الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شـعريات الكتابة الأُقصوصية

شـعريات الكتابة الأُقصوصية
13 نوفمبر 2013 20:46
منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، يواصل عبد الله محمَّد السبب، (رأس الخيمة 1965)، كتابة القصَّة القصيرة، لكنه، حتى الآن، يُعدُّ أحد رواد كتابة الأُقصوصة أو ما يُعرف بـ (القصَّة القصيرة جداً)، كما هو المصطلح الشائع الذي لا نجاريه. ومنذ كتاباته السَّردية الأولى، بدا المنحى الشِّعري مُهيمناً على ما نشر عبد الله السبب حتى الآن من نصوص أقصوصية حتى ظُن أنه يكتب الشِّعر وليس النثر أو يكتب الشِّعر نثراً حكائياً! ولكن، وفي حقيقة الأمر، واستناداً إلى قراءة محايثة للنُّصوص الأقصوصية التي يضمّها أثره “جنازة حب وأشياء أخرى” الذي صدر عن (مركز الدراسات والوثائق) في رأس الخيمة عام 2011، لا يوجد نص يمكننا القول عنه، ومن الناحية الأجناسية، إنه يمثل قصيدة أو قول قصائدي، نثري أو شعري، سوى النزر القليل، فالأمر مع صديقنا السبب يتعلَّق بأنطولوجية سردية، وليست قصائدية أو شعرية (Poétique)، إنها نصوص غارقة في شعرية القول السَّردي La poéticité، بمعنى أن كينونة أغلب نصوصه التي يضمها أثره السَّردي هذا، إنّما هي سردية أُقصوصية وقد أدْلقت وجودها السَّردي بشعرية فائقة. ومن ذي قبل، كنتُ قد حدَّدت جُملة من المفاهيم المركزية في عالم السَّرديات، ومنها مفهوم (السَّرد الأقصوصي) الذي نعتقد بأنه: “وجود سردي مكثَّف الحضور”، ومنها أيضاً مفهوم (الشِّعرية السَّردية)، الذي عرَّفناه بأنه: “قيمة إبداعية يُلتمس حضورها في خطاب النّص السَّردي”، ومنها أيضاً مفهوم (شعرية الأقصوصة)، الذي عنيتُ به: “قيمة إبداعية تتجلّى في خطاب الأقصوصة السَّردي مكثَّف الوجود والحضور”. لا يأتي الخطاب من عدم، بل تتضافر على إنشائه مجموعة من المكوِّنات النّصية؛ فالقصَّة القصيرة، وفي كينونتها البدئية، هي بدن نصي سرعان ما يتحوَّل إلى جسد فني يدلق نداءه وصوته ورسالته عبْر خطاب جمالي. وبين الأقصوصة (Short Short story) والقصَّة القصيرة (Short story)، نجد اختلافات أجناسية (Générique) حقيقية تجعل هوية كل واحدة منهما ذات خصوصية على الرغم من أنهما معاً يطمحان إلى ظهور محفوف بشعرية الأداء، لكن هذه الأخيرة نراها أشدُّ وجوداً وأمضى حضوراً في الأقصوصة بوصفها قيمة إبداعية فائقة (Prééminent) الحضور في خطاب الأقصوصة السَّردي، ما يعني أن البحث في شعرية النّص السَّردي الأقصوصي، إنّما هو بحث في قيمة الإبداع وطاقته اللذين يتوافر عليهما الخطاب السَّردي لذلك النّص. يشتغل الخطاب السَّردي الأقصوصي بحاصل من الفاعليات الجمالية؛ يستعينُ بها، ويتوسَّل معاولها لكي يُجلي كيانه ووجوده ليضمن حضوره الشِّعري. ويعتقد بعض النقّاد المعنيين بهذا الجنس السَّردي، ومنهم الدكتور جميل حمداوي، بأن الأقصوصة هي: “جنس أدبي حديث، يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثَّف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصيَّة الموجزة، والمقصديَّة الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن خاصيَّة التلميح، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النَّفس الجُملي القصير الموسوم بالحركية، والتوتر المضطرب، وتأزُّم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار، كما يتميز، هذا الخطاب الفني الجديد، بالتصوُّر (التصوير) البلاغي الذي يتجاوز السَّرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي، وذلك ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي. وتتمثل سمات الأقصوصة في الإدهاش، والإرباك، والاشتباك، والمفارقة، والحكائية، وتراكب الأفعال، والتركيز على الوظائف الأساسية دون الوظائف الثانوية، والإقبال على الجُمل الفعليَّة، والتكثيف، والتلغيز، والتنكيت، والترميز، والأسطرة، والانزياح، والتناص، والسخرية، وتنوُّع صيغ السَّرد القصصي؛ تهجيناً وأسلبةً ومحاكاةً، وتصغير الحجم أكثر ما يمكن تصغيره؛ انتقاءً وتدقيقاً وتركيزاً” (د. جميل حمداوي: من أجل تقنية جديدة لنقد القصَّة القصيرة جداً.. المقاربة الميكروسردية، ص 8). ولعلّ ما يهمنا في هذا التعريف، الجامع المانع، إنّما هو بعض الفاعليات الجمالية التي يأتي إليها كتّاب الأقصوصة، وهي الفاعليات التي توافر عليها الناص (Textor) أو عبد الله السبب، في نصِّه الأقصوصي (جنازة)، الذي كتبه في عام 1989، ويتضَّن حكاية رجل يعيش حالة من الوحدة الذاتية، ويعاني فداحة الصمت المطبق على حياته، والحيرة النافرة التي تحاصره حدَّ الشعور بمأساوية اللحظة التي يعيشها. المروي يعمل الناص على تسريد أفعال عدَّة ينبني من خلالها وجود البطل المسرود أو المروي؛ منها استخدام ملفوظ “الرجل” الذي تكرّر ثلاث مرّات في محاولة استبدالية من الناص للتعبير عن اسمه من خلال سرد الشخص الثالث، ومنها ما جاء بالأسلوب نفسه، مثل: “يجلس”، “يتكلّم”، “يلوذ”، “ينفثُ السيجارة”، “يجترُّ الأمنيات”. ومنها ما جاء بصيغة ما يقوله الشخص المروي نفسه، ولكن على لسان الراوي، مثل: “جئتُ”، “انهلتُ بها ضرباً..”، “ذهبت إلى..”، “نفثتُ السيجارة..”، “أحسستُ..”، “تواريتُ..”، “أخرجتُ رأسي..”، “عدتُ إلى بقايا...”، “جلستُ بين...”، “أنا الآن أجثو...”. تبدو كل هذه الأفعال دالة على رسم حركة البطل المسرود في فضاء أحداث الأقصوصة. الراوي يبدو وضع الراوي (Narrator) في هذه الأقصوصة من نمط الراوي العليم غير المشارك في أحداثها، ذلك ما يبدو للوهلة الأولى، إلاّ أنه، ومن وجهة نظر أخرى، يبدو شريكاً فيها من خلال ملفوظ الفقرة السَّردية الخامس الذي جاء فيه: “تواريتُ داخل ثقوب معطفي...”، وهو أمر قيد الإشكال القرائي؛ لأن الناص وضع ثلاث علامات نصية (***) تفصل بين الفقرة السَّردية السابقة على هذه الفقرة التي بدأت بالملفوظ المشار إليه أعلاه، والفقرة اللاحقة عليه التي تبدأ بالملفوظ إياه؛ فهل الراوي هو الذي توارى أم البطل هو الذي فعل ذلك؟ وإذا كان هذا يمثل أمراً محيراً في قراءة هذه النّص، فهو، وبرأيي، يمثل مصدر غموض يقصده الناص ليترك بياضاً دلالياً يكون موضوع أيّة قراءة تأويلية لنصه. يبدو لي أن كسر (Rupture) احتكار الروي في هذا النّص فتح أفقاً لشعرية المسرود؛ فالراوي العليم الذي ظهر فيه نلقاه يستعين بشخص المروي ليكون راوياً لحالته، ويتحوّل الراوي العليم إلى مروي له (Narratee) داخلي، وهذا ما توحي به الملفوظات الأتية: “وفي المساء أقرَّ الرجل”، “وفي المساء.. أبحرَ الرجلُ يقول”، “في المساء.. أخذ الرجل، وما زال يقول”. الزمان غالباً ما يلجأ السَّرد الأقصوصي مكثَّف الوجود إلى تبئير لحظيٍّ محدود المدَّة، وحيز زمني مضغوط (حيز = Espace). وفي أقصوصة (جنازة) حصر الناص الوقت في مساء واحد، واستخدم ملفوظ “المساء” في سياقه المعجمي باستثناء ملفوظ “جئتُ من آخر النهار” العابق بالشِّعرية، إلا أنه، وابتداءً من الفقرة السَّردية الثالثة، لجأ الناص إلى استخدام الحذف الاستبدالي، الذي هو شكل من أشكال الانزياح، من خلال توظيف النقاط المتتالية المسطورة (...) بعد ملفوظ “وفي المساء”، وهو الأمر الذي تكرَّر في الفقرة الرابعة، وكذلك في الفقرة السادسة التي ختمها بملفوظ “من المساء، إلى المساء..”، في إشارة إلى إسدال الستار على الحيز الزماني الخاص بالأقصوصة، بل وإسدال الكون السردي للحكاية فيها، أما ملفوظ “جئتُ من آخر النهار” فهو حيز زماني استذكاري جاء مسروداً على نحو ضمني، وهو ما يُعدُّ ارتكاساً شعرياً يعزِّز طاقة الحيز الزماني الشِّعري الذي يتوافق مع الوجود السَّردي مكثَّف الحضور للأقصوصة. يبدو الزمان المسرود مقتصراً على المساء الذي تكرَّر سرده سبع مرات في كل الأقصوصة، أما الثامن فاستعاض الناص بملفوظ “آخر النهار”، الذي جاء بلسان المروي، وخلا ذلك، جاء تسريد ملفوظ “ليلة الأحد” كعامل زماني صريح الدلالة المعجمية. المكان من حيث المكان، لا تنطوي هذه السَّردية الأقصوصية على دالٍّ مكانيٍّ محدَّد الاسم؛ دال مناطقي أو مديني، ولا حتى قروي، إنّما أمكنة فرعية. لقد جاء المكان الحسي المسرود في هذه الأقصوصة متساوقاً مع الحيز الزماني الوقتي؛ فالبطل المروي والراوي داخلياً في آن واحد، يتحرَّك بين “المنزل” أو منزله، و”المقهى القديم” في ذلك الوقت الزمني القصير، هذا على الصعيد الحسي الملموس، أما على الصعيد المكاني الذهني، فقد توارى الشخص المسرود في ثقوب معطفه، وفي شقوق حذائه، وفي ذكريات طفولته، في محاولة منه لنسيان الحيز المكاني الملموس الذي لا يطيقه حتى هرب من ثقله الموحش على نفسه. إن غياب المكان المعجمي أو المكان واضح الاسم، يلعب دوراً إضمارياً كما يلعبه غياب اسم البطل الصريح في النّص. الحذف الاستبدالي جعل عبد الله السبب من النقاط (...) التالية على بعض الملفوظات السَّردية دوالَ جسدية تضمر دلالات معينة مثل: “على بقعة تعب..”، و”جئتُ من آخر النهار..”، وأجثو على بقعة تعب..”، و”أدخل ذكريات طفولتي، و... ...”، وغير ذلك من الملفوظات الشِّعرية التي تجعل القارئ يتأمَّل جسديَّة ما بعدها من نقاط بحثاً عن سياق دلالة الملفوظ السَّردي الذي يبدو مقطوعاً. يُعد الحذف أحد الأساليب المولِّدة لشعرية السَّرد المتخيَّل، والحذف الذي استخدمه عبد الله السبب في أقصوصته (جنازة)، هو أحد ضرب الحذف الاستبدالي؛ فهو لا يترك فراغات بيضاء، إنّما يحذف ملافظ سردية مفردة صريحة أو معجمية ليضع، بدلاً عنها، نقاطاً متتالية تزيح الملفوظ الصريح، دالاً ومدلولاً، وتبقي على الدلالة المضمرة التي يمكن أن توحي بها جسديَّة النقاط المتتالية بوصفها دوالَ مجرَّدة، ليأتي دور القارئ ويستنفر طاقته القرائية التأويلية للقبض على دلالة الملفوظ المحذوف توارياً خلف تلك النقاط من خلال الاستعانة بالملفوظات المسطورة في (ما بعد) أو في (ما قبل) النقاط الاستبدالية التي ترد في سياق الفقرة السَّردية الواحدة بداية، وفي سياق الكون الدلالي للأقصوصة برمته تالياً. إن الحذف، والإضمار، والتغييب، ليست سوى فاعليات جمالية من بين فاعليات مماثلة أخرى تحيي شعرية القول السَّردي مكثَّف الوجود والحضور في أي نص أقصوصي. وما فعله عبدالله السبب في أقصوصته (جنازة)، هو توافره على فاعليات من هذا النوع؛ الفاعليات التي تدفعنا، إذا ما أردنا القبض على الكون الدلالي الكلي لهذه الأقصوصة، نحو منطقة الخطاب الذي تدلقه كل المكوِّنات النّصية والسَّردية فيه بوصفها قيماً إبداعية منشئة لأنطولوجيته التي له. الانزياح الشِّعري تتعدَّد صور الانزياح في الأداء السَّردي، منها البلاغي، واللغوي، والإيقاعي، والدلالي. وبما أننا إزاء نص سردي أقصوصي، فإنَّ الانزياح (L’ écart) أو الانتهاك (L’ viol) الذي جرَّبه عبد الله السبب في أقصوصته هذه يُعدُّ من قبيل الانزياح الجمالي الذي يشتمل على ما هو بلاغي ولغوي ودلالي، استبدالي وتركيبي، بنسب متفاوتة. يرد في هذا النّص الأقصوصي القصير ثلاثة عشر ملفوظاً سردياً منزاحاً عن دواله ودلالاته المعجمية أو السياقية غير الشِّعرية، هي: “بقعة تعب”، و”رصيف الأمل”، و”اجترار الأمنيات”، و”آخر النهار”، و”محملاً ببقايا صمت”، و”بقايا الموت تطاردني”، و”بقايا الصمت تخنقني”، و”تواريت داخل ثقوب معطفي”، و”تواريت داخل تشقُّقات حذائي”، و”بقايا منزلي”، و”بقايا غرفتي”، و”أطلال أحزانها”، و”أجثو فوق بقعة تعب”. إن استخدام ثلاثة عشر ملفوظاً سردياً فائق الوجود والحضور في نص أقصوصي قصير يعني كثافة الأداء السَّردي مفعم الشِّعرية مقارنة بالعدد الكلي لملفوظات النّص السَّردية، وهو ما خلق جسديَّة شعرية طغت على موجودية السَّرد برمته في النّص. العوامل والفواعل وإذا كانت الغرفة، والمقهى، والمنزل، تعدَّ عوامل (Actants) مكانية مساعدة، فإن هناك عوامل أخرى مساعدة ولكن غير مكانية أو فواعل (Actors) بعضها حيواني مثل: “الكلب الأسود”، و” الكلبة”، وأخرى كائنات شيئية مثل “السيجارة”، و”المعطف”، و”الحذاء”، ناهيك عن العوامل الأهوائية (Potions)، مثل: “الفرار”، و”الأمل”، و”الصمت”، و”الحزن”، و”الشعور بالموت”، و”الشعور التعب”. لا تبدو كل هذه العوامل والفواعل والأهواء منفصلة عن بعضها في أنها تؤدّي إلى بناء دلالي له هويته الخطابية الخاصَّة به، لكنها، وإذا ما انخرطت في مناسبة حكائية معينة كقصَّة (جنازة) موضوع التحليل، فإنّها ستتحوَّل إلى كون سردي يمكن قراءته بوصفه ما يضوع خطاباً حكائياً حاملاً لهويته السَّردية الخاصّة به، ما يعني أيضاً ضرورة الانتقال إلى عوالم الخطاب التي أنتجها النّص مستعينين بتلك الفاعليات أو العوامل والفواعل والأهواء بكل أشكال وجودها وحضورها. إن غياب أسماء الفاعلين أو الممثلين أو الأشخاص الصريحة، وكذلك غياب المكان الصريح، يمثل إضماراً شعرياً من حيث التركيز على الإنسان كجوهر وليس كشخص معرَّف باسم معين، الإنسان الذي يُعاش بحالات أهوائية تجعله في مواجهة دائمة مع ذاته الغريبة وسط عالم يبدو غريباً خالياً من أي محفزات مثيرة للعيش؛ حلات من مثل: الصمت، والقلق، والوعود، والتمنّي، والحزن، والحنين إلى الطفولة البائسة، والركض بعيداً عن الموت، واللوذ فراراً من كل ذلك عبْرَ خلال العودة إلى مواجهته من دون حسم مصيري، وهو ما عبَّر عنه الناص بملفوظ “أحثو فوق بقعة تعب، من المساء، إلى المساء..”. تلك هي تجربة عبد الله السبب في أحد نصوصه الأقصوصية؛ تجربته في تسريد الحكاية برسم الأداء الشعري فائق الوجود والحضور.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©