السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من سرادق العزاء إلى السجن

من سرادق العزاء إلى السجن
14 نوفمبر 2013 20:56
خرج سمير من السجن بعد ثلاث سنوات عجاف، قضاها في الظلام وبين الجدران الضيقة، يعد الأيام والليالي بل الساعات والدقائق، لم ير خلالها أباه ولا أمه ولم تزره زوجته إلا مرات معدودة بسبب ضيق ذات اليد وصعوبة السفر إلى محبسه، الذي يقع في منطقة صحراوية بعيدة، أما أولاده الثلاثة فلم يرهم بأوامر منه لزوجته التي منعها من إحضارهم معها وحذرها من الإقدام على هذه الخطوة، لأنه لا يحب أن يروه وهو في هذا المشهد وراء القضبان. تلك الأيام التي كانت شديدة الصعوبة من المستحيل أن يمحوها من الذاكرة أو ينساها، فهي علامة في حياته بدأت بتلك المشاجرة التي وقعت بينه وبين عدد من الأشخاص وقد أصابه أحدهم بجرح في وجهه مازال أثره باقياً واضحاً، ودليلًا على أنه من الذين يثيرون المشاكل، وهذا الجرح القديم هو أكثر ما يؤلمه نفسياً، خاصة إذا نظر في المرآة وتحسسه بيده، يكاد الغيظ يأكله حتى إنه ذات مرة ضرب المرآة بيده فأصيب بجرح آخر، ويتذكر أن السبب وراء هذا كله خلاف بسيط مع زملائه العمال من الحمالين في سوق الأسماك، ويعترف بينه وبين نفسه بأنه هو المخطئ، لكنه يحاول أن يغالط ويدعي عكس ذلك. إنسان في أزمة بطبيعته لم يكن محبوباً من الجميع يكنون له الكراهية، وزاد الطين بلة أنهم هجروه وقاطعوه متعمدين منذ وقعت المشكلة ووجدوها مبرراً لعدم التعامل معه مرة ثانية، وعندما كان في محبسه لم يفكر واحد منهم في زيارته ولو مجاملة كما يفعل الأهل والأصدقاء مع أي إنسان يقع في أزمة، وجد نفسه وحيداً حتى إنه حينها لم يجد مالًا ليوكل محامياً للدفاع عنه فانتدبت المحكمة له محامياً على نفقتها كما تقضي القوانين، وقد كان هذا كله يحز في نفسه وترك أثراً عميقاً، لكنه لا يستطيع أن يعاتب أحداً على تقصيره معه، ويجب أن يلوم نفسه قبل أن يلوم الآخرين، لأنه لم يقدم لنفسه ولم يحسب حساباً لموقف مثل هذا ولم يساعد يوماً أحداً، حتى يطالبه برد الجميل. وجد نفسه وحيداً ومنبوذاً، ليس أمامه أي فرصة عمل، ورفض أصحاب المحال والسيارات السابقون تشغيله معهم بسبب مشاكله الكثيرة التي لا تتوقف، فلم تكن المعركة الأخيرة التي دخل بسببها السجن هي الوحيدة، وإنما كانت من بين عشرات المشاكل والخلافات اليومية المستمرة والتي يكون دائماً طرفاً فيها، حتى إذا وقعت أي مشكلة يعرف الجميع أنه وراءها وسبب فيها وأطلقوا عليه لقب سمير مشاكل ورفض أن يعتذر عن أفعاله وتصرفاته حتى يمكن لبعض الحكماء أن يتدخلوا ويتوسطوا ليجدوا له عملاً. مات والد سمير، رجل عجوز هادئ يختلف عن ابنه في كل الصفات والتصرفات، وليست له أي عداوة مع احد، وقد اعياه النصح لابنه لكنه لم يستجب، فتركه لحال سبيله، خاصة وان كلا منهما يعيش في بيت مستقل، لكن في يوم الوفاة وأثناء الإعداد للغسل والدفن كان هناك عدد قليل جدا من اصدقاء الأب جاءوا يلقون عليه النظرة الأخيرة ويودعونه لكن لم يحضر أي شخص له علاقة بالابن، فوجد نفسه في وضع غريب. استقبال المعزين في المساء كان سرادق العزاء جاهزاً لاستقبال المعزين، في الغالب يبدأ توافدهم بعد صلاة المغرب، لكن حتى بعد صلاة العشاء لم يحضر أي شخص ليعزيه في فقد أبيه، ومر الوقت ساعة بعد الأخرى، وهو يجلس وحيداً يدخن السجائر بشراهة وبطريقة متواصلة، لأنه يكاد يحترق من هذا الموقف المخزي الذي تعرض له، يتنقل بين المقاعد، ثم يروح ويجيء مثل شخص ينتظر حدثاً مهماً، أو ينتظر خروج مريض من غرفة العمليات، ولم يتغير الموقف أيضا، ومضى الوقت من دون أن يأتي أحد، وعاد إلى بيته منكس الرأس وهو يحاول أن يتذكر أي جميل أو معروف ربما يكون فعله من قبل فلم يجد، الشيء الوحيد الذي اعترف به أنه وقد تخطى الخامسة والثلاثين طوال حياته لم يذهب يوماً للمشاركة في تشييع جنازة أو تقديم العزاء، الآن فقط عرف أن هذا من قبيل الواجب يتبادله الناس في حياتهم، لذلك حين ماتت أمه بعد أبيه بحوالي سنة، اكتفى بإجراءات الدفن ولم يقم لها عزاء ولا سرادقا، فهو يعرف النتيجة مسبقاً وبالفعل لم يذهب إليه أحد ليعزيه وهو في بيته، وحتى لا يتكرر الموقف الذي لا يريد أن يتذكره وهو لا ينساه أبداً. الرجوع إلى الحق كل هذا ولم يتعلم “سمير” الدرس ولم يفكر في الرجوع إلى الحق وإلى الفضيلة ويتعامل مع الناس كما يحب أن يعاملوه، لم يبحث عن الأسوياء ليتعامل معهم وإنما سار مع الذين يسيرون في الطرق الملتوية والسبل المعوجة، فقد اعتقد وهو متعطل ولا يجد بين يديه مالاً ولا طعاماً ان لجوءه إلى المخدرات سوف يحل له كل مشاكله، تعاطاها وقدمها على قوت زوجته وأبنائه الصغار ولم تكن المشكلة عنده كيف يبحث عن عمل من أجل أن يوفر لهم لقمة العيش وإنما من أجل أن يشتري المخدرات ولم يجد بالطبع من تجارها من يقدمها له بالديون، لكنهم فتحوا أمامه باباً واسعاً يجعله يحصل على كل ما يريد من أموال تكفيه وتكفي أسرته في نفس الوقت. قبضة الشرطة العرض كان سخياً، عليه فقط أن يعمل معهم في تجارة المخدرات وكل دوره أن يقوم بنقلها من وإلى الأماكن التي يحددونها له، من الطبيعي أنه لم يتردد في قبول العرض ولم يفكر في عواقبه ولا حتى مدى حرمة ما هو مقبل عليه، ولم يرد على باله أنه يمكن أن يسقط في قبضة الشرطة ويخسر كل شيء، ولكن كان تحفظه الوحيد هو تعديل الاتفاق فلم يقبل العمل تحت أيديهم وطلب أن يعمل لحساب نفسه، ومرد هذا هو الطمع في المكسب الكبير الذي ستدره عليه هذه التجارة المربحة، وهو يعرف عائدها جيداً وأصبح خبيراً في أنواعها من حشيش وأفيون وهيروين علاوة على أنواع الأقراص المخدرة التي تنتشر بين الشباب وسوقها رائجة بينهم، خاصة أقراص الهلوسة التي يتوهمون أنها تجعلهم يشعرون بالنشوة والسعادة، ويطلقون عليها اسم “الصراصير”، وهي في نفس الوقت رخيصة الثمن وتناسب الطلبة والشباب الذين لا دخل لهم إلا المصروف من آبائهم. وانطلق سمير نحو تجارته التي كانت بالفعل كما يعرف فهي تدر عليه دخلاً غير كل حياته خلال أشهر معدودة، أصبح معروفاً بين تجار الصنف، وتطور الأمر ليكون له أتباع وصبية يعملون تحت إمرته وبين يديه يأمر فيطيعون وينفذون كل ما يطلبه منهم بلا تفكير أو نقاش كما علمهم فهذه التجارة تحتاج إلى من يدير دفتها وما على الآخرين إلا السمع والطاعة، ومن يخرج عن ذلك مصيره الموت قتلاً، فهذا هو القانون الخاص بهؤلاء الناس، لا قلب لهم ولا مشاعر، ولا يعرفون العلاقات ولا الاعتبارات الإنسانية، وبجانب ذلك أصبح لهذا التاجر زبائن كثيرون من كل أنواع البشر والأعمارالذين انزلقت أقدامهم في هذا المستنقع. المراقبة المستمرة من الطبيعي أن تصل المعلومات إلى الشرطة عن “سمير” ونشاطه ويتم وضعه تحت المراقبة المستمرة ورصد تحركاته، ولكن المفاجأة الكبرى أنه رغم أن زوجته انتقلت إلى جوار ربها، إلا أنه في هذا الصباح عقد صفقة كبيرة من كل أنواع المخدرات وخاصة الأقراص، وما ذهب إليه تفكير رجال مكافحة المخدرات أن تلك خدعة ليستغل الرجل الجنازة والعزاء لتحويل أنظار رجال الشرطة عنه، حيث إن كثيراً منهم من قبل كانوا يتخذون من سيارات نقل الموتى والتوابيت وسائل لنقل المخدرات، لأنهم يعرفون أن الجميع يحترمون حرمة الموتى، ولكن هذه الخدعة أصبحت معروفة ومكشوفة ولا تتكرر. وقبل أن يتسلم الصفقة، عرفوا السبب الذي وراءها، فقد أعدها الرجل لتوزيعها كصدقات “رحمة ونور” على روح المرحومة ومن جانب آخر ليجذب أكبر عدد من المعزين ليملأوا المكان ويتباهي بهم ويعرف أنهم سيأتون مهرولين من أجل هذه الوسيلة التي يجذبهم بها لأنه يعلم أنهم أسرى لهذه السموم، رغم أنها تقتلهم ببطء لكنهم يقبلون عليها، ومن جانب ثالث ليتخلص من الموقف القديم الذي حدث عند وفاة أبيه وقاطعه الجميع، وعندما وصلت هذه المعلومات إلى ضباط مكافحة جرائم المخدرات، ضحكوا جميعاً حتى كادوا يستلقون على الأرض من سذاجة تفكير المتهم، ثم فاجأوه وهو يتسلمها ليلقوا القبض عليه متلبساً بحيازتها لتثبت عليه التهمة كما يقضي قانون العقوبات. لم يصدق سمير وهم يضعون يديه في القيود الحديدية أنه خسر كل شيء، ولم يتحقق له حلم سرادق العزاء المكتظ بالمعزين وهو يتخيل نفسه واقفاً بينهم ويواسونه، والأهم ضياع أبنائه الصغار وهو ينتظر حكماً بالمؤبد قد لا يخرج منه إلى النور مرة أخرى وقد جرب السجن من قبل ويعلم كل ما فيه.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©