الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجتمع الألماني: انقسامات تغذي النازية الجديدة

20 نوفمبر 2011 01:57
من "جورليتز" إلى "دريسدن" ومن "ليبزيج" إلى "هول" كنت أعبر بأحد أيام الصيف الحارة البلدات والمدن الألمانية مروراً بالمناطق الريفية باتجاه فرانكفورت في الغرب. وطيلة الرحلة من شرق ألمانيا إلى غربها كان القطار يتوقف في كل قرية صغيرة ليعاود شق طريقه من جديد عبر المدن والبلدات الشرقية. ولأن الوقت كان الصباح الباكر، فإن أغلب المسافرين كانوا غارقين في إغفاءات سريعة قبل أن تتوسط الشمس النهار وتبدأ الأحاديث الجانبية بين المسافرين. وبينما القطار يواصل رحلته كنت أطالع عبر زجاج النافذة مشهد الريف الألماني في الجزء الشرقي المهجور تماماً والموحش إلا من بعض المصانع التي غادرها أصحابها وبنايات قديمة ومتفرقة لم يعد أحد يهتم بها، بل حتى محطات القطار بدت مقفرة وخالية من المسافرين. هذه المشاهد الموحشة، دفعتني إلى التساؤل عما إذا كانت تركة أربعين عاماً من الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية قد أحالتها اليوم إلى ما يشبه الأرض اليباب. وهل نحن حقاً في إحدى أغنى البلدان وأكثرها ازدهاراً في العالم الغربي؟ وعندما وصل القطار إلى بلدة "هول" بولاية ساكسونيا فُتح الباب ليصعد خمسة شبان دلفوا إلى المقصورة يتبادلون الضحكات وفجأة علت صرخة "هاي هتلر". وأمام وقع الصدمة وربما الخوف طأطأ باقي المسافرين رؤوسهم، فيما تظاهر البعض الآخر بعدم سماع الصوت. واللافت في الشبان الخمسة أنهم حليقو الرؤوس ويرتدون أحذية جليد طويلة سوداء وقمصان رياضية بنفس اللون يرتسم عليها نسر ألماني ضخم فارداً جناحيه كتبت عليه كلمة "عاصفة". وفي الوقت نفسه كان أحدهم يحمل في يديه مجموعة من الأقراص المدمجة تطل من غطائها عبارة "موسيقى الروك من أجل ألمانيا". وفجأة بدأت أفهم ما يجري حولي، فالعبارة الموقعة على الأقراص المدمجة تحيل إلى حفل للموسيقى الصاخبة يعقد كل عام ببلدة "جيرا" البعيدة بنحو خمسين ميلاً عن مدينة "هول"، أو على الأقل كانت تلك الرواية الرسمية والمخففة أيضاً من الأحداث، لأنه في الحقيقة يمثل الحفل أحد أكبر المهرجانات الأوروبية للنازيين الجدد، وقد اكتشفت لاحقاً أنه في الأيام التي كنت أستقل القطار حضر الحفل الموسيقي ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص، ولا بد أن الرجال الذين شاهدتهم في المقصورة قضوا الليلة في الحفل، وقد تداعت صرخاتهم العنصرية يوم الاثنين الماضي، عندما استفقت على أخبار عثور الشرطة على رجلين ميتين يُعتقد أنهما كانا مسؤولين طيلة العقد الماضي عن مقتل تسعة رجال، أغلبهم من أصول تركية، بالإضافة إلى شرطية، وكان الرجلان يعيشان في منزل ببلدة "زويكو" التي لا تبعد عشرين ميلاً من مكان انعقاد الحفل الموسيقي، ويُعتقد أيضاً أنهما ينتميان إلى خلية محلية للنازيين الجدد، وقد ادعيا في شريط مصور أنهما من "الحزب القومي الاشتراكي" الذي يعمل تحت الأرض بعيداً عن أنظار الأمن. ومعروف أن منطقة "جيرا" هي القلب النابض للمشهد الموسيقي الذي يحركه "اليمين المتطرف"، وتعتبره الشرطة أنه بوابة الثقافة العنصرية والنازية في ألمانيا التي تستقطب الشباب المحبط، وليس الحفل الموسيقي بالمنطقة سوى واحد من عدة فعاليات موسيقية تمثل نقطة التقاء العناصر المتطرفة المدافعة عن التصورات النازية. وحتى الآن لم تبدِ أجهزة الاستخبارات الألمانية اهتماماً كبيراً بالحركات المتطرفة والخلايا العنصرية بدعوى أن الأولوية هي مكافحة الإرهاب وتعقب خلاياه. وفي مدينتي فرانكفورت، ببنوكها المزدهرة وبريق أضوائها يبدو الحديث عن النازيين الجدد وكأنه جزء من فيلم للخيال العلمي بعيد كل البعد عن الواقع. غير أن ما رأيته في شرق ألمانيا يعري الحقيقة المؤلمة: فبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على سقوط جدار برلين ما زالت ألمانيا منقسمة إلى جزأين، بحيث يطغى شعور باليأس والإحباط في الجانب الشرقي الذي غالباً ما ترافقه معدلات البطالة المرتفعة والاستياء من الأجانب، وقد عبر عن هذا الواقع "رينهارد ميلزر"، القس بإحدى الكنائس ببلدة "جورليتز" بساكسونيا قائلًا: "هنا يوجد شباب فقد آباؤهم مع مرور الأيام المُثل التي آمنوا بها". وحسب رجل الدين يعاني ربع سكان البلدة من البطالة، مضيفاً: "لا يستطيع الأهالي التعامل مع واقعهم، لا سيما وأن هذه الخسارة للمثل والقيم لم تناقش قط، واليوم يجد الجيل الشاب نفسه مضطراً للتعامل مع الأمر بطريقته الخاصة". ومع ازدياد الحركات النازية في ألمانيا، يتساءل الجميع عن الحل، هل يكمن في استحداث بنك معلومات يوثق جميع الأسماء المنتسبة للخلايا النازية؟ وهل يتعين على الحكومة حظر الأحزاب المتطرفة؟ مهما تكن تلك الإجراءات مهمة وضرورية، إلا أنه طالما بقيت ألمانيا منقسمة إلى مجتمعين لا أعتقد أن أياً منها سيكون مفيداً، وما زلت أذكر وأنا على متن ذلك القطار كيف شعرت بالارتياح وتنفست الصعداء، عندما وصلت إلى "كاسل" لأني أخيراً عدت إلى ألمانيا الغربية. إيزابيل دي بوميرو - ألمانيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان سياينس مونيتور"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©