الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه فيرجينيا وولف: شبح نهر «أووز»

وجه فيرجينيا وولف: شبح نهر «أووز»
26 نوفمبر 2014 02:30
إسماعيل غزالي كيف امتنع عليهم أن يدركوا علاقتك السرية بنهر «أووز» يا فيرجينيا ؟! النّهر الذي يهسهس داخل أحلامك، ويغمر الأنقاض التي تطمر لغتك! لم يحدث مرّة أن أغواك صوت غيره. لم يحدث مرة أن تلقّفك إيقاعٌ هذيانيّ الرؤى والصدى سواه. لم يحدث مرة أن انفصل جسدك الطاعن في الهشاشة، والضالع في النحول عن مياهه المتموجة يا عروس «أوز»! نظرتكِ الملفّعةُ بضبابِ مئة سنة، لم تكن دائماً تراوح مكانها في مستنقعات اللحظة، بل تسطو عليها جاذبية أشباح تلوّح إليك بثياب الغرقى فيما وراء الأشجار والحدائق والمرايا وخرائب المنازل المهدمة. لك قامة عصا خيزران سامقة، تخوّلكِ باستمرار كي تطلّي من كتف الحياة على الضفة الأخرى. الحياة التي أجهزوا عليها بأن طوّقوا وجودكِ داخل مكتبة أبيك... أي حظوة لعينة هذه قلّدوك تاجها، فحياة مضاعفة كانت تنتظرك بملء الشراهة والإغواء والضراوة في مئات الكتب المرصوصة البنيان... هكذا عشتِ حيواتَ غفيرةً كما لو ترْتقين برج بابل وأنت ترشقين لندن من عل بعين طائر خرافي... كتب، كتب، كتب، ضجّ بها وعيك المسنون كنصل، فأينما وجّهتِ خيالكِ شرشر دمُ جرحٍ نرجسيّ. متخمةٌ أنت بالجروح النرجسية منذ اصطدمتْ جمجمتكِ بسقف عصرك، أنّى سمقتْ قامتك الفارعة، حدث هذا الاصطدام المبين... منذ زمن بعيد وأنتِ تتخطّين فخاخ العقل، تنازلينَ بجسارة أسلحته في معارك ضارية وبشرفِ أعْتى المحاربات جابهتِ حججه في الحدود القصوى للمعنى، ولم يحدث مرة أن هزمك مهرّج من سدنته، فذيّلتِ الرهان الأخطر بوفائك لخلاصٍ طالما آمنتِ بجدواه وسحريته: الانتحار. لا يحتاج أمهر الأركيولوجيين إلى أدوات حاذقة كي ينبش في أرشيف وجهكِ عن حقيقة الموت الذي يضيء شبحيّته. وجهكِ الصّادم لا يعرف للمناورة عنواناً أو قناعاً، مكشوفٌ حدّ العراء جحيمُ التاريخ في رخامه يا فيرجينيا... ومع ذلك فلستِ فزاعة يمكن أن نزرعها في صلب خرائب الحرب الطاحنة تلك... أبراج شاهقة تداعتْ غبّ تلك الحرب الحمقاء في وعيك الذي تلظّى صعقة البروق قاطبة وصفيق الرعود المدلهمة. يشبه الأمر تداعي بيتك في «دافيستوك سكوير» إثر قذيفة جوية ناسفة لم تترك منه إلا المدفأة ولوحة يتيمة معلقة فوقها عام 1940. انهيارات صاعقة سبقت الحادثة بسنوات أشدّ تباينا (تعاقبات موت الأم والأخت والأب والأخ في حيّز زمنيّ ضئيل...) وتلتْها أخرى أشدّ ضراوة ذات غيابات ناهبة واختلالات شارخة، فضلاً عن موت أعز الصديقات «كاترين مانسفيلد» و«دورا كارينكتون» الخ... إنه الجنون الصفيق يتحرش بخرائب امرأة حادة تسكن كشبح داخل جسد مرصوص الهشاشة، أنوثتهُ سديميّة، ضئيلة وضامرة، لكن متوقدة ومشحوذة وحريفة. كم صفقة أبرمها هذا الجسد الضاج بفراغ الأبدية مع الموت كي يؤجل النهاية الحتمية وكم معجماً وقاموساً ومكتبة استنزفتها مونولوجات لم تكف آلتها اللئيمة على الدوران حتى في أدغال النوم... (هذه أنت تقفين في حديقة البيت المتاخم للنّهر، البستان يعجّ بنبات البيتونيا والفيوليت والبيروميا والدلبوث والقبار والهليون والشوكران والليلك والخزامى والأوركيد وشجر القراصيا... فيما يؤثث عرْصته ما تبقى من أعضاء أصدقائك جماعة «بلومري». صاحبة الطاقية البيضاء التي تعطي بقحفة رأسها للصورة لن تكون إلا صديقتك الرسامة «دورا كارينكتون»، هذه التي فاجأتك دون أن تفاجئك بانتحارها الجسور، وضعتْ حداً لحياتها بطلقات بندقية الصيد أياماً معدودة بعيد وفاة زوجها. وحْدكِ كنتِ تعلمين بحدّ الجنون الذي بلغته «دورا». كيف مكرتْ بك وسبقتك إلى إنجاز خطوة مريبة طالما أجّلتيها؟ إنهم يصخبون، ويتداولون خطابات عرجاء ما عادت تدغدغك حول تداعيات الحرب والمرأة والكتابة... فيما نظرتك منصرفة إلى الأزيز الغريب الذي طفق النهر يصدّره إليك... تلك نظرتك الساهمة وأنت تصيخين السمع لنداء الشيطان في تموّجات الهسيس الذي تدفع به رياح الشمال إلى حديقتك، وأما ريش دفء الأصدقاء فعبثاً يحشو وسادة الفراغ المهول للمكان واللحظة... هي ساعة النهر تدق وتطقطق يا فيرجينيا، تخلب ذهنك وتسلخ يقظتك عما حولك... ملعون هو نهر «أووز» الذي اختارك عشيقة وعروساً وملاذاً... منذ حللتِ في البيت المجاور للنّهر وأنت تفكرين في مرايا ومتاهات قعره... للنهر فضل كبير في كتابة نصوص هذيانية (إلى المنارة) و(الأمواج) و(الأعوام) الخ.. ما من أحد أنصت لهسيس «أووز» في أعمالك هذه التي يختفي كشبح داخل ظلالها وإنْ كان هو إيقاعها الغامض. عجباً كيف لم يحدث أن استحميتِ فيه مرّة واحدة، واكتفيت بتأمل سيرته وتحولاته وغرابته على طول فراسخ زمن اقترانك بليوناردو وولف. أي نعم يجهلون كم مرة حاولتِ الغرق فيه، كي تضعي حداً للجنون المعربد بصفاقة داخلك، ما يربو على العشر كرات حاولتِ الانزلاق إلى هاويته، وكنتِ ترجعين مبللة دون أن يرتاب ليوناردو في الأمر. خال الحكاية استحماماً أو نزوة طفولية لا غير. حتى طبيبتك «أوكتافيا» آخر من شهدك بيوم 27 مارس 1941 لم تستكنهْ قرارك الصلب، الذي وقعتيه بحذاقة مرعبة في اليوم الموالي... (حجرٌ في جيوب المعطف وغرق كامل الأوصاف وعصا شاهدةٌ علامتها على مكان الحتف المظفّر). الأمر يشبه لغزا جلّلتِ به غموض وجودك المبهم والمضطرب والعاصف. حدث الأمر صباح يوم 28 مارس وانقشعت الجثة بيوم 18 أبريل، اثنان وعشرون يوماً استضافك قعر النّهر، وجلل بحضورك أبدية أغواره... إنها الفترة الزمنية التي شحبتْ فيها لندن كما لم تشحب من قبل، واعتور ضبابها سواد ليل مطبق. لم يجرم النّهر أبداً في استدراجك إلى أغواره، فالحقيقة الدامغة هي أن أغوارك أنت، كانت على الدوام تضج بانسياب وهدير نهر جوفي، يطابق نهر «أووز» الخارجي الذي يتماهى طوله مع قامتك الفارعة. كيف غفل كتّاب الروايات الإنجليزية عن هذا الأمر المريب والمغري حدّ الجنون: فكرة إنجاز مشروع رواية عن شبح فيرجينيا وولف الذي يظهر ويختفي على ضفتي نهر «أووز»... رواية سوداء أقترح لها عنواناً مستفزاً، بإغواء وفير هو: شبح نهر «أووز».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©