الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بايتة».. اختلاط المحاولة والعجز

«بايتة».. اختلاط المحاولة والعجز
16 نوفمبر 2011 22:54
كان العرض الأول لمسرحية “بايتة” في اليوم الأخير من أيام الشارقة المسرحية الأخيرة التي انعقدت في مارس الماضي. لم تكن “بايتة” من بين العروض المنافسة على جوائز الأيام بل عُرضت لمرة واحدة على خشبة مسرح معهد الشارقة للفنون المسرحية. ومن الطبيعي في الكثير من الأعمال المسرحية أن يترافق عرضه الأول مع بعض الأخطاء، خاصة في الإضاءة وعلاقتها بجسد الممثل. في عرض مسرحي المتميز قد يجد المتفرج نفسه أحيانا في مواجهة ممثل بلاملامح ولا ردود أفعال، ذلك انه يقف في المنطقة ما على الخشبة في الوقت الذي تقع فيه الإضاءة على الفراغ، فلا شيء سوى اللون والصوت. أيضا قد يستعجل البعض من الممثلين القيام برد الفعل في أدائه الشخصية التي يقوم بها فيرتبك ويربك الممثل الذي يؤدي شخصية موازية في لحظة درامية حرجة. لكن ما الذي جعل مسرحية “بايتة” تبدو مختلفة على مستوى الطرح الجمالي والخطاب الفني؟ ما الذي جعلها مقنعة إلى هذا الحدّ المثير للاهتمام إلى الحدّ الذي يتحدث فيها المتفرج عنها وفيها كثيرا عندما يغادرها وفي ذهنه الكثير من التسالات حول عدد من القضايا الإشكالية على المستوى الجمالي والاجتماعي التي طرحتها المسرحية؟ “بايتة”، التي عُرضت بعد ذلك التاريخ لغير مرة وغير مناسبة على المستوى المحلي كان آخرها العرض الذي أقيم على خشبة مسرح دبي الاجتماعي في الإمارات مول بدبي، من إخراج ناجي الحاي بعد توقف طويل عن العمل الفني، ومن تمثيل: حسن رجب وخالد البناي وموسى البقيشي وجمال السميطي ومرعي الحليان الذي هو مؤلف هذه المسرحية أيضا. تفاسير ومعاني وبدءا فإن “بايتة” ككلمة ذات مدلول اجتماعي، تشير غالبا إلى ما تبقى من طعام وبات حتى الغد، ومَنْ تأخذه العزة بالإثم فإنه لن يأكل وليس لن يأكل منها فحسب خصوصا عندما تكون العائلة ممتدة، وذلك على جاري ما يُقال في الثقافة الشعبية العربية بمجملها. أيضا تعني “بايتة” ضمن القاموس الخاص للضالعين في الأمر أن “بايتة” هي ما تبقى من خمر الأمس في جسد صاحبه ولم يذهب به النوم ولو كان نوما مديدا. “بايتة” الأخيرة هنا هي بيت القصيد وليس هي القضية التي لم ينته الجدل منها بالأمس بل ها هي تتواصل لكن اختلافها عن البارحة يتمثل في لحظة الانكشاف على الذات وإن بقوة دفع من حالة “بايتة” لكن يتوازى فيها البوح بما هو رغبة دفينة لدى الشخصيات مع تأنيب الذات بوصفه ما كان “مسكوتا عنه” بالأمس. وما يبدو لافتا في التأليف المسرحي، حيث لا يعلم المرء إلى أي حدّ التزم المخرج بالنص الأدبي للمسرحية، هو منطق التتابع السردي للانتقال من حالة إلى أخرى في مستويات متصاعدة من التوترات الدرامية، وأحيانا دون أن يشعر المرء بذلك، كما لو أن الممثلين هنا لا يؤدون شخصيات مسرحية من حيث هي شخصيات متخيلة بل ثمة نقْل لخبرات وتجارب ذاتية ينقلها الممثل إلى الخشبة، ولعل هذه الدرجة من التمثيل هي واحدة من أرقى درجاته، أي أنْ يؤدي الممثل وكأنه لايمثل بل يتفاعل مع ذاته باعتبار الشخصية قد أصبحت جزءا من هذه الذات. أيضا فإن ما هو لافت على مستوى اللغة وسهَّل للممثلين القيام بأدوارهم على نحو ما جاءت عليه، هو اللغة بمستواها اليومي والبسيط والمتداول، إنما المفهوم بنسبة لا تتجاوز سبعين بالمئة بالنسبة لمتفرج عربي مقيم من أمثال كاتب هذه السطور، وهي نسبة لعلها كافية تماما لفهم الكلام وإيماءاته التي تتضح أكثر عبر جسد الممثل وعناصر سينوغرافية أخرى. غير أن هذه العناصر ليست هي كلها كيمياء العرض بل إن الإخراج هنا أشبه بذلك الدورق الذي تتفاعل فيه هذه العناصر مع عناصر أخرى ليكون المنتج نفسه مترابطا ومقنعا. وواقع الأمر أن ناجي الحاي رغم ابتعاد اسمه عن خشبة المسرح إلى أن هذه الخشبة كانت دائما في متناول مخيلته. يشير إلى ذلك دقة الترابط بين عناصر العرض المسرحي وامساك بخيط التوتر الدرامي وإبقائه مشدودا ما أمكن له ذلك طيلة قرابة الخمسين دقيقة التي استغرقها العرض، بدءا من الكوميديا ثم انتهاء بمواقف تراجيدية فردية أجمل ما فيها أنها عابرة لكنها تحدد مصائر الشخصيات وتخرج بهم من الخشبة إلى الحياة حيث من الممكن أن نصادف أي منهم في مقهى أو شارع أو سوق او مؤسسة حكومية او خاصة وكذلك بمناسبة ومن غير مناسبة، ذلك أن ذكاء المخرج قد جعل منهم شخصيات عادية وبسيطة وممكنة. هكذا بدت “بايتة” شيئا آخر مختلفا تماما، وأكثر نضجا على المستوى الفني بحضور جملة من الإشكاليات والقضايا التي يريد العمل أن يطرحها أكثر مما أنه يريد الاجابة عليها. وثانية، عبر الذكاء اللمّاح في اختيار حكاية ـ مفتاح لطرح جملة من القضايا على نحو غير متوقع التي يقدمها ممثلون من ذوي الخبرات المميزة في التمثيل في المسرح الإماراتي ومن خلال المساحة الواسعة من الحرية التي منحها المخرج لممثليه في اختيار “كاركتر” كل شخصية على حدا كاشفة جميعا عن التعدد والتنوع الإنساني في الشخصية الإماراتية. إذ أن “بايتة” عمل مسرحي إماراتي بامتياز، دون أن يضطر إلى الاتكاء على موروث حكائي أو غير حكائي بل بالاشتباك مع واقع راهن يعيشه الناس في يومهم العادي. ارتباك الأحاسيس تدور احداث المسرحية في غرفة معيشة في بيت بلغت سهرة الأمس فيه أكثر من حدّ الثمالة لتبلغ درجة اختطاف الوزير الذي على رأس الوزارة التي يعمل فيها مجموعة الأصدقاء والزملاء معا من تراتيبات مختلفة في السلم الوظيفي، إذ أن الهدف من هذا الاختطاف بسيط وواضح: فهم إذ لا يستطيع أي منهم الانفراد بالوزير ليطلب منه ما يريد على نحو شخصي ما يجعله قادرا على مواجهة صروف الدهر ونوائبه، فقد كان الاختطاف في ذلك المستوى من الوعي الملتبس حلا أكثر بساطة من مقابلة الوزير أثناء العمل كي يشرح كل منهم مظالمه الخاصة. وفي هذا السياق من الحالة المسرحية الهزلية يسخر من كل شيء يبدو مقولبا وجاهزا او معلبا في العالم، حيث المشهد ما قبل الافتتاحي أحد المفاتيح المهمة في الحكاية وفهم الدلالة الكبرى والواسعة للعرض بأكمله. من بين تلك الأصوات العالية والعنف والصخب الصوتيين وأغاني السهر العربية الكلاسيكية، تخرج الأحاديث غير مكتملة من هنا او هناك، ومن بينها جمل مستقطَعَة عن وضع المواطنين الإماراتيين بالنسبة للجالية الهندية، فيتنبأ أحد السكارى بأن المواطن سوف يصبح عيّنة للسكان الأصليين يوما ما يشير إليها احد ابناء هذه الجالية على أنه كذلك بالفعل، لكن دون أن تشعر بأن هناك موقفا مسبقا من أبناء هذه الجالية بل هناك إشكالية من نوع ما داخل الشخصية ذاتها سوف يكون العرض كفيلا بتفكيكها وإعادة إنتاجها. لكن فعل الاختطاف في حالة ثمالة هو بحدّ ذاته، أحد التعبيرات النفسية الأكثر دلالة على العجز عن مواجهة الواقع ودلالة على جُبْن يتحول إلى جرأة مبالغ فيها في حالة الثمالة لتعود الشخصية إلى إحساسها بالعجز والجبن ثانية في ما بعد الصحو أو في حالة “بايتة”. إنها شخصيات يومية عربية مصابة بالتصدع النفسي والفكري وغير قادرة على التأثير في محيطها أو اتخاذ موقف إيجابي مما تراه سلبيا فيه. إنها، أيضا، شخصيات هامشية لا يطالها إلا التهميش والعيش في غيبوبة عن واقع بكل تفاصيله وإشكالياته. إن أكثر المشاهد تأثيرا من هذه الناحية، هو المشهد حيث كان ينبغي على كل موظف أن يقدم مظالمه ومطالبه لوزيره، تلك المظالم والمطالب التي لا ينتبه “معاليه” إلى أي منها، لتبدأ المسرحية مثلما انتهت، عفوا، لتنتهي المسرحية مثلما ابتدأت، فتضيع “الطاسة” وتضيع معها مطالب الموظفين في الصخب العالي لبناء الأبراج التي تزداد علوا وعلوا وسط بابل من اللهجات غير المفهومة ثم ليبقى الحال على حاله، او لتسدل الستارة عليه او ليجري إغماض العيون عنه تماما، بحسب المسرحية. وكان ملحوظا تماما أن هذه الشخصيات التي بدت بسيطة هي على درجة عالية من التركيب. وهنا لا بد من الإشارة إلى جهد المخرج ناجي الحاي في الربط بين هذه الشخصيات وبنائها السيكولوجي بحيث تأتي معبرة عن ما يحدث (الآن، وهنا) في المجتمع الإماراتي دون مبالغات أو إفراط في التأويل بل بكثير من البساطة التي تعتمد الكوميديا فيها على ما يُعرف بكوميديا الموقف ثم كوميديا التمثيل، أي الأداء والشخصية معا دون أن ينفصل أي منهما عن الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©