الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

متعة الفكر ومعضلة الازدواجية

5 نوفمبر 2012
متعة الوصول لفكرة بناءة وجديدة قد لا تضاهيها متعةٌ أخرى على الإطلاق في أي زمان ومكان. ويعتقد البعض أن هذه الميزة هي حكر على النخبة التي تتمكن من بعض أسرار الحياة، ويعتقد آخرون أنها يمكن أن تظهر أو تتوافر عشوائياً لكل إنسان. وفي أغلب الأحوال تحتاج الأفكار النوعية لظروف حضارية وتاريخية مناسبة، وكلما كان بالإمكان توسعة نطاق هذه الظروف، تحسنت فرص الحرية الحقيقية وضاق مجال البؤس البشري وانحسرت مظاهر العبودية. وفي شأن متصل تنبع أهمية وضرورة التربية على التفكير والظروف الحاضنة له والأبواب والمنافذ التي يمكن أن يُصرف من خلالها. كذلك تنبع ضرورة تحفيز المنحى الإيجابي للتفكير الإنساني، ذلك أن جزء كبيرا من المآسي التي سبّبها البشر لأنفسهم عبر التاريخ نتجت عن أفكار نوعية إنما تدميرية. وخلافا لكل ما مرت به البشرية حتى الآن، وفي خضم التحولات الراهنة وثورة تكنولوجيا التواصل والمعلومات أصبح «حظ الفرد» من التفكير أكثر عشوائية من أي وقت مضى كما لم يعد بالإمكان حصر الأفكار الجديدة المحتملة الظهور في طبقة أو لدى فئة معينة. حتى المفاهيم شديدة الصلة بمثل هذه الطبقات، مثل الأرستقراطية، باتت شبه بالية، أو تراثاً أو أثر بعد عين. وفي مناخ العولمة، وبسبب تغير مفاهيم الإنتاج والاقتصاد يجب ملاحظة التحول النوعي في العلاقات بين الطبقات والفئات الذي جعل معنى النخبة فضفاضاً أكثر فأكثر بحيث أصبح الانتماء لها من المستويات الشعبية أكثر احتمالاً من أي ظرف تاريخي سبق. بل ربما أصبح هذا الانتماء شعبياً إلى حد الابتذال في بعض الدول الناهضة في عالم اليوم، وحيث ظهرت فجأة أوساط لها دور تفضيلي ضمن أنماط الإنتاج المستجدة والتجارة الدولية المتحررة من القيود والمعارف والمهارات المناسبة لهذه أو تلك (اللغات، التسويق، طرق التمويل الخ). وفي هذا الخضم يصح القول إن كل فرد بحاجة في عمله ومهنته واهتمامه، إلى ذكاء تواصلي واجتماعي كي ينجح ويتميز بنفس درجة حاجته لتفكير إنساني يشعره بأنه أكثر من مجرد «واحد» في شبكة عالمية تضم سبعة مليارات بشري، وإلا شعر بأنه يمر مرور الكرام على هذه الحياة ويعيش بائسا يتساءل دوما عن سبب وجوده. هذا التفكير الإنساني المنشود يحتاج بدوره لتطوير فردانية حقيقية، أو نوع من الخلوة الذاتية التي تعتبر شرطاً لا بد منه لأي تفكير. والجمع بين هذه العزلة وذلك الفضاء التواصلي الشاسع يمثل مفارقة حقيقية ليس من السهل التعايش معها إلا بتخطي القوالب الجامدة من حولنا التي تحيل الحياة إلى ثنائية ذات علاقة طردية متنافرة. وهذه العملية شائكة وصعبة للغاية، وتتطلب -ضمن أشياء أخرى- ثقافة وبرامج وسياسات تعليمية وبحثية وشيئا من الفلسفة والأخلاق، في حين أن السائد من حولنا اليوم غايات «وجودية» ساذجة ومكشوفة، تعجز عن تغطيتها أي شعارات رنانة مستعارة أو صور تبدو سامية ومنزهة عن المصالح. ولا شك أن حل معضلة هذه الازدواجية غير ممكن إلا بأفكار نوعية كلياً، بل إنه أمر فائق الصعوبة. وعلى قدر هذه الصعوبة يمكن تصور المتعة التي يمكن أن تولدها هذه الأفكار المطلوبة، وليس أقلها إنقاذ تخبط الجميع من هذا البحر من التناقضات الأخلاقية الراهنة. د. الياس البراج | barragdr@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©