الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الممسوس..

الممسوس..
26 نوفمبر 2014 02:25
منذ بداياته الأُولى كان الفنان الإماراتي عبدالرحيم سالم مقيماً في الواقعية التعبيرية النابضة بقوة الخط وتدويراته واستقاماته، بقدر الحضور اللوني المميز بالتناغم، وأذكر أنني شاهدت أعماله المنجزة قبل عقدين من الزمن، وقد لفتت نظري يومئذٍ درجة التلقائية النابضة بحرية التعبير وتضاريس الواقعية التعبيرية المنغومة برافعتي الخط واللون. د. عمر عبدالعزيز كان عبدالرحيم سالم يشتقُّ له طريقه الخاص، فيما يُمعن الإقامة في التعبير الفني المّمْسوس بالتجسيم والتجريد معاً.. كان عليه أن يعقد مصالحة عصيَّة بين هذين المستويين، وقد نجح كثيراً في الإمساك بثنائية التجسيم والتجريد، انطلاقاً من حقيقة موضوعية ترى في التجريد تجسيماً، وفي التجسيم تجريداً، ولا تضع حواجز ميكانيكية بين المستويين. تلك دالة كبرى في فضاء الاستقراء الذوقي المعرفي لماهية التشكيل، في أُفق يتَّسع للتجديد والتصوير المفارق لواقع الحال المقرون بنمط التصوير الفوتوغرافي، وهو أمر أدركه فنانوا الإنطباع البصري في القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، وواصل مجد تحولاتها الحداثيون اللاحقون، ومن تلاهم بعد ذلك. تأسيس يصدر الفنان عبدالرحيم سالم عن تأسيس أكاديمي مقرون بانزياحات واقعية، وأُخرى انطباعية.. تعتدُّ بتعمير المساحة بين المرئي الواضح، والمُتخيَّل المستغرِق في الذات المُبْصرة الرائية. تمنحك لوحته الأحدث فضاء للتخيُّل والتخييل، وتضعك في قلب المعادلة الجوَّانية لمساء الشفق القادم من مَغيب لا تخطئه العين.. لكنه مَغيب إشراقي ينضح بطعوم الجمال الآسر للأجساد المتوارية خلف غلالات الخيال. موضوعه الأثير كان وما زال موصولاً بأُنثوية الوجود، فالمرأة بحسب نصوصه البصرية ليست مجرد قيمة جمالية نابعة من «دوزان» المرئي المباشر، بل إنها أيضاً قيمة معنوية وروحية، نابعة مما يتجاوز المرئي، ولهذا السبب وجدنا لديه استعارات مَجازية للجسوم الناعمة المتحررة من قيود الظاهر.. المختزلة في إشارات وامضة، لخطوط دائرية تستأنس بجماليات الأبيض والأسود، فيما تتطيَّر مُتماهية مع الوان الطيف مرات أخرى. إيقاع الأبيض والأسود عن الفنان يذكرني بما ذهب إليه العلامة الفارابي ذات يوم بعيد، فقد أخرج الفارابي ثنائية الأبيض والأسود من دائرة الألوان المعروفة، ليُحيلهما إلى مُعادِلين مؤكدين لتناوب الضوء والظل، رأى فيهما قيماً لونية بصرية تتجاوز المألوف والمعروف عند الناس. وقد لاحظ هذه المثابة الفنان «التاوي» الصيني الذي اعتبر الأسود والأبيض لونين حاسمين في معادلة التصوير، ولاحظ تموضعهما الاستثناء في فراغ اللوح.. الذي بقدر تواشجه مع الفراغ المرئي، إلأ أنه يضج بازدحام يحيل الفراغ امتلاءً، وتلك عجيبة من عجائب المنطق الصيني في التفكير. خصوصيةمما سبق نصل إلى منظومة من المقاربات الهامة، ذات الصلة بالفنان عبدالرحيم سالم، وأوجزها فيما يلي: التعبيرية الفنية عند الفنان عبدالرحيم سالم ذات صلة مباشرة بالخصوصية المحلية النابعة من أجواء الخطوط الدائرية، والتعرجات الحركية في الرسوم، والتَّوشية اللونية المُنغَّمة بطيوف الألوان المشرقية الزاهية، والإيحاءات البصرية المُدوْزنة بجمال الأُنثى، ورمزية حضورها في الوجودين المادي والروحي. هنا يمكننا التوقف ملياً لملاحظة المنفصل المتصل في هذه «التيمة» الفنية، التي بقدر تكرارها كما لو أنها مفتاح «صول» موسيقي ضابط للإيقاع العام، إلا إنها في ذات الوقت «تيمة» ذات طبيعة خاصة بالفنان، فمجرد المشاهدة لعمل ما للفنان، نستنتح أنه عملٌ خاصُ به لا محالة. يتماهى الفنان مع جماليات الأبيض والأسود، مُستظهراً المزيد والمزيد من الإنزياحات البصرية المحمولة على جناحي طائر مُحلَّق يستظهر طيرانه وجماله، من خلال بياض جسمه المُوشَّى بالسواد، وينساب مع الفراغ الكبير لألوان الطيف وأقواس قزح. قراءة الأعمال المرسومة بطاقة اللونين المتضادين (أبيض وأسود) تتم عبر تواشج هاذين اللونين مع البُعد الثالث المنظوري، القادم من تَموْضع العمل الفني في أساس المعرض، فالعمل المُحاصر ببُعدي الطول والعرض، يجد رجع صداه في «ميزانسين» المكان المفتوح على البُعد الثالث الواقعي، والعامر بالإضاءات والألوان المُمْكنة والمُحتملة، حتى أن الرائي لا يستطيع استكناه العمل بجمالياته ومعناه خارج المكان والزمان المحددين. والسؤال المباشر الذي ينتصب عطفاً على هذا القول هو: هل وضع الفنان بعين الاعتبار هذه الحقيقة؟ والجواب حسب تقديري إنه وبمجرد اختياره للأحجام الكبيرة يكون قد وضع أعماله في أساس هذه المقولة، فالأحجام الكبيرة تسمح بالرؤية من مسافات متعددة، كما تمنح اللوحة طاقة تفاعلية أثيرية مع الوسط المحيط، وتنزاح بثنائية الأبيض والأسود إلى فضاءات تواشجية مع ألوان وإضاءات المكان. وإذا كان هذا الخيار واضح التأثير في أعمال الأبيض والأسود، فإنه أكثر وضوحاً في التعامل مع اللوحات الملونة، والتي بقدر تمددها الأفقي في عالم التلوين، تكون قادرة على التمدد الأُفقي في عالم التفاعلية اللونية مع الوسط المحيط، غير أن اكراهاتها الفنية أكثر شدة ووضوحاً قياساً بأعمال الأبيض والأسود. فيضقال سيزان ذات يوم بعيد وهو يتحدث عن معنى اللون.. قال: «أنا أرسم ما أرى لا ما أعرف»، وبهذا القول أسس لتعبيرية بصرية متجددة، وفاض بمغايرة إجرائية لنمط الانتاج الفني الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، وعلى هذا الدرب سار فان جوج المحترق باشتعالات دواخله، وجوجان المستسلم لأبيقورية حياته، ولاوتريك المُنساب مع غيبوبة دهره، وسورات المُنَمْنم برومانسية رسمه النُّقَطِي، وغيرهم. وفي يوم آخر قال المتطير النرويجي الفنان «مونش»: «أنا أرسم ما لا أرى ولا أعرف»، وبهذا مهَّد للتيارات الفنية الوجودية والسريالية من حيث يدري أو لا يدري، والشاهد أن تلك التيارات الفنية حاولت مُناجزة عوالم النفس الداخلية، كما تطلَّعت إلى استكناه الغيوب أسوة بفلاسفة الجدل المادي الأوروبي، فكان لها ما أرادتْ، لكنها لم تشفِ غليل السؤال الفلسفي الذي لا إجابة له. تجشَّم الفنان مونش النرويجي ذلك العناء، وعلى خط مُتصل أضْنى الفنان السريالي الإسباني «سلفادور دالي» نفسه باحثاً في مغيبات الأحلام، ونظريات «فرويد «. لكنهما وأن لم يصلا إلى جواب.. قدَّما نسَقاً فنياً كان له تأثيراته الواسعة على فناني النصف الأخير من القرن العشرين المنصرم. هذه الاستدعاءات الوامضة لمعنى الصورة في عُرف المدارس الفنية التي تلت التاثيرية الفرنسية ما زالت حاضرة في الفن العربي المعاصر، وأعتقد أن عبدالرحيم سالم كغيره من فناني الإسكولائية الأوروبية العرب.. حاضر في قلب هذه المفاعيل الفنية. توازٍالمساحات الواسعة في اللوح خيار أثير في جُل أعمال عبدالرحيم الباحثة عن قوة تعبيرية متوازية مع مرئيات البُعد الثالث الواقعي، بحيث تنخطف العين مع تلك اللوحات، ناظرة لما فيها، وما يعتمل في دواخلها من خلجات وتوترات فنية. التدويرات المنغمسة باللامكان واللازمان، سمةٌ اخرى من سمات التعبيرية الفنية عند الفنان.. ذلك أنه يقدم جُملة بصرية واحدة في هويتها.. متعددة في حضورها الانطباعي.. حد الاحتياط، من هنا يمكننا تلمُّس الخصوصية المُجيَّرة على التعددية التعبيرية النابشة في معنى الاسلوب الواحد وإن تعدد. يخيل إلي أن الفنان عبدالرحيم لا يضع مسافة اجرائية بين الأنا المُتطيِّرة المنخطفة بجماليات الإيقاع السريع المتواتر والمتوتر، كما في لوحته المقيمة في ذات المِثال المستمد من أُنثوية الوجود، وبهذا المعنى نرى فيه فناناً ناصع التماهي مع عوالم روحه.. حد التلاشي.. مستجيباً لدواعي إيقاعه اليومي.. مُسجلاً خلجاته الصغيرة التي بحجم المعنى والمبنى. الملمح الأخير في التوصيف العاجل لفنيات عبدالرحيم سالم يتعلق بأدواته الفنية، وتنوُّع الأساليب التي يستخدمها في تنفيذ أعماله، فتارة يميل للرقش المُوشَّى بالتجسيم، وأُخرى يُمعن في التدويرات الخطيَّة كما أسلفنا، وأحياناً يستخدم الفراغ بلطائف تعبيرية تشي بالمعاني الضمنية في اللوح، ومرات يلجأ إلى استعارة النفس الجرافيكي، وخاصة في بعض الاشتغالات الأكثر وهجاً بالأبيض والأسود، كما أن ألوانه تميل غالباً إلى المساحات المفتوحة، ولا تتنكَّب مشقَّة التفاصيل اللونية الصغيرة، مما يُضفي على ألوانه مسحة صافية، وفي بعض الحالات يستخدم السكين بطريقة إيقاعية متسرعة لا تتنازل عن الهارموني المطلوب، وقد تتبعت هذا المسار على مدى سنوات من انتاجه الفني المستأنس بإيقاع السكين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©