الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدولة والمواطن ومصادر الشرعية

الدولة والمواطن ومصادر الشرعية
16 نوفمبر 2011 22:57
يقول الدكتور جورج قرم في كتابه “تعدد الأديان وأنظمة الحكم”، إن حسرته كانت كبيرة من كل التطورات السلبية التي كانت تشهدها المنطقة العربية من حيث زيادة القلاقل والفتن الدينية والمذهبية الطابع. أما اليوم فالمشهد قد تغيّر، ولكن ليس من السهل إبداء التفاؤل إذ إنّ روح المذهبية ومواقع التناحر الديني والطائفي لا تزال قائمة؛ صحيح أن الاحتلال الأميركي للعراق قد فشل فشلاً ذريعاً، لكنه تمكن من تفجير الأحقاد والفتن المذهبية الفتّاكة بين السنة والشيعة، ناهيك عن مزيد من زوال النصرانية في بلاد ما بين النهرين؛ وصحيح أنّ ثورة الشعب المصري كانت ثورة عظيمة أدت الى انهيار رأس الاستبداد والفساد. وليس النظام كله، غير أن القوى الرجعية المتضررة تمكنت من تفجير الفتنة الفتاكة بين الأقباط والمسلمين في مناطق مختلفة من البلاد. ويعرض المؤلف كيف أنه ازداد قناعة بأن مفتاح الولوج الى النهضة في المجتمعات العربية هو بناء الدولة العلمانية، أي الدولة المدنية الطابع بشكل حصري، التي تستند شرعيتها الى المواطنية الكاملة غير المنقوصة لكل أفراد المجتمع والى حرية الفرد من أي جنس كان، أو دين، أو مذهب، بما فيه حرية المعتقد وحرية الاجتهاد والتأويل للنصوص الدينية، وهذه الأخيرة هي أم الحريات. ويقارب الدكتور قرم ما يحكى عن نجاح التجربة التركية حيث تبوأ الحكم حزب العدالة والتنمية دون وقوع البلد في الاضطراب والفتنة، فيقول إن الجميع ينسى أو يتناسى أن سرّ هذا النجاح يعود إلى الطابع العلماني الصارم لبنية الدولة التركية الحديثة التي فرضها مصطفى كمال. كما ينسى أو يتناسى الناس أن منبع نجاح التجربة الكمالية ليس الاستبداد والقهر، بل بالدرجة الأولى الانتصار العسكري الباهر والساحق الذي حققته على جميع الجيوش الأوروبية الحليفة المحتلة للأناضول والتي تم طردها من الأراضي التركية. وهذا ما أعطى هيبة وشرعية للحكم الجديد الذي تمكّن، بالتالي، من تغيير بنية الدولة بالقضاء على مؤسسة الخلافة وبتأسيس مرجعية علمانية وحديثة الطابع، التي أسست لقطيعة نهائية بالنسبة للحكم العثماني ذي المرجعية الدينية. يسأل المؤلف هنا هل يجب أن ننتظر في عالمنا العربي القضاء على الصهيونية التي تجسد قمة العقل الديني العنصري، وكذلك القضاء على الوجود العسكري الأميركي في أوطاننا لكي نتحرر من الفتن المحلية الفتّاكة بين أبناء المجتمع الواحد؟. وفي هذه الحالة ماذا يبقى من التعدد الديني والمذهبي والتاريخي في منطقتنا العربية عندما سيحصل ذلك، خاصة على ضؤ تزايد الفتن المذهبية الطابع في نصف القرن المنصرم وتضييق حيّز التعددية الدينية والمذهبية في مواقع عديدة من المنطقة العربية؟ ويجيب: إن النضال من أجل إرساء دعائم الدولة المدنية كما رفع شعارها في الثورتين المصرية والتونسية، أصبح واجب كل عربي حرّ يود تحرير أوطانه وأمته العربية من النفوذ الأجنبي والاحتلالات الغاشمة في هذه المرحلة التاريخية التي نحن فيها. هذا ولا بد من الإشارة إلى أن النضال ضد العنصرية الصهيونية والغربية وغطرستها لا يمكن أن ينفصل عن النضال من أجل إقامة الدولة المدنية كما بدا من خلال الثورات العربية الحديثة. لقد وضع المؤلف هذه الدراسة حول تعدد الأديان وأنظمة الحكم في أواسط الستينات فيما كان لبنان يتمتع بازدهار مادي وسياسي قلّ مثيله في ذلك الحين في المجتمعات العربية وفي العالم الثالث. فوتيرة النمو الاقتصادي فيه كانت عالية جداً؛ كما أن الأحزاب العلمانية الطابع كانت تغزو الساحة السياسية اللبنانية وتجلب أعداداً هائلة ومتزايدة من الجيل الشاب فيها. فكان الاعتقاد السائد لدى فئات واسعة من المفكرين في تلك الأيام، أن النظام الطائفي اللبناني على حافة الاحتضار والانهيار، فلا حاجة فعلية الى هدر الطاقات في دراسة ظاهرة الطائفية. وقد كان للاتجاهات الماركسية في الفكر اللبناني والعربي أثر بالغ في هذا الاستخفاف بقابلية النظام الطائفي للصمود والدفاع الشرس عن مصالحه أمام موجة التحديث العارمة التي كان يعرفها لبنان منذ بداية القرن والتي برزت آثارها المتعددة في كل جوانب الحياة العامة والخاصة، من سياسية وفنية وأدبية وفكرية. منذ العهود القديمة وحتى بروز الظاهرة الصهيونية وتكريسها في قلب الوطن العربي ليعبّر المؤلف عن مدى قلقه إزاء إمكانية قيام ردة فعل قوية وعنيفة ضد موجة التحديث هذه بكل هفواتها ونقصها، تأتي من عمق المجتمع الطائفي متلقية دعم القوى الخارجية المختلفة التي تعمل ضد تحديث الوطن العربي تحديثاً شاملاً يمكنه من التخلص من الظاهرة الصهيونية ومن الطائفيات والعشائريات العربية المختلفة. ويذكر المؤلف إنه بعد الأحداث الضخمة التي شهدتها المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي لا تزال تتفاعل على الساحتين اللبنانية والعربية، يبدو أننا وصلنا الى تقاطع مرحلة تاريخية جديدة. فالكيانات والأنظمة والحدود الموروثة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ومنذ انهيار الامبراطوريات التي كانت سائدة في ذلك الحين، أصبحت جميعها مهددة في ديمومتها بعد أن شهدنا زوال الاتحاد السوفياتي وانفجار يوغسلافيا الى دويلات عرقية هشة وانفصال التشيك عن السلوفاك في تشكوسلوفاكيا، وكذلك بداية تفكك العراق بعد حرب الخليج وبداية أزمة حكم عميقة في الجزائر تلعب فيها الحركة الأصولية الإسلامية دوراً هاماً، هذا بالإضافة الى انشقاق الصف الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة تحت وطأة الحركات الأصولية أيضاً. ويوضح إن حالة اليأس والقنوط التي تصيب الشعوب الشرق أوسطية هي الدافعة للجماهير نفسها، التي امتازت سابقاً بقوميتها العربية وباشتراكيتها، الى الارتماء في الحل الديني السهل والمبسّط وبعد أن سُدت أمامها جميع الأبواب. إن الأهداف القومية لم تتحقق سواء بالنسبة الى الوحدة العربية أو بالنسبة إلى استرجاع فلسطين السليبة، والكيانات العربية المنبثقة عن انهيار الامبراطورية العثمانية لم تحقق الحد الأدنى من التضامن بينها وبالتالي من الوجود الدولي الفعّال، بل العكس هو الصحيح إذ إن الكيانات العربية جميعها بحالة وهن وضعف بالغبن. يبدو للمؤلف أن الديانات السماوية الثلاث تمر حالياً بمرحلة خطيرة للغاية تتميّز بمحاولات متكررة، مدعومة دولياً تهدف الى قلب الأوجه السمحة، والروحية في تزكيتها للانحصار في الأوجه المتشددة الخالطة بين الدنيوي والسماوي. فحركات التشدد الديني تعمّ كلاً من اليهودية والنصرانية الشرقية والغربية والإسلام على حساب قيم التسامح والقبول بالتعددية. يضيف بل أكثر من ذلك فإن شرخاً ضخماً أصبح يفصل نفسانياً كلاً من الديانة الإسلامية من جهة والديانتين اليهودية والنصرانية من جهة ثانية. ومما لا شك فيه أن وجود إسرائيل ونصرة الدول الغربية لها بطريقة شرسة، من العوامل الرئيسية التي ساهمت في خلق هذا الشرخ العميق بين الشرق والغرب، بالرغم من مساعي الحكومات العربية المتكررة للتقرب من وجهة النظر الغربية في مستقبل المنطقة وضرورة العيش بسلام مع الدولة العبرية المستحدثة. ويخلص المؤلف إلى أننا أمام هذا الوضع المأساوي، المتأزم الى أقصى درجة، لا يمكن إلا أن نتمسك بالطرح العلماني والمطالبة بتحقيق الحداثة السياسية في المنطقة، أي مساواة الجميع أمام القانون وتعادل الفرص في المنافسة الاقتصادية والاجتماعية بين أعضاء الشعب الواحد. إن التقوقع والتراجع في مزيد من الطائفية لا يمكن أن يحلّ أياً من مشاكل المنطقة العربية، بل من شأنه فقط أن يزيدها تعقيداً، أو أن يسبب مزيداً من الانفجارات العنفية وتفتت الكيانات السياسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©