السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اطلبوا الشهادات ولو من الصين

اطلبوا الشهادات ولو من الصين
15 نوفمبر 2013 20:53
كنت أجلس من باب المجاملة في بيت قريبة لي حين سمعنا صوت ارتطام كرة بجدار، فهتفت قريبتي بابنها الصغير: ذاكر يا ولد! فعلّق ابنها الآخر الذي يدرس في الجامعة: ما يجنيه ميسي يوازي دخل ألف مهندس انكبوا على الرسومات الهندسية السنين الطويلة. اتركيه لعله يصبح لاعباً، فليس هذا زمن الشهادات. وكانت فرصة لممارسة هواية التفلسف، فسألت قريبي: كم ولداً تمنى قبل عشرين سنة أن يكون مارادونا المستقبل، وحملته هذه الأمنية من مقاعد الدراسة إلى ملاعب الطين؟ أعتقد أنهم ملايين الأشخاص حول العالم، لكن شخصاً واحداً حقق حلمه وأصبح «ميسي». وهناك محترفون غير ميسي يلعبون في الأندية العريقة والثرية، لكن كم عددهم إذا كانت أهم دولة كروية وهي البرازيل، بالكاد وصل عدد محترفيها حول العالم 1.200 لاعب فقط، فأين ذهب بقية الحالمين من أولئك الملايين؟! وجدوا أنفسهم من دون شهادات تضمن لهم وظيفة أو عملاً يدر دخلاً معقولاً، وربما تجدهم الآن يتحسسون كروشهم على المقاهي ويندبون حظوظهم. وفي المقابل، كم طالباً وضع الجامعة نصب عينيه في الفترة التي كان فيها الولد ميسي يحلم بأن يكون مارادونا؟! أعتقد أنهم مئات الملايين من الأولاد، وأعتقد أيضاً أن نسبة كبيرة منهم التحقوا بالجامعات ثم وجدوا وظائف تفي بطموحاتهم. أي أن نسبة تحقق الحلم لدى جماعة المدارس أعلى من نسبة تحققه لدى جماعة الملاعب. ولو جئنا بعشرة آلاف خريج، ومثلهم من اللاعبين العاديين، فإننا سنجد أن الخريجين حققوا أحلامهم أكثر من اللاعبين، وإن كنت تريد الخير لشقيقك، فانصحه بأن يلعب على الشيء المضمون. وعلى عكس ما تقول، فهذا زمن الشهادات، على الأقل في المجتمعات التي لا تملك آلية لتقييم مهارات الإنسان وقدراته سوى بشهادته. وإذا حصل أن تغيرت طريقة تفكير المجتمع وأصبحوا في شؤون الموظفين يلقون بالشهادات الجامعية في سلة المهملات ويقيّمون الشخص الماثل أمامهم وفق معايير أخرى، فإنني أول من سيمزق شهادته وسيُسرّح أولاده من المدارس. والآن سأسألك سؤالاً: ما الصورة التي ستتبادر إلى ذهنك حين أقول كلمة «العبقرية»؟ فسرح قريبي بخياله قليلاً ثم قال: صورة آينشتاين، فقلت: وهذا يحدث في مخيلة أي إنسان عاقل، مثلما تقفز صورة العجوز هارلاند «مؤسس مطاعم كنتاكي» عند الحديث عن أي شيء مقرمش أمام أي إنسان أكول. ومن المعروف أن آينشتاين كان متأخراً في تحصيله الدراسي، وقد توقف عن الدراسة لفترة من الوقت، وحين تخرج في المدرسة لم يرشحه أساتذته لدخول الجامعة، لكنه استطاع بعد ذلك أن يشق طريقه الأكاديمي ويحصل على الدكتوراه في الفيزياء. لكننا سنفترض أن الرجل لم يلتحق بالجامعة، مثل الكثير من العباقرة، ولم يحصل على الدكتوراه، لكنه اكتشف النظرية النسبية، وفاز بجائزة «نوبل»، وأصبح واحداً من أشهر الشخصيات في العالم، ومقروناً اسمه بالعبقرية مثل اقتران اسم «خليل مأمون» بالشيشة. وبناء على هذا الافتراض، فليس من المستبعد أن تشاهد السيد ألبرت آينشتاين يحمل صينية الشاي ويقدمها أمامك بينما أنت تجلس في مكتب صديق لك يعمل مديراً في مؤسسة، فحتى لو صرخت في وجهه بينما تحمل الصينية عن الفرّاش المذكور وتقبّل يديه: إنه آينشتاين يا رجل! حرام عليكم. فإنه سيرد وهو يشير لآينشتاين بالمغادرة: أعرف ذلك، والجميع هنا يعرفون إنه العبقري الأول في العالم، لكن نظام الموارد البشرية لا يعرفه. وبعد أن يخرج آينشتاين من المكتب سيقول لك: لقد فوجئت عندما رأيت سيرته الذاتية ضمن كومة من السير الذاتية، وقررت فوراً تعيينه مديراً بدلاً مني، وأن أتشرّف أنا بصب الشاي والقهوة له، لكن عند إدخال بياناته في النظام، مع التأشير على خانة «مدير»، توقف البرنامج عن الاستجابة، وظهرت شاشة صغيرة تقول: مطلوب شهادة جامعية لمواصلة الإجراء. فماذا أفعل؟ وبقينا نجرب الوظائف من الأعلى إلى الأدنى، وفي كل مرة كانت تظهر تلك الشاشة اللعينة، ومن حسن الحظ أنها لم تظهر عند التأشير على وظيفة «فراش». الفراش أيضاً شخص مهم، لكن الحديث الآن عن أهمية الشهادات في ظل أنظمة معصوبة العينين تحكم بين المتقدمين للوظائف بمعيار الشهادة الجامعية، مهما كان حاملها بليداً، وكان الذي لا يحملها عبقرياً. وستقول كالعادة إن الإبداع لا يحتاج إلى شهادة، وهذا صحيح، لكن بالشهادة تحصل على وظيفة، وبالوظيفة تجني المال، وبالمال تستطيع أن تطبع كتبك لو كنت كاتباً، وأن تصور أغانيك لو كنت مطرباً، وأن تقيم مرسماً وتشتري أدوات الرسم باهظة الثمن. من دون هذه المقدمات لن تستطيع أن تقدم إبداعك للعالم وتنتزع الاعتراف منهم. ثم من يضمن للمبدع أن إبداعه سيؤكله العيش والمرق؟ قد يكون المبدع أفضل رسام في العالم، لكن لأسباب أخرى، كضعفه في التسويق، لا يجد من يشتري لوحاته، بينما الشهادة ستضعه على سكة العمل الذي يؤمن له قوت يومه. وقد تقول إن بيل جيتس، وهو من أشهر الناجحين في العالم، هجر جامعته ليؤسس شركة «مايكروسوفت»، وكذلك فعل الناجح الآخر مؤسس موقع «فيسبوك»، لكن في المقابل، كم شخصاً ترك الدراسة مثلهما، ولم يفلح في أي شيء، ثم أصبح مجرد عضو في «الفيسبوك» بعد أن باع نصف ثيابه ليشتري كمبيوتر من بيل جيتس؟! وقد تقول إن الشهادة الجامعية من دون واسطة مثل الحصول على سيارة من دون محرك، وهذا صحيح في حالات معينة، وحتى في هذه الحالات، فإنك ستنغص عليهم عيشهم وهم يفتشون عن عذر ليتخلصوا منك، ولن يلومك أحد إذا جلست تعزف العود صباح كل يوم و.. آه، الحالم بميسي سدد الكرة إلى رأسي. me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©