الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفساد الاقتصادي··· ثقافة وممارسة

الفساد الاقتصادي··· ثقافة وممارسة
21 مارس 2009 03:13
لا شك في أن لظاهرة الفساد المتفشية على نطاق واسع في بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسباباً موضوعية ضاربة الجذور داخل بنيتها الثقافية والتاريخية، حيث لعبت ''الثقافة المستبطَنة'' دوراً بارزاً على صعيد تكريس معادلات وأنظمة تفكير وسلوكيات عمل مهدت الطريق أمام نمو مارد الفساد في بعض تلك المجتمعات· وقد كان لبعض المؤسسات الاجتماعية والسياسية العربية دور حيوي مكمل لدور الثقافة المخفية في زيادة مساحة الفساد والمفسدين من خلال تبنيها لمختلف المناخات والأجواء الفكرية والاجتماعية القديمة التي قد تشجع ثقافة الفساد كآلية، بما يسمح لها بالإبقاء الدائم على وجودها، وعلى نحو لا يتزعزع معه بنيانها، ولا يتأثر سلباً امتيازاتها· وبالنتيجة، فقد أدت بعض السياسات القسرية -وعلى مدى زمني طويل نسبياً- إلى توسيع رقعة الفساد، خصوصاً مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي، وفتح الأسواق الداخلية أمام الرساميل الأجنبية تحت شعار مظهري هو تنمية المجتمعات وتطوير البلدان في ظل هيمنة كاملة لمؤسسات إدارية وسياسية مترهلة وفاسدة وغير مهيكلة اقتصادياً بما يتناسب مع ضرورات التحفيز الاقتصادي وعوامل الجذب الاستثماري· وعلى رغم محاولة بعض النخب الاقتصادية والسياسية استصدار القوانين اللازمة لمواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية بهدف تطوير مجتمعاتها ورفع معدلات التنمية فيها، مع زيادة في مساحة النشاط الاقتصادي، ورفع القدرة التنافسية للمنتجات، وضمان تسويقها ووصولها السريع للمستهلك، بقيت غائلة الفساد مهيمنة على مجمل تلك الاستراتيجيات، مما أدى إلى رفع معدلاته بصورة متزايدة، بقطع النظر عن الطبيعة السياسية لتلك البلدان، وإن كانت ثمة دول أقل معاناة من الفساد بدرجات وأشواط كبيرة بسبب طبيعة نظمها السياسية المنفتحة، وتحرر الاقتصاد فيها من ربقة الدولة، واعتمادها الإعلام الحر نسبياً· ونحن عندما نتحدث عن الفساد هنا بهذه الطريقة إنما نقصد به إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص· أي استثمار الموظف في الدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة للصالح العام بهدف خدمة مآرب ومنافع خاصة به· أما ما يخص التعريفات التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد -خاصة الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً- فتعرف الفساد بأنه ''استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، الشخصي، غير المشروع، وبشكل ليس له أي أساس قانوني''· وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي الذي ينظر إلى الفساد من حيث إنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من سلوك مقصود لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين· وهنا تظهر لنا مخرجات معاني الفساد وتطرح وصفاً أولياً لبنية المجتمع الذي تسوده علاقات من هذا النوع· ولهذا يصبح الفساد علاقة وسلوكاً اجتماعياً، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة· ويقسم الفساد إلى نوعين، واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، وتراخيص··· أما الفساد الضيق، فهو قبض الرشوة مباشرة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة· وفي مواجهة النتائج الكارثية التي قد تترتب على ارتهان أي مجتمع لمارد الفساد، تقوم كل دولة باستصدار قوانين خاصة بمكافحة هذا المرض الخطير، أو محاولة السيطرة عليه·· أو على الأقل التخفيف من غلوائه وسلبياته ما أمكن ذلك· ويمكننا أن نضع هنا خطة أولى سريعة على هذا الطريق الطويل والشاق، لكبح جماح الفساد الضارب في بعض مجتمعاتنا ومؤسساتنا العربية· وهذه الخطة جزء من منظومة تطبيقات علاجية متكاملة متلازمة نذكر منها: 1- إجراء تغييرات سياسية حقيقية تتركز حول إصلاح سياسي عربي· 2- الاقتناع الكامل بأهمية الديمقراطية كآلية للعمل السياسي الحر، والتنافس السلمي الخــلاق· 3- تطبيق القانون من خلال تربية الناس أولاً على ثقافة احترام القانون، وثانياً، معاقبة المخالفين والمفسدين· 4- تبسيط وسائط العمل، وأتمتتها ومكننتها، وتحديد مهل إنجاز المعاملات· 5- إنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الوحيدة هي الإشراف المباشر على العمل· 6- تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحد من الفساد وبأشكاله المختلفة· 7- لا بديل عن زيادة دخل الموظف، وهو من الضمانات الأساسية لمكافحة الفساد، شرط وضعه ضمن جملة إجراءات إدارية ورقابية قانونية فعالة· 8- العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع المرافق والمؤسسات· 9- إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية بين عموم الناس· 10- تفعيل الجهاز الإعلامي لما له من أثر كبير في الكشف عن عمليات الفساد الصغيرة والكبيرة· 11- تعزيز الاتفاقيات الدولية التي من شأنها أن تكافح الفساد العالمي· 12- إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات بشكل مكثف لتسليط الضوء وبشكل واسع على الفساد وآثاره المختلفة· وفي اعتقادي أن تطبيق ما ذكر أعلاه من خطوات مهمة للتخفيف من سلبيات وأضرار الفساد، لن تكون له أي فائدة ترجى ما لم تعالج أسباب ومقدمات الفساد لا نتائجه فقط· والمسألة هنا ليست المناداة على المنابر بالقضاء على الفساد (السياسي أو الاقتصادي أو غيرهما) دون وضع الأسس العقلانية الممهدة لمعالجته، بل هي في التأكيد على استحالة بدء العلاج من دون وجود مناخ اجتماعي صحي مناسب· أما أن نرفع الشعارات الجوفاء حول ضرورة مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، من دون أن نبادر عملياً باتخاذ الإجراءات التنفيذية المطلوبة فإن هذا العلاج المرفوع لا يعدو أن يكون مجرد تكريس لمعادلات الفساد القائمة· لذلك ينبغي الالتزام بتبني منظومة قيم وأخلاق اجتماعية وقانونية في مجتمعاتنا، وهي أساساً موجودة ولكنها تحتاج إلى تفعيل على مستويات: فردية ومجتمعية ومؤسساتية (سياسية- اقتصادية)· فعلى الصعيـــد الفردي لا بد من إعادة التركيز على تنمية الوازع القيمي والسلوك الأخلاقي· وعلى المستوى المجتمعي العام نجد أن هناك ضرورة ملحة لإصلاح ثقافتنا الضعيفة والمضعضعة القابلة للتأويل والتفسير، بحسب الرغبات والأهواء· وإطلاق بعملية نقد لبعض تراثنا الثقافي الاجتماعي كشرط أساسي للتجديد والانخراط في الحياة والعصر· نبيل علي صالح كاتب وباحث سوري ينشر بترتيب خاص مع خدمة منبر الحرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©