الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحراك الاجتماعي العربي: التداعيات والمآلات

الحراك الاجتماعي العربي: التداعيات والمآلات
18 نوفمبر 2011 23:01
تنطوي الكتابة على ظواهر اجتماعية وسياسية ضخمة وغير مسبوقة، بحجم "الحراك الاجتماعي" الذي طال خلال الأشهر الأخيرة عدداً من الدول العربية، على محاذير منهجية يتجنبها أي كاتب أو محلل. لكن ما ينبغي استحضاره في هذا السياق، هو أن التغيير الذي انتهت إليه الأحداث في مصر، شكل مفاجئة وحالةً استثنائيةً. فقد جرى تصنيف البلاد زمناً ضمن "الدول المستقرة" رغم أزمتها الاقتصادية المزمنة، ما جعل محللين، مصريين وأجانب، يستبعدون فرضية تــكرار "سيناريو تونس" نــظراً لاتساع الرقعة الجـغرافية في مـصر وتماسك مؤسسة القوات المسلحة القابضة، في حقيقة الأمر، بزمام السلطة بواجهة مدنية، منذ انقلاب يوليو 1952. ومن الأسباب التي راج أنها ستحول دون قيام حركة شعبية على شاكلة "ربيع تونس"، تَفَرُّقُ المحتجين في مصر إلى مجموعات وتوزُّعُهم بين ولاءات عقائدية متباينة. وذهبت آراء إلى القول إن استقرار الحكم متأصل وراسخ في مصر، بما يعكس طبع أهلها الميال إلى السلم. إن العجز عن توقع الزلزال الكبير المفاجئ في مصر، يدل - من وجهة نظري- على تراجع الاهتمام الأكاديمي في الغرب وضعف مواكبة أوضاع الشرق العربي وتطور أحواله وهياكله العامة. بل ربما يشير إلى تقاعس أجهزة الاستخبارات التي من بين مهامها استباقُ الأحداث والتنبؤ بها قبل وقوعها. ما يلاحظ أن أجزاء من العالم العربي تتعرض لرياح تغيير تقوده قوى اجتماعية مستعجلة، تريد اقتلاع ما يعرقل طريقها من حواجز، ساعية بجرأة محيرة أحياناً، من أجل استبدال نظم سياسية تراها متجاوزة وعتيقة ومستبدة، وتعويضها بأخرى لم تتبلور ملامحها. وثمة قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تعتقد أن ما هو حاصل أفضل من الأوضاع القائمة ويبشر بحالٍ أحسن. فهل يقوم هذا التفاؤل على سند أم أنه نزوع انتحاري؟ لا توجد أجوبة قطعية على تساؤلات تتردد على أكثر من لسان. والواقع أننا حيال انعطافة اجتماعية قويةٍ متلاحقةِ الفصول، سريعة التقلب، ينبغي التريث قبل الحكم عليها. ولا يمنعنا ذلك من الإدلاء باستنتاجات مؤقتة، أفرزتها فصول الحراك الاجتماعي. لابد من التأكيد أن الحراك العربي ظاهرة سياسية تاريخية "فريدة" اتسمت بالشمول وتعدد الأبعاد. لا تقاس بما سبقها من أشكال وتجارب التمرد على أنظمة الحكم، حتى في عهود الاستعمار. ليست لها صلة بالانقلابات العسكرية. فالآن، وبعد مسلسل "الثورات" المتلاحقة، أصبحت المؤسسة العسكرية شبه فاقدة لشرعيتها الثورية في نظر الجماهير. ولم يعد مُبرِّرُ الانقضاض على السلطة هو ادعاء محاربة الاستعمار والغرب. وكما اتسمت "الثوراتٌ" الشعبية العربية، في بداياتها، بالعفوية والنزعة السلمية، كذلك لم تتحكم فيها زعامات تقليدية، ذات "كاريزما" جاذبة. إنها تكتلات جماهيرية تصدر عنها ردود أفعال غاضبة وجارفة مثل الطوفان. لم تحدد سقفاً معلوماً ونهائياً لمطالبها وأجندتها، كما لم تعلن الانتساب لمرجعية فكرية بعينها. وهذا يعني أن كتلة المتظاهرين والمحتجين ليست موحدة أو محصورة في الشباب الواعي، بل تم استقطاب فئات أخرى التقت معهم تحت مظلة مطالب سياسية واجتماعية عريضة. هذا "التمازج" بين المكونات يفسر إلى حد كبير، التأرجحَ والاضطرابَ، بل الصعود والنزول، في لائحة مطالب المحتجين. في ظل غياب الرؤية الثورية، وتداخلُ الحلم بالواقع، وصعوبة التوفيق بين الرغبات المشروعة والمستحيلة. وإذا كان من أمر يدل عليه "غموض الرؤية" فهو المستوى الذي وصله الاحتقان الاجتماعي، وانسداد الأفق السياسي. انعدم الحوار وتأزمت العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. فشلت الديمقراطية التمثيلية الشكلية التي احتمت بها بعض الأنظمة، في عقد تصالحٍ ووفاقٍ مع المواطن. كما فشل نموذج التنمية. لا غرابة إن اندلع الانفجار الكاسح أولا، من التربة التي استشرى فيها الفساد السياسي والمالي، وحيث كُمِّمت أنفاس المواطنين واحْتكرَ السلطةَ حزبٌ واحد وأقلية عائلية أو قبلية. هذا مع اختلاف الأوضاع بين مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا. غير أن هذا الحراك العربي "الفوضوي والعفوي" أفرز منذ أيامه الأولى مفارقاتٍ إيجابيةً تجلت في حدوث تمازجٍ وانصهارٍ بين فئاتٍ اجتماعية متعارضة، ألغت مؤقتاً خلافاتِها الأيديولوجيةَ والفئوية. تميز هذا الحراك كذلك بلقاء بين الأجيال. لكن كم سيدوم هذا "الوئام"؟ وأية قوة ستستفيد منه؟ بطبيعة الحال، لا يمكن لهذا الانسجام أن يدوم. ويجب أن لا تفاجئنا بوادر الانقسام وتشتت الصفوف. فإن استطاع "الثوار الجدد" تدبيرَ خلافهم بوسائل الحوار السلمي، فسيحسب لهم أنهم طوَّرُوا الممارسة الديمقراطية والسياسية في الأوطان العربية. يتساءل الجميع: لماذا اندلعت وتسارعت الأحداث بمثل هذه القوة والكثافة، وبصورة متزامنة ومتقاربة في أمكنة عدة من الرقعة العربية؟ بالتأكيد، لا يمكن إغفالُ الدورِ الذي مارسته وسائل الاتصال الحديثة في إذكاء جذوة الثورة الكامنة في نفوس الشباب، بما وفرته من انسياب التواصل الآني فيما بينهم، ما مكن الفئات الجديدة من التعبير بحرية وتلقائية وبلغة عفويةٍ. إنهم يبشرون بعالم جديد. لا ينطبق هذا "التوصيف" على كل المجتمعات العربية التي وصلها "الربيع الديمقراطي العربي". ثمة خصوصيات تنفرد بها تجربة دون أخرى. لكن الخصوصيات لا تلغي التشابه في المنطلقات العامة والرغبة الدفينة في التحرر، فضلاً عن تشابه الأهداف المتمثلة في تَوَقِّ المجتمعات العربية إلى "التغيير" الشامل وتشييد نظام بديل. وهنا يتحتم السؤال: لماذا انحصر الحراك في دول عربية دون أخرى؟ لا يمكن التكهن بإجابة دقيقة، فالحراك، في جولاته الأولى، يمكنه أن يعاود الظهور في أمكنة جديدة وبأشكال مغايرة، مستفيداً من تقييم التجارب السابقة. كما قد يخمد ويصبح رماداً ناطقاً بالذكريات، كما حدث في فرنسا خلال حراك مايو 1968. ويصح القول نظريا بأن "مآل الحراك" يتوقف على كيفية استجابة وتعاطي الأنظمة السياسية المعرضة أكثر من غيرها لسهام الاحتجاج. مثلما يتوقف أيضاً على وعي "المحتجين" واستيعابهم لطبيعة الظرف التاريخي وحسن تدبيرهم لثورتهم الخاصة. وما يقلق ويدعو للحيرة، هو احتضان الغرب وحماسه المريب لمسلسل الثورات العربية المتلاحقة. لماذا يؤيدها أكثر من العرب المعنيين بها، من خلال مواقف رسمية وتحريض إعلامي؟ ما هي مصلحته القريبة والبعيدة في ذلك؟ ألا يخشى انقلاب تلك الثورات عليه بعد أن تستقوي؟ وفي هذا الصدد، يتساءل كثيرون، وبقلق مشروع: متى كان الغرب، المستعمر السابق، متعاطفاً مع قضايانا العادلة وأهمها فلسطين؟ أريد أن أخلص مما سبق إلى أن أوضاع العالم العربي متباينة ومعقدة، زادها الاستبداد والتخلف السياسي والوضع المعيش صعوبة، فلم تعد تنفع في علاجها الإجراءات التقليدية والمسكنات الظرفية. تلك بديهية أكدها الحراك. وكما هو معلوم، فإن هذه الرقعة الجغرافية لم تنجز ثورتها الوطنية الديمقراطية في الإبان المناسب. فقد حال دون ذلك التخلف والاستعمار. لم تمتلك أغلبية الحركات الوطنية العربية، الأدوات السياسية الكفيلة بتأسيس دولة عصرية. إن ما قام به مفكرون ومصلحون متنورون في المغرب والمشرق، لا يعدو كونه مجرد اجتهادات ومحاولات تقريب بين العلم والدين. لم يثوروا على التفكير التقليدي الغيبي برمته، ما أوجد التربة الملائمة لانتشار الاستبداد السياسي وتبريره والذي ورثته أنظمة الحكم العسكرية فيما بعد، مستنسخة الماركسية الحرفية ونظام "الحزب الوحيد" أصل الداء. وفي هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن تندلع حركات الاحتجاج الأولى من مهد دول حكمها حزب واحد بواجهة مدنية أو عسكرية مثل تونس وسوريا واليمن أو بلدان سادتها شعبوية فوضوية (مثل ليبيا). وحتى مصر، التي أسست تعددية بيروقراطية تسلطية، سهلت استشراء الفساد السياسي وانسداد شرايين نظام الحكم. أعتقد أنه من المناسب، ولأسباب وجيهة، الإشارة إلى تجربة المغرب، في التعامل مع حراك الشارع، مستبقاً تعقيدات وتداعيات واجهها آخرون، فأوقفت المعالجةُ الهادئةُ والجريئة الطوفانَ عند مستويات معقولة. صحيح أن الخطوات الإصلاحية الواسعة التي بدأ تطبيقها في المغرب، لم تُرضِ سائر فئات المحتجين، وخاصة المرتبطين بتنظيمات يسارية متطرفة أو الملتفين حول حركات دينية سلفية. ومن وجهة نظري، فإنه رفضٌ عابر، يندرج ضمن المزايدات السياسية المألوفة. فهل أعطى المغرب النموذج لمعالجة إشكالٍ صعبٍ وهيَّأَ الأرضية المناسبة لقادة آخرين؟ إن "النقلة" السياسية الكبرى في المجتمعات لا تتحقق دائماً بسلاسة، لأنها تقلق المستفيدين المقاومين للإصلاح. سبق أن حذر مفكرون وإعلاميون عرب في الوقت المناسب من مخاطر الانزلاق نحو الاستبداد، وبينوا عواقب توريث الحكم في الجمهوريات ومنع التداول السلمي على السلطة. كان حدوث الزلزال متوقعاً وحتمياً، ربما ليس بالعنف والتضحيات التي رافقته. قد يستمر الحراك الاجتماعي زمناً ويصبح ظاهرة مألوفة، بوسائلِ تعبيرٍ مختلفةٍ ومتطورة، ولن يستمر بمثل الفوضى والزخم المخيف الذي طبعه خلال الأيام الأولى. سيتجه أكثر نحو المنحى السلمي. وستتيح الدينامية الجديدة اختبار قدرةِ الأنظمة على استيعاب أهداف الحراك بالتحاور معه وليس إسكاته بالقوة والقمع. وأود أن أختم هذا العرض بخلاصات مفتوحة أصوغها في نقاط: 1 -مهما يكن الاتفاق أو الخلاف بشأن تقييم الحراك العربي، فإنه في المحصلة ظاهرة سياسية واجتماعية إيجابية بل نقلة حضارية، ويكفي أنه حرك السواكن، ونبه إلى حتمية التغيير والإصلاح. 2 -الحراك أعاد السياسة بمعناها النبيل إلى صدارة الأحداث وأحرج السياسيين التقليديين وسائر الأحزاب بمختلف توجهاتها. 3 -يمكن القول إن العالم العربي عرف مع الحراك الحالي "ثورته العربية الكبرى الثانية". 4 -وبفضل الحراك تم ربط العالم العربي بالعالم المتقدم من خلال شبكة الاتصالات والإعلام الحديثة. 5 -كما يحدث في أي حراك عفوي وغير منظم، فإن حصيلة الخسائر ترتفع، حيث تلجأ الأطراف إلى العنف. 6 - سيدعم حراك الشباب "قوة المجتمع المدني" في الدول العربية، بل هو ملاذه وخيمته. هذه بعض إيجابيات الحراك، فأين تكمن مخاطره؟ وما هي التوقعات؟ إن الفوران الشعبي القائم في صورة اشتباكات دموية عنيفة بين المتظاهرين والمدافعين عن النظام، قد يتطور إلى حرب أهلية واسعة. لذلك فإني أميل إلى الاعتقاد بأن الحراك الهادئ والعقلاني، سيؤدي إلى قيام مؤسسات ديمقراطية لمواجهة تحديات اقتصادية كبرى. ذلك أنه من الصعب التوفيق بين البناء السياسي والانهيار الاقتصادي في وقت واحد. لكن ما أخشاه أكثر، هو عودة الاستعمار الجديد، وممارسةُ وصايتِه الكاملة على مقدرات الأوضاع العربية، وما يمكن أن يترتب عنه من ردود أفعال قوية، فيحدث الصدام مجدداً مع الغرب. كيف هي صورة المستقبل؟ لا أحد يدري، لكنها ستكون حتماً بخلاف الماضي. أعتقدُ أن حراكاً اجتماعياً عقلانيّاً ومعقولاً وحدَه من شأنه أن يُؤديَّ إلى إقامةِ مؤسساتٍ ديمقراطيّةٍ قادرة على إقرارِ حكمٍ رشيدٍ يُؤمِّن حريةً حقيقيةً، وعدالةً اجتماعية، وتنميةً اجتماعية واقتصادية مُستدامةً ما سَتستفيدُ منه كلّ فئات الشعب. إنه ربما حُلمٌ. لكن ألمْ تكنْ بداية كلِّ الثورات الحقيقيةِ حُلماً؟ محمد بن عيسى وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي السابق وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©