الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة الدم..

قصة الدم..
13 نوفمبر 2013 20:43
يطرح كتاب “تاريخ العنف من نهاية القرون الوسطى إلى اليوم”، سؤالا كبيرا عن جذور العنف في أوروبا، هو: هل الإنسان ذئب تجاه أخيه الإنسان؟، وقبل أن يجيب بالدرس والتحليل عن السؤال، يسجل أن الواقع الراهن في أوروبا وبقية العالم، يحمل في سماته وأحداثه صفات العنف الناتج عن الأعمال الإرهابية أولاً، وعن النزعات العدوانية الفردية والمجتمعية ثانياً، ما يجعله في صدارة اهتمام الإعلاميين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسيين. مؤلف هذا الكتاب هو Robert Muchembled روبير موشمبلد (69 عاما) وهو أستاذ جامعي ومؤرخ فرنسي مختص في تاريخ أوروبا، ومهتم في بحوثه بالتحولات الاجتماعية في القارة الأوروبية، ومختص في تحليل التاريخ الاجتماعي في كل مظاهره، حتى أنه ألّف كتابا كاملا عن ظاهرة الشعوذة في تاريخ أوروبا. وقضى المؤلف أكثر من أربعين عاما في التنقيب ودراسة ظاهرة العنف، وله بحوث كثيرة تناول فيها مختلف مظاهره وأشكاله والممارسين له. ويتضمن الكتاب تسعة فصول تناول فيها روبير موشمبلد بعمق “قصة” العنف لدى الفرد وفق التسلسل الزمني، وخصص الفصل الأول لمحاولة التعريف بمفهوم العنف في مختلف مظاهره، مبينا أن كلمة “العنف” في اللغة الفرنسية مشتقة من أصل لاتيني وتعني القوة. وخصص الفصل الثاني لتحليل محتوى الروايات البوليسية من القرن السادس عشر ميلادي إلى أواسط القرن العشرين، وانتهى إلى القول بأن كتّاب الروايات البوليسية يبالغون في إبراز مظاهر العنف بكل أشكالها، ولكن المهم إن الرغبة في إسالة الدماء مرت من “الواقع” اليومي في حياة المجتمعات الأوروبية إلى “الخيال” من خلال أبطال وأحداث القصص البوليسية. وخصص المؤلف الفصل التاسع من بحثه التاريخي لتحليل ظاهرة العصابات وعودتها بعد أن اختفت فترة من الزمن، فقد عادت بقوة منذ عام 1945، ولكن ـ وخلافا لما يعتقده الكثيرون ـ فإن ظاهرة تكوّن العصابات الإجرامية تقلصت هي الأخرى في الحاضر مقارنة بالقرون الماضية. استنتاجات غير متوقعة ويجزم المؤلف منذ السطر الأول من مقدمة كتابه بأن ظاهرة العنف في المجتمع الأوروبي تقلصت منذ القرن الثامن الميلادي إلى اليوم، وان نسبة جرائم القتل انخفضت انخفاضا كبيرا، وقد بنى استنتاجه هذا بالرجوع إلى سجلات الشرطة وأرشيف وزارة العدل وكل المؤسسات وأجهزة الدولة التي لها صلة بموضوع بحثه، ملاحظا أن الفرد في المجتمعات الأوروبية أصبح أقل عنفا بداية من القرن الثالث عشر ميلادي، وان العلاقات بين الناس بدأت تلتزم بقوانين تنظم الحياة المدنية وتعاقب مرتكبي العنف. والمؤرخ درس ظاهرة العنف على امتداد تسعة قرون بأكملها، من العصر الوسيط والى اليوم، محللا العوامل التي ساهمت في التحول الحاصل في أوروبا داخل الأسرة والمجتمع، ليستخلص أن الفرد في المجتمع الأوروبي أصبح أكثر تحضرا وأقل عنفا تدريجيا.. وهكذا فإن هذا الكتاب يدحض النظرية القائلة بأن العنف استفحل في المجتمع الغربي اليوم أكثر من الماضي، علماً بأن المؤلف يستثني في دراسته هذه الحروب، فهي خارج بحثه. وجاء في الكتاب أن من بين الأسباب التي ساهمت في تقليص أعمال العنف والجريمة، منع حمل السلاح إلا بترخيص من الدولة، وكذلك منع ـ في فترة سابقة ـ النبلاء والأشراف من المبارزة بالسيف من أجل فض الخلافات. والمؤلف الباحث يجزم أن معدل الجريمة في المجتمعات الغربية انخفض مائة مرة عما كان موجودا في القرن الثامن ميلادي، ويبين موشمبلد في كتابه أن التمدن وهجرة نسبة كبيرة من المواطنين من الريف واستيطانهم بالمدن الصغرى والكبرى، لم يساهم ـ خلافا للاعتقاد السائد ـ في ازدياد نسبة أعمال العنف وعدد الجرائم، بل بالعكس فإنه ساهم في تقليصها. والمؤلف يستعرض الأرقام والظواهر مقدما تفسيراته واستنتاجاته، ومن بين تلك الاستنتاجات التي توصل إليها، أن الإنسان العنيف والمرتكب لأعمال إجرامية يكاد تكون له نفس المواصفات عبر العصور المتتالية، فهو عموما شاب أعزب، مما دفع بالباحث إلى التساؤل إن كان الإنسان العنيف يولد عنيفا، وإن كان العنف متأصلا فيه أم أن العنف مكتسب؟ ومن بين الاستنتاجات التي انتهى إليها الكاتب، أن النساء المرتكبات لجرائم العنف في كل الدول الأوروبية وعلى مر الأزمنة والعصور والى اليوم، لم تتجاوز نسبتهن عشرة في المائة فقط مقارنة بنسبة الذكور، مؤكداً أن أكثر جرائم العنف يرتكبها شباب تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاما. وللباحث تفسير آخر يعتمد صراع الأجيال وصعوبة استبدال جيل بآخر في العصر الوسيط وما تلاه، فالكهول كانوا متمسكين بمراكزهم الاجتماعية ومتشبثين بمواقعهم تاركين الشبان من العزاب على الهامش لفترة زمنية طويلة. مقارنات ومعارضات ولا بد من الإشارة إلى أن هناك كتباً أخرى لا توافق مؤلف هذا الكتاب في ما ذهب إليه ولا ترى أن ما وصل إليه هي حقائق مطلقة، بل إنها حسب رأيهم قراءة إديولوجية في التاريخ. ويؤكد المؤلف أنه انكب على مقارنة عديد المراجع والمصادر للتعمق في دراسة ظاهرة العنف في أوروبا، معتمداً على كتب المؤرخين ودراسات علماء الاجتماع والباحثين في العلوم الإنسانية قديما وحديثا. وأورد بعض آراء من يخالفونه الرأي من المختصين الفرنسيين لمناقشتهم. فروبير الياس مثلاً، وفي كتابين شهيرين له، يفسر ظاهرة تقلص العنف في المجتمعات الغربية على مر العصور بتغير العادات، مؤكداً أن العنف هو اليوم عنف الدولة، ويقدم أطروحات مختلفة. وقد أورد والمؤلف هذا الرأي ولكنه يصفه بأنه غير مقنع، مشيراً إلى أن تغييرا جذرياً راديكالياً حصل منذ عام 1300 ميلادي في ما يسميه “ثقافة العنف” التي مرت من لغة جماعية مقبولة إلى ممنوعات يرفضها المجتمع ويشير المؤلف إلى أن العنف الذي شهدته ضواحي باريس والمدن الفرنسية الكبرى عام 2005 يذكر بثورات الفلاحين في فرنسا في القرن السابع عشر ميلادي، والقاسم المشترك هو الشعور بالظلم والإهانة والتهميش، مؤكداً أن العنف ارتبط بفئة المراهقين المهمشين في الأعوام الأخيرة بالضواحي الباريسية وضواحي المدن الفرنسية الأخرى المزدحمة بالمهاجرين الذين يشكون البطالة والتهميش. ويتساءل الباحث في خاتمة كتابه: هل من الممكن أن ينتهي العنف في أوروبا؟ وهو يجيب بأن تصادم الأجيال وصراعها بسبب ما يسميه “التنافس الليبرالي” لا يترك مجالاً للأمل..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©