الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أسياخ» جاكرتا البهيجة

«أسياخ» جاكرتا البهيجة
26 نوفمبر 2014 22:02
منذ اليوم السابق على العيد كانت الطبول في كل مكان: أمام الجوامع وفي زوايا الشوارع، ومباشرة أمام فندق «مارغوت» حيث أقيم في شارع جالان جاكسا ذي السمعة النكراء. شباب وأطفال يتداولون على الطبول الكبيرة المصنوعة من براميل تُشد إلى فتحاتها جلود بقر وجواميس. دق طبول متواصل طوال اليوم والليلة السابقة ليوم العيد وطوال يوم العيد حتى ساعة متأخرة من الليل، بينما أصوات المدّاحين والمرتلين تتعالى من كل الجوامع المحيطة أهازيج وتلاوات وأغان وصلوات وأدعية. للعيد طقوس أخرى في إندونيسيا مغايرة لما أعرفه في تونس وما شاهدته في المغرب وتركيا، فالأضاحي لا تذبح في البيوت أو في المسالخ البلدية، والطقس لا يتم بصفة فردية. الجوامع والدوائر الدينية تحت إشراف المجلس الإسلامي هي التي تجمع الأموال من المواطنين، كل في حيه أو زقاقه أو دائرته. ثم تتولى شراء الأضاحي، وهي عادة من البقر والماعز. في اليوم السابق على العيد تنقل الحيوانات إلى الجوامع التي تتحول ساحاتها الخلفية إلى ما يشبه اصطبلات مزارعين. الذبح يتم في باحة الجامعأو في ساحة أمامية أو خلفية في جو من الاحتفال الجماعي لم أر له مثيلا من قبل. تنظيم محكمتتم العملية حسب تنظيم محكم، وهناك لجان ومجموعات من الشباب والفتيات خاصة، لكل واحدة منها وظيفتها: مجموعة ضبط القوائم وتدقيقها، وأغلب عناصرها من الفتيات، فريق يتولى الذبح والسلخ، وفريق يقطّع اللحم، وفريق يزن الحصص (كيلو واحد من اللحم في كل حصة، وفي بعض الأحياء كيلو ونصف) وتضعها في أكياس البلاستيك، وتتكون هذه المجموعة أساساً من النساء والفتيات، وأخيراًَ مجموعة التوزيع التي تلف في الأزقة تتبعها كوكبة من الأطفال في هرج مرِح: واحد يجر العربة وآخر يدفعها واثنان أو ثلاثة يقدمون الأكياس للناس كلما نادى المنادي الذي يمسك بالقائمة باسم فلان ابن فلان، أو فلانة ابنة فلان. هناك أيضاً ما يسمى بالقربان الأكبر (Super Kurban) ويتمثل في معاليم إضافية تدفع للدوائر الدينية من أجل شراء أبقار توزع لحومها على الفقراء والمعدمين (المستحقين بلغة أهل البلاد) أو تجمّد وترسل مباشرة إلى بلدن إسلامية فقيرة من إفريقيا على وجه الخصوص، كما أكد لي إمام أحد الجوامع. السكان جميعهم في الأزقة وأمام البيوت رجالًا ونساء وأطفالًا وعجائز. مواقد الفحم مولعة أمام البيوت والأسياخ تعد بسرعة، والأكل يتم في الخارج وبصفة جماعية تجعل العيد شيئاً شبيهاً بكرنفال شعبي مرح ومليء بهجة: عيد بحق. لاشيء من تلك الحصة البسيطة يظل فائضاً عن ذلك الحفل السريع الموافق لساعة الغداء، لا شيء يذهب إلى الثلاجات أو يجد نفسه بعد يومين معلقاً أشرطة من القديد على حبال الغسيل فوق السطوح وفي البلكونات كما أعرف في بلادي. البهجة والانزلاقفي هذا اليوم، وفي الحي الشعبي الفقير المتاخم لشارع جالان جاكسا كان للناس عامل آخر للهرج والمرح واللغط اللذيذ وهو وجودي أنا الأجنبي سائراً وراء عربة توزيع اللحم وبيدي كاميرا. لا أدري كيف سرى الخبر بسرعة بأن الأجنبي الذي يتبع العربة عربي مسلم وإذا الجميع مهتمون بي، تقريباً بقدر اهتمامهم بكيس اللحم الذي ينتظرونه، هذا يسلم علي، وتلك (السيدات المتقدمات في السن خاصة) تسألني أين هي زوجتي، وعندما أجيب بأنني مسافر لوحدي تبدي دهشة كبيرة وهناك من تقترح علي أن تزوجني توا من إحدى بنات جيرانها وهي تمسك بي من ذراعي وتشير إلى هذه أو تلك من الفتيات، وآخر يدعوني إلى العودة بعد بضعة دقائق ريثما ينهي إعداد شواء الأسياخ، وجميعهم، رجالا ونساء وشباباً وأطفالا يريدون أن ألتقط لهم صوراً، وكلما برزت الصورة على الشاشة الصغيرة للكاميرا انطلقت صياحات تعجب ومرح طفولي لذيذ. في غمرة هذا اللغط والمرح والبهجة، وفي انشغالي بسيخ لحم تركض به سيدة من ورائي، بمشاغبة من هذا أو مشاكسة ظريفة واهتمام رقيق من تلك، أنسى الاهتمام بموضع قدمي، وأنسى صوت أبي الذي ما ينفك ينبهني من وراء غبار السنين الغابرة: انتبه لقدميك، ولا تذهل ولا تشرد هكذا مثل العجل يا ولد. أنسى أيضاً القانون الذي صرت أحرص على اتباعه أثناء مشيي في الشوارع منذ أن حللت بإندونيسيا، والذي يتلخص في: عين على الأشياء من حولك وعين على الأرض تحت قدميك، لأن المجاري مفتوحة في أغلب المدن، وفجأة حصل ما كنت أحرص على تفاديه: تنزلق قدمي في إحدى حفر قناة تصريف المياه الوسخة وتغوص حتى الركبة في الماء الأسود. يهرع إليّ أطفال وشبان ونساء في جو من المرح، لا متجهّمين، أو مبدين العطف أو التفجع على حالتي المزرية، بل ضاحكين، يسرعون بجلب آنيتين من الماء؛ واحدة تصب الماء على رجلي وواحد كان يغسل ذراعي ومرفقي بيده ويزيل عنها الأوساخ، وأخرى تهرع إلى بيتها لتأتي بالصابون، وكل شيء في جو من الضحك والمداعبات والمرح. إنها طريقة الآسيويين في مواجهة كل حادثة غير محببة من هذا النوع، وهكذا لا تتحول الحادثة إلى أمر كريه قد يسبب لصاحبه شيئاً من الحرج أو الخجل، بل مجرد حادثة طريفة لا غير: إنها القاعدة السلوكية القائمة على مبدأ never lose the face ـ أو حفظ ماء الوجه، كما فسر لي أحد الصينيين ذات مرة. بعدها وجدنا أنفسنا نواصل فسحتنا ومرحنا، وأنا أمسك بالكاميرا بيد وبسيخ من اللحم المشوي بيد أخرى، وكأن شيئاً لم يكن. بعد حوالي ساعتين انتهت كميات اللحم واختفت المشويات، لكن الناس لم يختفوا وظل الحفل متواصلاً في الأزقة والشوارع حتى ساعة متأخرة من المساء... إذ ليس باللحم وحده يكون عيدٌ ويكون فرحٌ للإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©