأخوذة بالآفاق البلّوريّة فاتنة ومريحة حين تغشاها أنوار غسق صيفيّ. آه كم تنشّقت من الأرواح ! ولكن ما صادفتني أبدا تلك الرّائحة الطيّبة الزكيّة لمائدة باردة وخبز ذهبيّ وشبّاك عتيق مشرع أمام نحلات جوان ولا ذاك الصّوت النقيّ للظّهيرة المنبعث من الزّهور آه من تلك الوجوه التي كانت تلثم بجنون! لم تكن لتشبهك أيّتها المرأة العتيقة المنتصبة على التلّة لم تكن أعينهم ذلك الطلّ الدّافئ والغامض الذي يحلم في حدائقك ويرمقني فينسكب في قلبي هناك، حيث الفردوس المفقود لدربي الباكي حيث بصوت محجّب، طائر الطّفولة يناديني حيث اسوداد الصّباح الصّيفيّ يفوح برائحة الثّلج. أمّاه ! لم أودعت في روحي هذا الحبّ الحبّ الرّائع والنّهم للإنسان؟ آه ! لتخبريني لماذا؟ ألم تلفّيني بذلك الغبار الرّخو كما تلك الكتب العتيقة المخشخشة التي تنبعث منها رائحة الرّيح وشمس الذّكرات؟ ثم لماذا لم يتيسّر لي العيش وحيدا بلا تمنٍّ تحت أسقفك الواطئة وعيوني موهوبة للشبّك القرمزيّ الألوان حيث ذبابة الخيل، صديقة أيّام الطّفولة يسمع طنينها في لازورد أيّام الشّيخوخة؟ ما أجمل تلك الأيّام.. كم كانت شفيفة.. عندما كانت التلّة مزهرة، حين، في البحر الذّهبيّ للحرارة كانت المعازف الكبيرة لخلايا النّحل في دويّها ترسل الأناشيد لآلهة الرّقاد حين كانت الغيمة ذات الطّلعة البهيّة والمتجهّمة تلقي بصوب شآبيب رحمتها على القموح اللاّهثة وعلى الحجارة الظّمأى وشقيقتي زهرة الخرائب إلى أين عساك مضيت أيّتها الأيّام الرّائعة الهانئة؟ أين أنت أيّتها الحسناء الباكية، وأنت أيّتها الدّروب السّاكنة الهادئة؟ اليوم جذوعكم الخاوية باتت تفزعني لأنّ الحبّ النّاشئ الذي عرف أجمل الحكايات قد تخفّى هنا! ومنذ ثلاثين سنة والذّكرى على قيد الترقّب ولا نداء يأتي: لقد أغفت المحبّة. آه أيّها البيت! لم تركتني أغادر؟ باقات الكآبة قصائد ميلوش هذه تمكث هنا كي تخطّ اسم طفولته على الجدران وتحفزنا إلى إلقاء الباقات القديمة للكآبة في غيهب آبارنا. المنشد ولد أوسكار فلاديسلاس دي لوبيتش ميلوش في 28 مايو1877 في بيت كبير بإقليم مجهول، سيصبح فيما بعد لتوانيا. ورغم أنّه أتى فرنسا في الثانية والعشرين، لن ينسى أبداً وطنه وبيته. وسيكون هذا الشّاعر الأوروبيّ الناطق بالفرنسية منشد ذلك البلد القصيّ الذي سيتحوّل بفضله إلى بلد أسطوريّ. كان يتملّك خمس لغات، ولكن نعومة اللّغة الفرنسيّة هي التي ستأسره وتملك عليه حسّه. شعره وشاح ناعم ومواساة لا حدّ لها حان الوقت لنقرأ ميلوش ونعيد قراءته رواياته ومسرحياته وقصائده تبقى عصية على غبار الزمن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©