الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طه حسين في دبي: 40 عاماً من المستقبل

طه حسين في دبي: 40 عاماً من المستقبل
13 نوفمبر 2013 20:41
لعل العودة إلى سيرة وأدب وفكر طه حسين، لا تمثل العلامة الأكثر دلالة على مأزق الثقافة العربية في المرحلة الراهنة، لأسباب عدة، ليس أقلها أنها سابقة لعصرها، وتستمد مشروعية العودة إليها من حيويتها الراهنة فحسب، وإنما لأن الوعي العربي بعد أربعين عاماً على رحيل عميد الأدب العربي، ما زال عاجزا عن تجاوز الموضوعات، التي ناقشها في كتابه “في الشعر الجاهلي” قبل وفاته بحوالي نصف قرن إلا قليلا. لا بل هجرها العقل العربي في الوقت الراهن، وبات بعيداً عنها أكثر من ابتعاد طه حسين في مرقده الأخير. علماً أن العميد ما كان له، أن يقدم على إنجاز كتاب “في الشعر الجاهلي”، لو لم تكن بنيته مواصلة تفكيك كامل المنظومة التراثية العربية قبل الإسلام وبعده إذا اطلعنا على مقالاته السابقة للكتاب بثلاث سنوات مثل “العلم والدين”، التي مثلت بداية جديدة في مسيرة طه حسين الفكرية، قطعت نهائياً مع توفيقية محمد عبده الإصلاحية الإسلامية، التي قدمها من خلال كتابه “الإسلام دين العلم” الذي أصدره عقب زيارته لفرنسا وبريطانيا، وتحولت لاحقاً إلى مقولة “أسلمة المعرفة”، فيفصل طه حسين في مقالته تلك، بين العلم والدين لأنهما متناقضان بالمعنى المعرفي، ذلك لأن العلم متغير ومتطور دائماً، أما الدين فهو ثابت لا يتبدل ولا يتحول، فيقول العميد: “لا نرى الخصومة بين العلم والدين من حيث هما علم ودين، وإنما نراها واقعة بين القديم والجديد، من حيث هما قديم وجديد”، في محاولة للفصل بين العلم والدين، كمعادل إيبسيتمولوجي (معرفي)، للفصل بين الدين والدولة، حسب تعبير الباحث محمد جمال باروت في دراسة له بعنوان “طه حسين وأسئلة العلمنة إبيستمولوجياً” أي معرفياً. كذلك يمكن النظر إلى موقف طه حسين المؤيد والمساند لكتاب علي عبدالرازق “الخلافة وأصول الحكم” الذي شرعن به عبدالرازق خطوة كمال أتاتورك في إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية، لصالح الدولة الوطنية الحديثة، وانقلبت الدنيا عليه هو الآخر، حيث تم تكفيره وزندقته واتهامه بالخيانة والعمالة، وأقيمت له محكمة دينية على غرار المحاكم القروسطية. وللتذكير فإن كتاب علي عبدالرازق صدر قبل عام واحد من كتاب طه حسين. كذلك يمكن ملاحظة هدف مشروع عميد الأدب العربي التفكيكي لكامل المنظومة التراثية، بثبته للمنهجية التي اعتمدها في كتاب “في الشعر الجاهلي” مفصلة، بعد مقدمة الكتاب، ليوضح من خلالها، أنه يسلك مسلكاً علمياً دقيقاً، محايداً وبعيداً كل البعد عن مفاهيم الانحياز المسبق لنتائج بعينها، وذلك في محاولة منه تمهد لخطوته اللاحقة، التي وئدت بالحملة الهوجاء على الخطوة الأولى. حكاية أخرى ولكن إذا كانت المعركة، التي شُنت على طه حسين بعد إصداره ذاك الكتاب، كانت بأقصى استهدافاتها ترمي إلى تجريده من شهاداته العلمية، وحرمانه من وظيفته والتضييق عليه بلقمة عيشه، وانتهت بإجباره على حذف أول أربعة فصول من كتابه وتغيير اسمه ليصبح “في الأدب الجاهلي”، فإن مثل تلك المجازفة اليوم، تجعل صاحبها يتحسس عنقه، أو يتلمس رأسه عشرات المرات، قبل أن يفكر بخطوة مشابهة. فمن لم يمت يا صاحبي، شاهد حسين مروة السبعيني، العاجز عن المشي، كيف اقتيد من منزله، ليحاكم على “النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية”، ويلقى بجثمانه في مكب للنفايات في خلدة (جنوب بيروت)، وشاهد صاحب كتاب “الطائفية في لبنان” مهدي عامل (حسن حمدان) ببزته الرياضية مرمياً جثة هامدة على منارة بيروت، التي كانت “سويسرا الشرق في الستينيات”. كما شاهد فرج فودة مطرزاً بالطلقات في قلب قاهرة المعز، وشاهد نجاة صاحب “أولاد حارتنا” من الذبح بنصل جزار مبتدئ، أما فرار نصر حامد أبو زيد إلى “بلاد الكفرة” ليمنع النخاسين من سرقة زوجته وأسرته منه بحكم الردة، فتلك حكاية أخرى.. تلاها تشريع أبواب الجنون على حكايات أدهى وأمَرّ، حيث صار قطع الرؤوس بالسيوف على شاشات التلفزة، فضلاً عن القتل الجماعي بالسيارات المفخخة، خبط عشواء، من دون الحاجة إلى مبررات خلافية في التأويل والتفسير أو التحليل، بل صار الصوت الانتخابي يختزل الجنة والنار؟! ما يعني أن أي محاولة جديدة لتفكيك منظومة التراث العربي، سواء في مرحلة ما قبل الإسلام أو ما بعده، ما زالت عملية دونها خرط القتاد، كما تقول العرب. ذلك لأن كتابة سيرة تلفزيونية لشخصية من قادة الفتوحات الإسلامية، بعد سبعة وثمانين عاماً على إصدار كتاب “في الشعر الجاهلي”، تستدعي الموافقات المسبقة من جميع المرجعيات الدينية بطوائفها ومذاهبها المختلفة. فكيف يكون الحال بالبحث ومقاربة النصوص برؤى متعددة التأويل والتفسير أو التحليل؟ التي من دونها تستحيل المصالحة مع الماضي، وقبوله أو الإقبال عليه بكل مكوناته المعرفية الخاطئة أوالصائبة. وطالما ظل شبح التقديس يحوم فوق المنظومة التراثية، ستبقى الثقافة العربية تواجه دائرة مغلقة من الأزمات، تتجدد كل مائة عام بأعنف وأقسى مما كانت عليه، حسب تعبير الدكتور محمد عبدالله المطوع، أمين عام مؤسسة سلطان العويس الثقافية، التي أحيت أربعينية عميد الأدب العربي طه حسين بندوة موسعة، عقدت خلالها أربع جلسات، شاركت فيها كوكبة من الكتاب والنقاد الأكاديميين العرب على مدى يومين مطلع الشهر الجاري في دبي. النصوص المعطاء إن النصوص التراثية، سواء أكانت أدبية أم نقدية أم فكرية، اتفقنا معها أم اختلفنا، فلا شك أنها تستمد أهميتها الريادية، من استمراريتها، أو استمرارية فعاليتها في المنظومة الثقافية، التي تنتمي إليها بالحد الأدنى. كما تستمد شرعية راهنيتها من حيويتها وديناميكيتها وتأثيرها في الوعي المعاصر، بشقيه التقليدي أو الحداثوي، الذي يدعي أنه يتلمس الطريق إلى المستقبل. ما يُحَتِمُ قراءتها بحرية كاملة، وشجاعة كبيرة، وحرفية أكبر، بالمعنى التخصصي، وفوق هذا كله لابد أن تكون قراءة متصالحة، بل حادبة على النصوص، وإلا سوف يبقيها الخوف محنطة، إما من كثرة التمجيد والترديد الببغائي، أو من الحجر عليها وإقامة الحدود والسدود حولها. من هذا المفهوم يفترض مقاربة سيرة طه حسين الأدبية والفكرية، كونها ما زالت ترفل بنضارتها، وتحتفظ برياديتها على تقادمها، لأنها بمجملها انطلقت من هم معرفي، مستعينة بهدي وأدوات العلم الحديث، لفتح شرفات التراث على المعاصرة والمستقبل. لذلك يتحتم الاطلاع على منهجية البحث، أو آلية التفكير لدى طه حسين في كل ما كتب، بعين علمية ناقدة، تشبه إطلالته الأولى على تراث الأولين، بوصفه أحد رواد حركة النهضة بما له وما عليه، أو على الأقل، تشبه إطلالة ناصر الدين الأسد أو شوقي ضيف، وكلاهما عالج قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وتوصلا إلى نتيجة مغايرة لنتيجة طه حسين، ولكن من دون التشكيك بدينه أو نواياه. لأن قيمة الأفكار الرائدة، لا تتوقف على صحتها فقط، وإنما على قدرتها في تحريك المياه الراكدة، التي قد تفتح للعلم سبل البحث والتحليل. فضلاً عن خصوصيتها بالقدرة على إلهام وتحفيز العقل والخيال الإنساني. ولا يعني الإلهام هنا، أن تكون مجموعة من الحِكَم أو التوصيات، أو النصوص الدينية التي لا تُبَدَّل، بل الإلهام ينبع من كونها تمثل آفاقاً للتأمل، تسمح بإلقاء الأسئلة الجذرية العصرية عليها. وبفضل رصيد الأفكار الرائدة من الصواب أو الأخطاء المثمرة فإنها تستطيع أن تلهم القارئ العصري المحب للنص أو المتصالح مع النص، رؤى أخرى قد تحركنا إلى الأمام، ذلك لأن النصوص الرائدة معطاء بصوابها وخطئها، حسب تعبير الدكتور مجدي توفيق في دراسته القيمة، التي حملت عنوان “الأخطاء الملهمة لطه حسين”. من دون شك، فإن طه حسين غرد بعيداً عن السرب الأزهري مبكراً، حينما كان يقف بوجه شيوخه احتجاجاً على وسائل التعليم الأزهري التلقيني، وازداد بعداً عن الأزهر، حالما انتسب إلى الجامعة المصرية، وراح ينهل من العلوم الحديثة على أيدي الليبراليين المصريين والمستشرقين الغربيين، فكافأه الأزهر بالرسوب، في الوقت الذي كان يحقق نجاحات لافتة في الجامعة المصرية، حيث حاز على الدكتوراه في بحث عن قدوته في الحياة أبي العلاء المعري، واحتفت الساحة الثقافية حينها بأول طالب يحصل على هذه الشهادة من الجامعة المصرية، لاسيما أنه فاقد للبصر، وظلت التكريمات المصرية والعالمية تتوالى على مبدع “المعذبون في الأرض”، و”حديث الأربعاء”، و”دعاء الكروان”، القصة التي تحولت إلى فيلم من كلاسيكيات السينما المصرية، قامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة. وفي الوقت عينه كانت مقالات طه حسين أخذت طريقها للنشر في أهم الصحف في ذلك الوقت، جريدة “الجريدة” التي يرأس تحريرها أحد أهم أعمدة الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد، الذي تنبأ بمستقبله قائلاً “إن طه حسين من مصر موضع فولتير من فرنسا”. وكان السيد قد تبناه منذ أول مقالة نشرها، حيث وصفه بقوله “أنت أبو العلائنا”، وبقي مناصراً له في كل معاركه الأدبية والفكرية. ويعتبر تمرد عميد الأدب العربي على الأزهر امتدادا لتمرده على واقعه الاجتماعي وإعاقته الشخصية، إذ إن أماني الأسرة عندما أرسلته إلى الكتّاب، كانت بحدود تعليم الفتى الضرير القرآن ليصبح مقرئاً في المآتم وعلى القبور في الأعياد، أو مؤذناً في مسجد البلدة، وعلى أبعد تقدير أن يكون إمام مسجد، إلا أنه شد انتباه من حوله بتوقد ذهنه، فكبر حلم الأهل مع إرساله إلى الأزهر، لعله يكون فقيهاً أو قاضياً شرعياً، غير أن ما كان ينتفض في جوانح الفتي الضرير، أكبر بكثير من توقعات أقرب الناس إليه، عندما عزم على دق أبواب أعرق الجامعات في العالم، فالهدف “السوربون” لا غيرها، ما فاجأ الجميع وأصابهم بالحيرة والارتباك، فأجمعوا على رفض طلبه، بداعي “فقدان البصر وعدم إجادته الفرنسية”. لكنه فاجأهم مرة أخرى بعد شهور قليلة أمضاها في مدرسة خاصة لتعليم الفرنسية، بأنه أجادها أيما إجادة، وعلاة على ذلك طلب من الجامعة أن تمنحه الراتب نفسه الذي تمنحه لأقرانه، وسوف يتحمل هو مسؤوليات مرافقه، وبالفعل كان لطه حسين ما أراد، وذهب إلى فرنسا، وحاز أعلى شهاداتها، ليعود إلى مصر ويكون نجمها الأدبي الأول، بل عميد الأدب العربي في ديار الضاد من دون منازع. مرجل حداثي لا ريب أن طه حسين كان بداخله مرجل حداثي متقد، دائم الضرام، وكان لديه الكثير من الطموحات المعرفية في مجالات مختلفة، كما حال كتاباته المتنوعة على مختلف الأجناس الأدبية والتيارات الفكرية والمذاهب النقدية، وكان بطبيعته المعرفية العلمية، متمرداً على الفكر التقليدي، ويهوى السجال ومقارعة الحُجة بالحُجة والفكرة بالفكرة. ولكن الهجمة الشرسة التي شنها عليه سدنة القديم، حالت دون مواصلته كشوفاته البحثية، وهذا يؤخذ على سيرته، عندما انصاع للهجمة الهوجاء، وعدل ما عدل في كتاب “في الشعر الجاهلي”، ليس هذا فحسب بل توقف عن مقارباته الفذة للمنظومة التراثية. وهو بكل الأحوال عبر عن طبيعته السيكولوجية غير المغامرة، الميالة إلى الدعة بعيداً عن منغصات العيش، حيث يقول في الفصل التمهيدي لكتاب “في الشعر الجاهلي”، حينما أورد خصائص أنصار الجديد، في مقابل أنصار القديم، أو خصائص الذين يحبون متعة الشك ورضا القلق، في مقابل الاطمئنان الذي يألفه أنصار القديم بعد أن أغلقوا باب الاجتهاد واستراحوا ليقين عقيم عفى عليه الزمن: “ولست أزعم أني من العلماء. ولست أتمدَّح بأني أحب أن أتعرض للأذى، وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة. وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا. ولكني مع ذلك أحب أن أفكر، وأحب أن أبحث، وأحب أن أعلن إلى الناس ما أنتهي إليه بعد البحث والتفكير. ولا أكره أن آخذ نصيبي من رضا الناس عني أو سخطهم عليّ حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون، وإذن فلأعتمد على الله، ولأحدثك بما أحب أن أحدثك به في صراحة وأمانة وصدقٍ، ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتاب، ليُدخلوا على الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير”. رشوة بالتواضع إن طه حسين سواء بثبته منهجية البحث التي اعتمدها، أو في هذا الاقتباس الأخير، هو يريد أن يتصالح مع التقليديين، أو لنقل إنه يريد رشوتهم، بقوله بداية، إنه ليس من العلماء، وثانياً هو يطمئنهم بكشف طبيعته المسالمة، حينما يقول لهم إنه لا يطمح إلى الأضواء بافتعال النزاعات أو الأزمات الفكرية، وإنه ليس بيائس من حياته، لا بل يؤكد لهم، أنه يعشق ملذات الحياة ويميل إلى الدعة والسلام. وهو يقول ما يقول لأنه يدرك مسبقاً أنه يدق أسفيناً كبيراً في أساس ثباتهم وجمودهم، وأنه سيشرع بابا لريح عاصف تقتلعهم من الجذور وترميهم في غياهب النسيان الأبدي، إذا ما هبت على الوعي العربي بعامة. وهو صادق في كل ما قاله، ما عدا الرشوة التي ادعى فيها أنه ليس بعالم. وهذا ما تأكد بعد التهديد والوعيد، حيث ألغى أربعة فصول من الكتاب وغير عنوانه، كما أشرنا آنفاً، ولم يعد لتلك المحاولات الإشراقية العظيمة فسحة للتنفس، بعكس الشيخ علي عبد الرازق، الذي أصر على كل كلمة قالها في كتاب “الإسلام وأصول الحكم” الذي أوضح فيه أنه لا معنى للخلافة، وأن لجماعة المسلمين الحق في تشكيل الحكم الذي يناسبهم اجتماعيا، وأنه لا مانع دينيا من تغيير شكل الحكم بما يتلاءم مع كل المراحل. وتحمَّل تبعات تجريده من شهاداته العلمية وفصله من منصبه القضائي، وحرمانه من كل حقوق المواطنة بإباء لا يقبل الانحناء أو المساومة. كما تروي الوثائق: لما دخل علي عبد الرازق مكتب شيخ الأزهر، وجد أربعة وعشرين من العلماء يلتفون حول الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، إمام الجامع الأزهر آنذاك، فألقى عليهم عبد الرازق السلام، فلم يرد عليه أحد منهم. وبعد لحظة صمت قال الشيخ أبو الفضل بعصبية: أقعد عندك. فقعد عبد الرازق على كرسي أعد له قبالة الشيخ أبو الفضل مباشرة. أمسك الشيخ أبو الفضل الكتاب وسأل عبدالرازق: ده كتابك؟ رد عبد الرازق: “أيوه ده كتابي”. سأله الشيخ أبو الفضل: وأنت مصمم على كل ما ورد فيه؟ رد عبد الرازق: أيوه مصمم على كل ما ورد فيه. رمى الجيزاوي الكتاب على المنضدة التي أمامه بعصبية قائلاً: “هذا الكتاب كله ضلال وخطأ، ولكن توقفنا عند سبع نقاط فقط، علما أن هناك نقاطاً غيرها كثيرة، وكلها ضلال أيضاً”. وراح يقرأ له النقاط السبع التي يعترضون عليها، وكانت أخطرها النقطة التي يتهمونه فيها بأنه حول الشريعة الإسلامية إلى شريعة روحية فقط، ليس لها علاقة بالحكم والفصل بالمسائل الدنيوية. أي تفصل الدين عن الدولة بالكامل. فاحتج الشيخ عبدالرازق بأن المحاكمة ليست قانونية، وأن القضية ليست من اختصاص الأزهر، غير أن شيوخ الأزهر أصروا على محاكمته. وأصدروا الحكم التالي: حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر، بإجماع أربعة وعشرين معنا من هيئة كبار العلماء، بإخراج الشيخ علي عبدالرازق، أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية، مؤلف كتاب “الإسلام وأصول الحكم” من زمرة العلماء. ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر، والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية. الحكم بمعنى من المعاني، هو شطب الشيخ علي عبدالرازق معنوياً واقتصادياً واجتماعياً بشكل كامل. ومع ذلك لم يبدل في كتابه حرفاً واحداً، ولم يعرف عنه أنه تراجع عن موقفه، سوى تصريح ينسب إلى الشيخ محمد الغزالي يقول فيه “إن عبدالرازق تراجع عن موقفه” قبل وفاته عام 1963. وَهَنَ التمرد المؤكد أن صدمة عميد الأدب العربي طه حسين بالهجمة الشرسة على كتاب “في الشعر الجاهلي” كانت قاسية. والمؤكد أيضاً أن إرغامه على التراجع عن أربعة فصول من بحثه الريادي الفذ، أصاب جذوة التمرد بداخله بوهن رافقه طيلة حياته، لأنه توقف عن الإشراقات الحقيقية في البحث والتنقيب، وكشف الحجب المتعالية منذ مئات السنين، التي تسجن موروثنا الثقافي في مرابعه الأولى. ولعل أبرز دليل على انطفاء روح الشك العلمي في مخيلته، هي مقالته التي كتبها إلى مجلة “الحديث” الحلبية عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، بعنوان “حياتنا الأدبية”، منشورة في كتاب صدر لأول مرة عن “مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية”، بعنوان “طه حسين في مرايا جديدة” بمناسبة أربعينيته، أعده وقدم له الدكتور محمد شاهين، فيقول العميد في المقالة صفحة 42: “...أخص ما يلاحظه المتتبع لحياتنا الأدبية في هذه الأعوام الأخيرة أنها فاترة راكدة، لا يظهر فيها نشاط ولا إنتاج. فقد يمضي العام كله بل قد تمضي الأعوام دون أن يظهر في أفقنا الأدبي رأي جديد أو فكرة طريفة أو دعوة إلى مذهب لم نعرفه من قبل. إنما هي إعادة مستمرة لما كان يقال وترديد متصل لما كنا سنتخذه موضوعاً للكتابة والحديث. وهذا الركود مؤلم حقاً إذا قرناه إلى ذلك النشاط الغريب الخصب الذي ظهر في حياتنا الأدبية بعد الحرب الكبرى وبعد الثورة الوطنية خاصة. فقد كان هذا النشاط قيماً حقاً، خصباً حقاً، لفتنا إلى أنفسنا ولفت الناس إلينا، فإذا نحن نرى من أنفسنا ما لم نكن نرى من قبل. نشهد ابتكاراً في الرأي واجتهاداً في التفكير وإنتاجاً في الأدب وخصومات تثار حول هذا كله، فتضيف فتضيف ابتكاراً إلى ابتكار واجتهاداً إلى اجتهاد وإنتاجاً إلى إنتاج. لا نكاد ننظر في صحيفة إلا رأينا مظهراً لهذه الحياة الخصبة، ولا يكاد يمضي الأسبوع إلا رأينا رأياً جديداً نفكر فيه ونقاومه بالمناظرة والجدال. وكان الرأي العام نفسه يشاركنا في هذا النشاط. فكانت الجماهير ترضى وتسخط، وتؤيد وتقاوم، وكنا نشهد في تلك الأوقات أجمل ما تمتاز به الحياة الأدبية المنتجة، وهو تعرض المفكرين والمنتجين للأذى في سبيل ما يفكرون وينتجون”. لقد دعا طه حسين (1889 ـ 1973) إلى نهضة أدبية شاملة، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، وقد أثارت آراؤه الكثيرين، كما وُجهت له العديد من الاتهامات، ومع ذلك استمر في دعوته للتجديد والتحديث من خلال إبداعاته الأدبية، وأخذ على الأسلاف من المفكرين والأدباء طرقهم التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، ومدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، هذا بالإضافة لأهمية إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية والأدب ليكونوا على قدر كبير من التمكن والثقافة، بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس. وما زالت نصوصه تفيض بالدعوة إلى التجديد والتحديث، وتنضح بالأسئلة المعرفية المعاصرة، التي تشرع الأبواب على المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©