الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صور انطباعية لا تعكس الحقيقة

صور انطباعية لا تعكس الحقيقة
16 نوفمبر 2011 22:58
صورة الآخر موضوع قديم وممتد في دراسات الأدب المقارن لكن السنوات الأخيرة من القرن العشرين وما بعده طورت هذه الموضوع ليصبح الغالب على الأدب المقارن ويكاد يعرف به وتحتفي د. أمنية رشيد بهذا الملف في كتابها الجديد “الأدب المقارن والدراسات المعاصرة لنظرية الأدب”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. تقليديا كان الأدب المقارن يهتم برصد الصورة النمطية عن الآخر في الأدب، ومقارنة هذه الصورة بالواقع الفعلي، أي البحث في مصداقية هذه الصورة ودقتها، ومن ثم مصداقية الأدب ذاته ودقته، وكانت لدى الشعوب دائما صورة نمطية للآخر تتسم بقدر من التسطيح والسرعة في الرصد، فضلا عن المصلحة المباشرة. وفي الأدب الفرنسي طوال القرن التاسع عشر، نجد صورة التركي العنيد والعنيف وغالبا كان التركي يعني المسلم، ويظهر الألماني الطيب دائما، تلك مرحلة ما قبل النازية، حيث سيظهر فيما بعد الألماني الشرير، وتظهر العانس الانجليزية بأسنان بارزة والفتاة الأميركية الحرة والمتحررة، وإلى الآن يسود في الأدب الخوف من الآخر، العدو على الأغلب، وهذا يعني أن قيم الآخر هي الأكثر سوء أو سلبية، بينما قيم “الأنا” هي الأفضل والأكمل، في المقابل قد تسود حالة من الانبهار بالآخر ومحاولة تقليده والتشبه به، نجد لدى فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض” إن المواطن الذي خضع للاستعمار وقهره، يحاول أن يقلد ويحاكي من استعمره. نموذج الانبهار والتقليد يبدو في حالتين في هذا السياق وهو “جيرار دي نرفال” والطهطاوي. الأول قام برحلة إلى الشرق وجاء إلى مصر في نهاية عصر محمد علي حيث أقام بالقاهرة منذ عام 1842، وعاش حياة المصريين بكل ما فيها حتى الزواج من مسلمة وفق كل الشروط المطلوبة إسلاميا للزواج، ومع ذلك ظل متمسكا برؤيته الفرنسية لهذه البلاد وأهلها ويقول: “مهما فعلنا لقبول الحياة الشرقية، نشعر بأننا فرنسيون....” باختصار لم يجد حلمه الشرقي الذي تخيله في القاهرة وبين أهلها، فقد رأي ما اعتبره حزنا عميقا يسكن أماكنها وناسها ويعتبر القاهرة عاصمة متجذرة، ولذا يبدأ البحث عن تاريخ هذه المدينة العربية وآثار العبقرية العريقة في أحيائها ومساجدها القديمة. في نفس الحقبة، قبل عقد من السنوات، قام رفاعة الطهطاوي برحلته أو بعثته التعليمية إلى فرنسا بين عامي 1826 - 1831 ودون هذه الرحلة في كتابه “تخليص الابريز في تلخيص باريز” ونجد فيه انبهارا بالعاصمة الفرنسية، أحياءها ومبانيها، نظافة الشوارع والمطاعم الحديثة ويرصد الثورة التي وقعت عام 1830، يسميها فتنة، ويبدي إعجابا يتمسك “الفرنساويين” بالشرطة، يقصد الدستور وهكذا حالة من الإعجاب والانبهار الشديد، الأشياء التي لم ينبهر بها محدودة وحاول ان يخفف منها مثل مسألة العقيدة الدينية وغيرها. وتتوقف د.امنية رشيد عند عدد من الأعمال الأوروبية حول مصر، منها “رباعية الاسكندرية” التي كتبها لورانس دارل، عاش في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، ويتضح من الرواية النظرة المتدنية التي يرى بها الشعب المصري، بدءا من الخادم الذليل الذي يؤمن بالخرافات ويعيش على الموالد الشعبية ولا يرى فيها الراوي سوى عنفا وقسوة بالغة، وهو لا يفرق بين المولد القبطي الذي يقام للقديسة دميانة وموالد الأحياء الشعبية لأولياء الله من المسلمين. اما الشخصيات السياسية فهي مرتبطة بالبريطانيين او رجال الحكم في مصر، ولا تخلو هذه الشخصيات من انتهازية شديدة وانحراف واضح، مثل وزير الداخلية الذي يتلقى الرشاوى المالية ويضعها بين صفحات المصحف معللا ذلك بأنه يحب المصاحف الفنية، رؤية العمل والكاتب للمصريين وللعرب بالغة الازدراء والاحتقار، لم ير في مصر الاربعينيات سوى التخلف والانهيار، حتى الجاليات الاجنبية من ارمن ويونان وغيرهم مصابون بالشذوذ والانحراف، انه لم يحاول أن يفهم ذلك المجتمع الذي عاشه كي يقدم عنه صورة واقعية هو قدم الصورة التي جاء محملا بها أصلاً. وقد ازدادت الصورة عن الآخر سوءا في الفترة لأخيرة، كما حدث من الرئيس بوش الابن الذي استغل هذه الصورة عن المسلمين في شن حرب استعمارية، وظهرت الصورة عن الآخر بشعة في الرسوم السيئة التي قدمها رسام دانماركي لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بينما كانت صورة النبي مختلفة في القرن الثامن عشر في إطار عصر التنوير بفرنسا، أراد رواد التنوير انتقاد الحكم المطلق للملكية الفرنسية وما به من استبداد وفساد، فأظهروا صورة الآخر المصلح.. الفاضل، كانت صورة طوباوية، وجدنا لدى فوليتر وديدرو أحاديث عن نبي الإسلام باعتباره مصلحا، أقام حكومة عادلة، وتصدى لظلم أثرياء مكة وأشرافها الذين يظلمون عبيدهم، وظهرت كتابات أخرى عن النبي “صلى الله عليه وسلم” باعتباره ابن البادية الذي لم يقترب من فساد المدينة وموبقاتها. وفي العصر الحديث ومع التوسع الاستعماري الأوروبي في مناطق آسيا وأفريقيا ظهر الآخر في الأدب والكتابات الأوروبية متخلفا وهمجيا ينتظر المستوطن الأوروبي الذي ينقله من البداوة إلى الحضارة، وخدمت الصورة الأدبية والفكرية المشروع السياسي والاستعماري في أفريقيا وآسيا وعانت بلادنا العربية من ذلك، والكتابات الأوروبية عديدة عن مصر والشام والجزائر والجزيرة العربية وغيرها، لكن مؤخرا ومع اتساع حركة التحرر من الاستعمار، بدأت رؤى جديدة في الادب المقارن تقوم على انتقاد المركزية الأوروبية ومحاولة تفكيكها، ولعب عدد من الكتاب والمفكرين دورا مهما في ذلك، مثل “تفتيان تودروف” في العديد من كتبه، خاصة كتابه “نحن والآخرون” وقد درس نموذج الهنود الحمر وما تعرضوا له من إبادة على ايدي القادمين الى بلادهم يستعمرونها، وكيف لعبت الرؤية المنحازة ضد الآخر دورا في تبرير عمليات الإبادة التي تعرضوا لها، ثم جاء أدوار سعيد في عام 1978 ليصدر كتابه المهم “الاستشراق” والذي يعد نقطة تحول في دراسات الأدب المقارن، فقط ربط سعيد بين الصورة عن الآخر وسياقها السياسي والاجتماعي والثقافي، وانه من أجل أطماع سياسية محضة جرى تقديم صورة متخيلة للآخر تتيح للمشروع السياسي ان يتحقق وكذلك تقدم تبريرا أخلاقيا وإنسانيا له، واستخدم ادوار سعيد مناهج جديدة في هذا العلم، ثم انه دعا إلى الاستعانة بالعلوم الأخرى، ووضع عدة قواعد منها ضرورة فهم لغة الآخر أو البحث عن لغة مشتركة ليتم التفاهم بها وفهم شروط الهيمنة او التبعية بين الآخر، ومن ثم السياق السياسي والاجتماعي كله. رؤية الآخر في الأدب المقارن ليست سوى قسم من قسمي كتاب د. أمنية رشيد، اما القسم الثاني فتعكف فيه على تناول المنهج في الأدب المقارن، وتدرس جماليات الرواية والايديولوجيا فيها وتتوقف أمام نجيب محفوظ في بين القصرين والباب المفتوح رواية لطيفة الزيات وكذلك التربية العاطفية لجو ستاف فلوبير والمتمرد لجول فاليس. قدمت د. أمنية رشيد فصول كتابها للدارسين المتخصصين في المقام الأول، وغلب عليها الطابع الأكاديمي لكن هذا الجانب مهم للقارىء وللمثقف العادي ليكون ملما بجوانب هذا العلم الذي يستحق اهتماما اكبر ومجهودا أكثر، فقد كان الأدب المقارن مدخلا لتناول صورتنا وأحوالنا كما يراها الغرب أو كما يحلو له أن تكون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©