الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جدلية «الأنا»

جدلية «الأنا»
13 نوفمبر 2013 20:43
أصدرت دار توبقال في الدار البيضاء، ضمن سلسلتها المتميزة “دفاتر فلسفية” كتابا يحمل عنوان “الغير”، وهو من إعداد وترجمة الباحثان محمد الهلالي وعزيز لزرق. ويقع الكتاب في 87 صفحة من القطع الصغير، ويحاول معدا الكتاب الاقتراب من مفهوم “الغير” وفك ما يعتري هذا المفهوم من تساؤلات حيرت كبار الفلاسفة منذ حقب ولازمة بعيدة، فقد دأب التفكير الفلسفي منذ إرهاصاته الأولى على جعل السؤال معولاً لحفر معرفي يبتغي خلق تراكم إنساني بصدد معرفة وفهم الطبيعة والكون والوجود من جهة، ويتقصّد سبر غور الذات الإنسانية من أجل فك مغاليق كنهها واختراق معالم تعالُقاتها مع محيطها وعالمها الخارجي من جهة ثانية. يتعلق الأمر بانشغال فلسفي يضع الذات المفكرة في قلب جدلية الداخل والخارج، لكن ما يميز الفلسفات المعاصرة هو كونها فلسفات بقدر ما عمقت التفكير في هذه الجدلية، بقدر ما جعلت سؤال الغير سؤالاً محورياً في قلب هذه الجدلية. ويتساءل الباحثان في توطئة الكتاب: ألا يمكن اعتبار الحضور العرضي للغير سابقاً، اعترافاً ضمنياً بصعوبة معرفته وسبر كنهه؟ أو بصيغة أخرى ألا يمكن اعتبار اهتمام الفلسفات المعاصرة بسؤال الغير اعترافاً عليناً بهذه الصعوبة، وتعميقاً أكثر للحاجة إلى الوعي بها والتفكير فيها؟ تصورات مُبطنة ويرى الباحثان أن الفلسفات المعاصرة، أسست منظومة مفاهيمية جديدة: الوجود مع، الوجود من أجل الغير، الغيرية، الخ.. يتعلق الأمر بالتنبيه لمسألة جوهرية هي أن صعوبة معرفة الغير، لا تلغي إمكانية جعله موضوعاً للتأمل والتفكير، بل إن كل غياب للمساءلة بهذا الصدد، يعني التفكير بشكل عفوي، ويعني الاختباء وراء تصورات وأكليشيهات مبطنة، تفسح المجال أمام الأوهام والأحكام المسبقة. ويتساءل الباحثان: “أفلا يؤدي وهم معرفتنا بالغير، في أحيان كثيرة، إلى خلق حواجز تؤسس علاقاتنا معه؟ أفلا تنعكس على علاقتنا بذواتنا؟ يبدو أن وجود الغير متميز عن عالم الأشياء، ومتميّز عن عالمنا الداخلي، لذا فمعرفة وجود الغير، ليست هي الغير، مثلما قال ميرلوبونتي: “إن كلام الغير وسلوك الغير، ليس هو الغير” تسمح هذه الوضعية الملتبسة بالتحرر من وهمين: وهم معرفة الغير ووهم فهمه، لذا يتعين الانتقال من إشكالية المعرفة إلى إشكالية الاعتراف بالغير، ومن ادعاء فهم الغير إلى تفهمه، وما يعترض ذلك من صعوبات وما ينتج عن ذلك من مؤديات، ليس من البديهي قبولها، وحتى إن تم قبولها كحقيقة تفسيرية (إبستمولوجية) فليس من البساطة بمكان التعامل معها كحقيقة مُعاشة ( أنطولوجية). ويقر الباحثان أن الاعتراف بالغير وتفهمه يستدعي مفهوماً مركزياً: إنه مفهوم الاختلاف، ما دام الغير هو “كل ما ليس أنا، وما لست إياه” حسب قول جان بول سارتر، فاختلاف الغير بقدر ما يفتح على وجود مغاير للغير، مختلف عن وجودي، بقدر ما يفتح على إشكال رئيسي آخر: ألا تؤدي معرفتي بالغير(وألا تؤدي معرفة الغير بي) إلى تشكيل وجوده المختلف (وتشكيله لوجودي) وإلى بناء علاقتي معه؟ ثم ألا تؤدي العلاقة مع الغير إلى تحديد شكل وجوده ونمط معرفته (وشكل وجودي ونمط معرفتي)؟ الاختلاف والتكامل يحيل مفهوم الاختلاف على جدلية الأنا والأنا الآخر غيري، بما هي جدلية جذرها هو التكامل، وامتدادها مختلف الأشكال من العلاقات التي تجمع بين الأنا والغير، والتي تكشف عن مفارقات وإحراجات وتناقضات، لا يمكن الحسم فيها بكل عقلانية باردة، ما دام التكامل قد يكون تكاملا مبنيا على الغيرية أو على الإيثار والتعاطف أو على الصراع، سواء الهادف فقط إلى إثبات الذات بشكل هادئ، أو الهادف إلى إثبات الذات بشكل أناني، أو حتى إقصائي للغير. الاعتراف والاختلاف والتكامل، برأي المؤلفان هو “ثالوث استراتجي محدد لأبعاد ورهانات الغير، على مستوى وجوده ومعرفته والعلاقة معه. إنه ثالوث يحد من حريتي، لذا يمكن اعتبار تيمة الحرية تيمة مركزية أيضاً في الفلسفات المعاصرة، بما هي فلسفات الغير بامتياز: الشخصانية والوجودية والفينومينولوجية وغيرها باعتبار أن وجود الغير يتعارض أنطولوجيا مع حرية وجودي، وعلاقته معي تحد من حريتي، ومعرفته بي تضع حاجزاً بيني وبين نفسي، مثلما أن وجودي ومعرفتي وعلاقتي به تحد أيضا من حريته”. فالغير برأي الباحثين “ليس فقط أنا آخر غيري، بل أنا آخر يخترقني ويسلبني ذاتيتي الخالصة، لهذا وطنت الفلسفات المعاصرة مفهوما آخر جديدا هو مفهوم البين- ذاتية، حيث يغدو وجود الغير وجودا بين ـ ذاتيا، وتظهر علاقة الأنا بالغير كعلاقة بين- ذاتية، وتتمثل معرفة الغير بما هي معرفة بين- ذاتية. بهذا المعنى تكون حريتي في مواجهة حرية الغير، إنها كذلك حرية بين ـ ذاتية.. أفلا يصح اعتبار صعوبات ومعوقات الاعتراف من جهة بتكامل الأنا والغير، والاعتراف من جهة ثانية باختلاف الغير، مردها صعوبات ومعوقات الاعتراف بحريته؟ لعل التشبث بحريتنا تعبير عن شرطنا الإنساني، والمتمثل في إثبات ذاتنا والوعي بها، لكن كم هو جميل وعميق وصعب أيضاً الوعي بحرية الغير والاعتراف بذاتيته… في مقالة الفيلسوف ميرلوبونتي يقول: “تتكون بيني وبين الغير في تجربة الحوار أرضية مشتركة، وهو ما يجعل فكره وفكري نسيجاً واحداً، كما تتحول أفكاري وأفكار من يحاورني إلى حالة نقاش، تندمج في عملية مشتركة يستحيل معها تعيين الذي أوجدها من بيننا. نحن أمام وجود خلقة “اثنان”، وهو ما يعني أن الغير لم يعد بالنسبة لي مجرد سلوك بسيط في مجالي المتعالي (مجال التجربة الممكنة الخاصة بي)، كما لم أعد أنا مجرد سلوك بسيط في مجالي المتعالي. فكل واحد منا يعتبر متعاونا بالنسبة للآخر، داخل علاقة تبادلية في منتهى الكمال، كما أن المنظور المستقبلي لأحدنا ينساب في المنظور المستقبلي للآخر، نتعايش عبر نفس العالم. وفي مقالة لمارتن هايدغر “سلطة النحن وسلطة الآخرين” يقول: “إن التباعد المميز للوجود مع الغير، يعني أن هذا الوجود الحاضر يجد نفسه داخل وجوده المشترك اليومي، تحت سلطة الغير. إنه لم يعد هو ذاته، فالآخرون أفرغوه من وجوده الخاص. إن الممكنات اليومية في الوجود المتاحة أمام هذا الوجود الحاضر، هي تحديداً خاضعة لإرادة الغير. وفي هذه الحالة فالغير هنا، ليس شخصا محددا. عكس ذلك يمكن أن يتمثل في أي كان. ما يهم هو هذه السيطرة الخفية للغير، حيث يكون هذا الوجود الحاضر خاضع سلفاً، داخل وجوده مع الغير. فنحن في ذاتنا، ننتمي للغير ونعمل على تقوية سيادته. غن “الآخرين”، الذين في وجودهم اليومي المشترك، يجدون أنفسهم أولا وقبل كل شيء وفي الغالب، عبارة عن “هذا الوجود الحاضر”.. عندما نستعمل وسائل النقل العمومية أو وسائل الإعلام (مثل الجرائد مثلاً)، فإن كل واحد يكون شبيها بالآخر. ويرى هايدجر إن هذا الوجود المشترك يطمس كليا هذا الوجود الحاضر، الذي هو وجودي الخاص، داخل نمط وجود “الغير”، بحيث أن الآخرين لا يختلفون عنه إلا فيما يتعلق أكثر بما هو متميز وحتما خاص بهم. ويضم الكتاب مقالات مُركزة عن الغير والغيرية بأقلام عدد كبير من المفكرين والفلاسفة أمثال: هايدغر، ليفيناس، ميرلويونتي، روسو، بلانشو، بيون، أفلاطون، هيوم، لينغ، فرويد، بارط، مونيي، إدغار موران، هوسرل، ستروس، سارتر، دولوز، آلن، نيتشيه. وأسماء أخرى من عالم الفكر والفلسفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©