السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استعادة مستحيلة

13 نوفمبر 2013 20:46
في كتابه «غرفة الأب» (منشورات ضفاف-بيروت ومنشورات الاختلاف ـ الجزائر) كرس الشاعر عبده وازن شخصية الأب ولم يمحها. من أجل ذلك الأب كتب ومن أجله تذكر حياته ومن أجله صار يحثنا على النظر إلى مستقبله، إنساناً وكاتباً. سيكون ذلك الكتاب تعليمياً لو نظرنا إلى مفردات الوفاء التي تتخلله باعتبارها هدفاً للكتابة، وقد يكون كذلك، لولا أن الكاتب كان حريصاً على أن يشعرنا أنه قد وجد في عودته إلى غرفة أبيه مناسبة للإفصاح عن تفاصيل سيرة شخصية، يبقى الأب رمزاً لها. “كأن البيت لا يكتمل من دون غرفة تسمى غرفة الأب”. الحياة نفسها لن تكتمل من غير أب. لقد كتب وازن رسالة إلى أب يحبه. أب لا يُلام ولا يستحق أن يقتل في المعنى الاوديبي ـ الفرويدي ولا حتى على مستوى المجاز الفني. ولأن وازن لا يحب أدب الرسائل فقد كان يفلت بين حين وآخر من المصيدة التي نصبها لنفسه ليكف عن توجيه الكلام المباشر لأبيه فيسرد وقائع عائلية، الكثير منها جرى في غياب ذلك الأب الذي غادر مبكراً بالمرض القلبي نفسه الذي استطاع الكاتب أن ينجو منه، لأنه لم يتأخر عن الفحص والتشخيص والعلاج. كان السؤال الوجودي بالنسبة للأب وللإبن معاً هو: أن تتأخر أو لا تتأخر، وليس على طريقة شكسبير تكون أو لا تكون. مرض القلب والطيبة هما وصيتا الأب الذي لا تزال صوره بالأسود والأبيض قادرة بكثافة ما تنطوي عليه من رؤى أن تصنع زمنه. في خطابه الدافئ المليء بالحنان العائلي يزاوج وازن بين زمنين، زمنه وزمن الأب، متخذاً من التحولات التي شهدها الابن في غياب الأب جسراً للعبور إلى منطقة يكون فيها التعايش بين الإثنين ممكناً، على الأقل في الكتابة. هناك دائماً ما لا يعرفه الابن عن أبيه وما لا يعرفه الأب عن ابنه. هذا كتاب مكاشفة تغلب عليها الاعترافات الجسدية، وهي واحدة من أهم البنى السرية التي نحرص على أن نؤجل الخوض فيها. وكما يبدو فان وازن وبعد أن أصبح أكبر من أبيه عمراً، صار يجد في نفسه الجرأة على أن يعترف بأسراره الشخصية لأبيه بما لم يكن يجرؤ على القيام به من قبل. في ما عدا مشهد جنازة الأب التي شارك فيها الابن فإن وقائع كثيرة عاشها الأب استطاع وازن أن يلتقط تدفقها الحيوي من خلال تلصصه على صور الأب في شبابه التي كانت مخبأة في الخزانة. سيمد الابن يده إلى تلك الخزانة كلما احتاج إلى حضور الأب بطلاً وحيداً، يفر من خلاله من الأفكار التائهة التي عمد إلى الاسترسال في الخوض بين أسئلتها الحائرة. كلما غاب الأب عن المشهد، تكون الحاجة إليه أكثر الحاحاً. أمن أجل مزيد من الغواية كان وازن يمارس لعبة إخفاء أبيه عن المشهد؟ كان ممتعاً أن يتنقل الكاتب بحرية بين كل الأفكار التي تخترق سكون عزلته، مهملاً وبطريقة مدروسة النظر إلى المرآة التي تظهر فيها صورة أبيه. “كل هذا يتعلق به” لم يقلها وازن، غير أن القارئ الذي يشعر بالشوق للقاء الأب ثانية لابد أن يغفر لوازن رغبته في أن لا يحدق دائماً في تلك المرآة. أعفى وازن نفسه من رسم صورة شخصية (بوتريه) لأبيه، فكان أن رسم صورة شخصية مزدوجة، يظهر الأب والإبن معاً وهما يتبادلان دوريهما. بدا وازن في بعض الأحيان أباً لأبيه وهو يكلمه عن أشياء كثيرة ما كان الأب ليهتم بها لو حدثت من حوله. ستكون خيانة لمبدأ الكتابة لو حصرناها بدافعها المعلن (الكتابة عن الأب). غير أن عبده وازن لا يرغب إلا في أن يكون لصيقاً بمعنى أن يكون الإنسان أباً في هذا العالم، لذلك يستذكر الحكايات الدينية بكل ما تحمله من ترف الصعود بالأب إلى السماء. سيل من التداعيات الماورائية تأخذ الكاتب إلى منطقة لا يزال النقص شاهدها الأعظم. غير أن بيروت، في الجزء القديم منها تظل بمثابة مسرح خيالي لمغامرتي الأب والإبن، عبر زمنين متناقضين. زمن للطمأنينة وزمن للذعر. يقدم وازن مدينته مركبة، كما لو أنها مقطع من هذيان طويل، وبالأخص في ذلك الفصل الذي يخصصه لساحة الشهداء. وإذا ما كان الكاتب قد حافظ على هدوئه وهو يروي سيرتي الأب والأبن فإن شعوراً مفاجئاً بالفجيعة يستولي عليه كان يملأ لغته بالتشنج والتوتر، حتى أني كنت أتخيله يبكي وهو يكتب لتمتزج دموعه بالحبر، وبالأخص أنه لا يزال مصراً على الكتابة بالقلم، وهي العملية التي دافع عنها كما لو أنها شيء مقدس لا يمكن المساس به. كان زمن قيصر وهو اسم الأب الذي اختفى حين طغى عليه اسم العائلة، يقع خارج زمن الكتابة. لذلك فإن المقاطع التي ظهر فيها الأب بطلاً كانت أقرب إلى الشعر الشفاهي منه إلى التمرين النثري المكتمل. وبكثافة الشعر كانت الأم حاضرة. جزء عظيم من الكتاب كان مخصصاً لها، إذا لم نقل إنها كانت بطلته بامتياز. لم تكن تلك الأم ظلاً. كانت شخصية الأم بمثابة الأنوثة الكاملة التي عبأت وازن بكل عطرها المسترخي في التاريخ ذهاباً إلى الجنة. كما لو أن الكاتب كان قد اتخذ من الأب ذريعة ليذهب إلى أمه. يقف في حضرتها ويناجي ذكرياتها. “غرفة أبي” كتاب لا يُكتب دائماً. إنه يُكتب مرة واحدة. لقد استعرض عبده وازن رسائل الكتاب المشهورين إلى آبائهم فقرر بعدها أن يكتب رسالة إلى نفسه عنوانها الخفي “في مديح الأب”. وفي ما يلي مقطع من رواية عبده وازن “غرفة أبي”: لا أعلم إن كنت أكتب إليك رسالة، أيها الأب، لكنني جالس إلى طاولتي وعلبة الصور بالقرب منّي، هذه العلبة التي أصررت ألا أفتحها منذ أعوام، أقلب الآن صورها وكأنني أشاهد شريطاً بالأبيض والأسود. معظم صورك بالأسود والأبيض، بل كلّها على ما أظن. كأنّ زمنك هو زمن الأسود والأبيض، الزمن العاري أو المكشوف، الذي لا يخادع ولا يحابي. كنت أحمل الصور تلك وألوّنها، أضفي عليها ألواناً كما يحلو لي. أتخيل لوناً لقميصك ولوناً للسترة وآخر للبنطلون. كنت أتخيل ألواناً للمشهد كلّه، للشارع، للرصيف، للواجهات التي في الخلف، للناس العابرين الذين يظهرون أحياناً... كنت أتخيل لون وجهك وعينيك... وكذلك ألوان فستان أمي، زوجتك... هذا ما يمنح الأسود والأبيض سحره يا أبي. صور تفتح نافذة المخيلة فتروح تلوّن المنظر كما تشاء، تلون العالم كما تحبه أن يكون. ناهيك بجمالية هذا الأسود والأبيض، هذين اللونين المتنافرين اللذين يمتزجان امتزاجاً سحرياً فيتناغمان خالقين لوناً ثالثاً لا هو بالأسود ولا هو بالأبيض. كان يتهيّأ لي دوماً أن “الأبيض والأسود” هو الذي يليق بك، عندما لوّنوا مرّة صورة لك، بدوت غريباً يا أبي. المصوّر الذي أنجز هذه المهمة لم يفقه سرّك، أضفى عليك ألواناً لم تكن تليق بك ولا تعبّر عن مشاعرك، في تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام الكاميرا. كان هذا المصوّر الأرمني يأخذ الصور بالأسود والأبيض ثم يردّها بالألوان. وكم كانت مضحكة. ما قدّر بالأسود والأبيض لا يمكن تزييفه بالألوان. الأسود والأبيض لم يكن لوناً، كان قدراً. إنّه اللون الذي لا لون له، ليس هو بالأبيض ولا هو بالأسود بل هو كلاهما معاً، وكلاهما منفصلان. ليس ما أكتبه رسالة إليك، فأنا أعرف جيداً أنّك لن تقرأها ليس لأنك لم تكن تجيد القراءة، مثل أمي، بل لأنها لن تصلك. هل يكتب امرؤ رسالة الى شخص يعرف أنها لن تصله؟ ولكن ها آنذا أكتب إليك، لا أدري لماذا، ها آنذا أخاطبك وكأنّك شبح مثلك مثل والد هاملت. هل ما أكتبه هو ممّا يسمى “مونولوغ” أم أنني أخاطبك حقاً؟ لا أدري، أيها الأب. كأنني أكتب لنفسي، كأنني أنا الابن والأب. لا أكتب إليك لأجعل منك شبحاً أو طيفاً أخاطبه كما يحسن لي، فأنت شبح وأجمل الكلام ربّما هو الكلام الى شبح. ولا أخفيك أنّك لو كنت حياً لكتبت لك رسالة أخرى، لقلت لك كلاماً آخر لا أعرف الآن ما هو. فالكلام الى رجل حيّ ليس الكلام نفسه الى رجل ميت. كنت أود أن أسألك ماذا تريد أن أكتب إليك، ماذا تريد أن أروي لك، أنت الغائب! ربما كان الأحرى بي أن أكتب إلى أمّي، لأنها حية ولأنها لن تقرأ ما سأكتبه إليك. أنتما الآن سواء، هي لا تقرأ وأنت لم تبق قادراً على القراءة. ولا أخفيك أيها الأب أنني أكره كتابة الرسائل وقراءتها. لا أدري لماذا. لكنني، مع كرهي هذا، أكتب إليك. نادراً ما كتبت رسائل. لم أُجِدْ يوماً كتابة هذا النوع من النصوص. كنت كلّما سعيت الى كتابة رسالة الى فتاة أحبّها، أشعر أنني أكتب ما يشبه الاعتراف المشوب بالبوح. وهذا أكره ما أكره. أشعر أن الرسالة تحمل ملمحاً قدرياً والقدر هو ما عملت طوال حياتي على الهروب منه لا مواجهته. ليصنع القدر نفسه. أما الرسائل القليلة جداً التي كتبتها فكانت خلواً من أي اعتراف أو عواطف. رسائل مختصرة لا تكاد تقول إلا القليل وربّما أقلّ ما يمكن قوله. الرسالة ليست أيضاً طريقة لكسر العزلة التي كثيراً ما عرفتها. العزلة لا تكسرها رسالة مهما أكبّ الشخص على الكتابة متوهّماً أن الآخر الذي يخاطبه هو أمامه أو الى جانبه. مع ذلك أكتب إليك، لا أعلم لماذا. لكنّ ما أعلمه يقيناً أنني، عندما شرعت في كتابة هذه الرسالة شعرت كأنني أحلم مستيقظاً، الأوراق أمامي، القلم بين أصابعي، أمّا عيناي فسابحتان في سماء متلبّدة (...). كنت أخاف أن أكتب عن نفسي لا عنك أيها الأب، أن أرسم صورة شخصية أو “بورتريه” كما يقال، لنفسي لا لك، لأنك الغائب ولأنني الحاضر في غيابك لا الغائب في حضورك كما تفترض العلاقة الأزلية بين الأب والابن. لكنني إذ أرسم هذه الصورة الشخصية أجهل مَن هو الرسام ومَن هو الشخص “الموديل”. هل أنت الرسام أم أنا؟ هل أنت “الموديل” أم أنا؟ أعترف لك أيها الأب أنني نادراً ما جذبتني هذه “الحرفة” أو لأقل هذا الفن العريق، فن كتابة الرسائل. حتى الرسائل التي أحبّها قليلة جداً وقد تعد على الأصابع. أحببت – أعترف إليك – بضع رسائل كتبها بودلير ورامبو وجبران وريلكه وكيركغارد وفرناندو بيسوا وكافكا وأسماء أخرى لا أذكرها. تشعرني الرسائل بالملل، على خلاف عديد القراء والمبدعين. لا أدري إن كان هذا نقصاً فيَّ أو عيباً. أحببت كثيراً رسائل بيسوا الى الخطيبة، بدت لي أشبه بالأشراك الحميمة التي راح ينصبها ليتفلت منها هذا الشاعر الذي لم يستطع إلا أن يكون عازباً. أما كافكا فأحببت رسائله الى فيليس الخطيبة الهاربة التي عجز عن القبض عليها رغبة منه – وربما تواطؤاً مع نفسه – في ألا تأسره. يكتب المرء أجمل رسائل الى الخطيبة. الخطيبة هي الفتاة الواقفة على حافة حلم قد يتحقق وقد لا، إنها بمثابة نافذة تطل على أيام لا أحد يقدر أن يتوقّعها. إنها أشبه بغيمة صيف تظلّل القلب. فاكلاف هافل كتب أيضاً رسائل جميلة الى أولغا، زوجته، عندما أدخل السجن. كانت الرسالة حيلته الوحيدة ليكلّمها من هناك، من خلف القضبان. لا أخفيك، أيها الأب، أنّ رسالة كافكا الى والده أحدثت فيّ حالاً من القلق، ولعلها هي التي حفزتني على الكتابة إليك، مع أنني كنت أعلم أنني إذا قرّرت كتابة رسالة في يوم ما، فهي ستكون لك، لأنك لن تقرأها. وهذا أجمل ما يمكن أن تحظى به رسالة، ألا يقرأها الشخص الذي وجّهت إليه. وهذا ما حصل فعلاً مع كافكا، فرسالته الشهيرة هذه لم يتسنّ لوالده أن يقرأها. إنها بقيت بلا قارئ، حتى وإن تلقفها قرّاء لا يحصون في العالم. فما دام الوالد لم يقرأها فهي ظلت مجهولة لأنها أصلاً رسالة إليه. تأثرت بهذه الرسالة لكنني لم أسع الى تقليدها، فكافكا عرف والده عن كثب وعانى الكثير من وطأة الأبوة، وكان، عندما كتبها، يهجس بأمور يريد حسمها مع والده. إنها، إذا شئت، رسالة إدانة، لكنّ كافكا هو الذي يؤدّي فيها شخص “الطاغي” ولو كان أشبه بمتسوّل، كما يعبّر. كان كافكا في التاسعة عشرة عندما قرّر أن يقاضي أباه. أنا أكتب إليك في الثانية والخمسين، أنت الذي غبت في الثامنة والأربعين. ماذا يمكن أن يكتب الابن الى أب أضحى أصغر منه؟ إنني الآن أكبر منك وسأظل. لكنني عندما أكتب أشعر أنني ابنك الصغير الذي كبر فجأة. لن أقول لك ما قاله كافكا لوالده: “كنت أنسحق بمجرّد وجودك أمامي”. أنت لست بموجود، قد تكون روحك هنا أما جسدك فلا. لكنني أنا هنا، بجسدي، جالس الى طاولتي وأمامي أوراق وأنت أمامي أو ورائي، شبح أخاطبه ولكن مخاطبة الابن لأبيه، الابن الذي بالكاد عرف أبوه، الابن الذي لا يخشى أباه لأنه أصبح أكبر منه. كتب كافكا إلى والده ليجيبه على سؤال كثيراً ما عجز عن الإجابة عنه مشافهة ووجهاً لوجه. يقول له: “سألتني أخيراً لماذا أدّعي أنني أخافك”، ثم يضيف: “كالعادة لم أعرف البتة كيف أجيبك”. هل كان يعلم كافكا أنّ والده لن يتمكّن من قراءة الرسالة فراح يقاضيه كاشفاً ما يعتمل في داخله من كراهية؟ ما أصعب فعلاً أن يقول الابن لوالده: “غالباً ما كنت أهرب منك باحثاً عن ملجأ في غرفتي، بالقرب من كتبي، مع رفاق مجانين أو أفكار غريبة”. ومع أنّه يعترف بأنّ بينهما حالاً غير سويّة فهو يبرّئه لأنه غير مذنب كما يقول له. لم يسع كافكا الى تسوية هذه الحال مع أبيه، فهو يعلم جيداً أنه “الابن الضعيف، المضطرب، المتردّد والقلق”. ويعترف له أنه كان ليكون سعيداً لو أن الوالد كان بمثابة صديق أو عمّ أو جدّ. كان يحلم بأن يكون والده شخصاً، أيّ شخص، ولكن ليس الوالد. هل يمكن المرء أن يهرب من أبيه؟ هذا ما لم يجب عنه كافكا إلا مداورة، لأنه كان يعلم أن الوالد هو بمثابة القدر الذي يستحيل تخطّيه. هذا الولد الخائف لم يسعفه عناده في التخلّص من ظلّ أبيه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©