الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة الحداثة الإماراتية

قصة الحداثة الإماراتية
16 مارس 2016 23:06
جبريل جالو - الاتحاد الثقافي - باريس «لقد ترك لنا الأسلافُ من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي، الذي يحقُ لنا أن نفتخر به، ونحافظ عليه ونطوره، ليبقى ذخراً لهذا الوطن وللأجيال القادمة»، بهذه الجملة الخالدة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، اختارت المخرجة السينمائية الفرنسية صوفي باشليه أن تستهل هذا الوثائقي «ذاكرة الدار»، الذي أعدته عن تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة من زاوية فنية وروائية. يتكون الوثائقي «ذاكرة الدار»، الذي يستغرق عرضه اثنتين وخمسين دقيقة، من شقين أساسيين: الأول هو الرواية التاريخية التي يسردها الدكتور عوض علي صالح، بصوت يطبعه اليقين والثقة والهدوء، نظرا لتجربته الكبيرة في «اليونسكو» واحتكاكه بكل جنسيات العالم من كتاب ومثقفين وأدباء. ومن هنا كان اختياره ليكون راوياً في هذا الوثائقي لكونه رجلاً يفهم العالم ويمكنه مخاطبته بلغته وأسلوبه. والشق الثاني يتمثل في عدد من الفنانين الإماراتيين ونظرائهم من الكويت ولبنان وأستراليا والعراق. يمثل هذا الوثائقي بحد ذاته لوحة تحكي سيرة وطن من الصحراء والشواطئ والوديان إلى التمدن والحداثة. لوحات تتحدث عن فترة ما قبل ظهور البترول والتحولات التي عرفتها البلاد بعد ظهوره. وفي هذا السياق يقول الدكتور عوض علي: إن الدولة في الإمارات انشغلت في فترة التأسيس ببناء البنية التحتية، إلا أنها لم تغفل الثقافة والتراث، وهذا ما يتجلى اليوم في الأنشطة الثقافية والسينمائية والفنية من مهرجانات تجعل من دولة الإمارات العربية المتحدة قبلة للمثقفين والفنانين من كل أنحاء العالم لما تمنحه لهم من مساحة للإبداع والتخيل والإنتاج. جماليات تتمثل الصبغة الجمالية للوثائقي في دقة الصورة واحترافيتها، حيث تنقل نشأة الأعمال الفنية، وهي تحكي سيرة وطن من الصحراء إلى العمران، لوحات ورسوم وكلمات تجمع بين دفء الصحراء وروح الصدق ورقة الفن. وتواكب «الكاميرا» في أبوظبي ودبي وليوا، هذ اللوحات والأعمال الفنية إلى نهايتها بكل ما يعنيه ذاك من معاينة للحظة الإبداع والإلهام، وهو ما تختزله الفنانة الإماراتية فاطمة عبد الله لوتاه قائلة: لا يمكنني أبدا أن أشرح لوحاتي، لأن الطاقة تكون في أوجها لحظة مباشرة الرسم، صحيح أنها تبقى كامنة في اللوحة بعد اكتمالها إلا أن بلوغها الذروة يكون خلال الرسم وهو ما أتمنى للمشاهد أن يدركه. ما يجمع بين الراوي والفنانين والمخرجة الفرنسية هو الوقوف أمام تجربة رجل دعا للوحدة وأقامها، وهو ما تعبر عنه الفنانة الإماراتية فاطمة المزروعي بقولها وهي تمزج الألوان في لوحتها: لم يكن من الممكن أن تكون دولة واحدة لهذا الشعب لولا الإرادة الصلبة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فقد كان يؤمن بأفكار هي التي حققت الطفرة لسكان البلاد». يظهر الفنان الإماراتي عبد القادر الريس في منتصف الوثائقي وهو يعد لوحة ثلاثية الأبعاد تغلب عليها الألوان الحمراء والزرقاء، وتتوسطها حروف عربية هي بمثابة التوقيع على أعماله، يقول: بدأت الرسم في ريعان شبابي في الستينيات من القرن المنصرم. يتحدث عبد القادر الريس عن البدايات الصعبة، حين كان الكثيرون يستغربون انهماكه في الفن واستنشاق روائح الزيوت ومعايشة الألوان. ويذكر الريس أن أحد رفاقه في المدرسة قال له في تلك الفترة:«اهتم بدارستك، الفن ما راح يوكلك عيش»، ويأسف الفنان لأن هذه الكلمة لا زالت تقال في بعض الأوساط وفي كثير من البلدان. لكنه يستدرك قائلا: اليوم تغيرت الظروف وأصبح الناس يسألونني كيف يطور أبناءهم وبناتهم مواهبهم الفنية؟ ويجزم الريس أنه رسم حقيقة وبجدية خلال 3 سنوات متواصلة بين العام 1965 و1968 وتمكن حينها من بيع لوحة واحدة.. لم يكن الأمر سهلاً. الفن والصحراء يتناول الوثائقي عدة مواضيع، من بينها الذاكرة والصحراء وتعايش مختلف الثقافات في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتظهر الفنانة الإماراتية فاطمة عبد الله لوتاه وهي تعد عملا فنيا من مواد أولية كلها من الصحراء، وتقول إنها تزور منطقة ليوا، للمرة الأولى، ثم تضيف:«أنا سعيدة جدا في ليوا لأنها وسط الصحراء. أشعر هنا بصمت كنت أبحث عنه منذ سنوات. فأنا أعيش في «فيرونا» وهي مدينة إيطالية رصاصية ألوانها فارغة. إلا أن كل الذين يشاهدون أعمالي يقولون إنها تشعرهم بروحانية، وبشفافية ونور. هذا ما أعطتني إياه الصحراء وأنا جدّ ممتنَّة، وأعتقد أن تجربة الفنانين في هذه الصحراء سيكون لها تأثير كبير في المستقبل على أعمالهم وحياتهم». أما الفنانة الإماراتية عزة القبيسي، فتقول في الوثائقي:«وجودي في الصحراء جزء لا يتجزأ من تكويني وتفكيري كفنانة، فهي بالنسبة لي هي مصدر إلهام وإبداع. هذه الصحراء تعكس الثقافة الموجودة في الطبيعة بعيدا عن المدن الكبيرة»، ثم تضيف أنها اختارت إعداد سلسلة فنية عن حياة «الغواصين» في الماضي والمعاناة التي كانوا يعيشونها بسبب المخاطر التي تتهدد حياتهم في الأعماق، نعم يستحقون منا أن نخلد تراثهم وأعمالهم وتجاربهم في أزمنة كانت فيها كل الوسائل بدائية ونادرة، ومع ذلك، لم تمنعهم الصعوبات ولا احتمالات الموت الكامن لهم في قاع البحر من أداء عملهم بجد، وبإخلاص منقطع النظير. وتتحدث القبيسي عن بداياتها الفنية قائلة: كانت الصعوبات ضخمة في أول تجربتي الفنية، فالفن لم يكن مقدراً عند الناس بشكل واسع في ذلك الوقت، وكانت رؤية المجتمع المحلي للفنون مقتصرة في مجال الصناعة اليدوية ومجال التصميم على وزن الذهب أو ماركات عالمية معروفة. ومن هنا كان اقتحامي لهذا المجال الجديد غريبا، فضلاً عن صعوبة تطويع الذهب لإبراز فكري الشخصي، كنت أبحث أن طريقة أطلع بها المجتمع على أهدافي التي أريد تقديمها من خلال العمل التطوعي، وبدأت أستوعب أفكار الناس. فكانت معارض أبوظبي أول فرصي لأطلع المجمتع على القصص الثاوية وراء أعمالي. يعود الدكتور عوض علي صالح ليؤكد على أن وجود هؤلاء الفنانين في هذا الوثائقي ما هو إلا أحد النماذج على إبداعهم، وكيف استطاعوا أن يقارنوا بين ما كانت عليه هذه الدولة في الماضي وما هي عليه الآن. كل هذا يعكس استفادة الفنان الإماراتي من الظروف التعليمية والصحية والإبداعية التي توفرت في الدولة، خلال الأربعة قرون الماضية. ليظهر الفنان الأسترالي ناصر بلنجي في اللقطة التالية وهو يتلاعب بذرات رمل في الصحراء ويقول: إنها لحظات وإنه لتاريخ. وأن لكل شيء ذاكرة. للماء ذاكرة وللرمل ذاكرة. وبأن النظر إلى الماضي إنما هو في الحقيقة محاولة لعيش اللحظة الآنية بكل ما يعنيه ذلك من محبة وجمال وتواصل مع الجذور. ويضيف: تعلمت كل هذه الأشياء من خلال عملي لسنوات طويلة بالصحراء. وأنا اعتبر كل حبة رمل هي بمثابة نجمة في السماء. في نفس اللقطة تحاوره الفنانة الإماراتية فاطمة عبد الله لوتاه قائلة: الصحراء تحسسك بشفافية الكون. ولهذا فكل أعمالي مرتبطة بشيء واحد هو النور. وتنعكس الصحراء في كل أعمالي الجديدة. ويقول كثيرون بأن أعمالي تشعرهم بطاقة وهذه الطاقة هي بنت الصحراء. في نفس السياق، يقول الراوي الدكتور عوض علي: من الملفت للنظر أن دولة الإمارات عند نشأتها في ديسمبر1971 كانت آخر دولة عربية تظهر حينها للوجود. ومن حسن الطالع أنها ظهرت بهذا الشكل الفريد. بفضل جهود وقيادة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقدرته على إقناع إخوانه حكام الإمارات في أن تنشأ هذه الدولة لتشكل أول تجربة عربية كتب لها النجاح لأكثر من أربعين سنة. فكان بروز دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الساحة قصة فريدة لتحول الإنسان من حال إلى حال وفي فترة وجيزة. إنها تجربة تكاد تصل لمستوى المعجزة الإنسانية. هذه التجربة تعبر عنها الفنانة فاطمة المزروعي بعدة أعمال فنية وهي تقول: بدأت الرسم في فترة مبكرة من طفولتي، وقد شجعتني العائلة، وكنت دائما أحاول أن أجسد التأثير الذي حققه المغفور له بإذنه الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على هذه الربوع. فما كان يمكن أن تكون لهذا الشعب هذه الدولة الواحدة إلا بفضل رؤيته وأفكاره وجهوده وإصراره على تحقيقها. أربعون عاماً في الإمارات وصلت الفنانة اللبنانية سلوى زيدان إلى الإمارات بداية سبعينيات القرن الماضي أيام الحرب اللبنانية. وتقول عن ذلك: وجدت أبوظبي ودبي بسيطتين حينذاك، لكنني أحببت الإمارات وأحسست بشيء يجذبني إلى هذا البلد بطريقة سحرية. ربما هو الإحساس بالأمان، لا سيما لشخص هارب من الحرب، ناهيك عما وجدناه في الإمارات من مساندة، ما ترك في أعماقنا أثراً لا ينسى وحبَّبنا بالإمارات وبشعبها. الشعب الإماراتي يحمل حكمة الصحراء ودفئها ونورها، وتضيف: من حسن حظي أني تعرفت في البداية على كبار الفنانين الإماراتيين ومؤسسي الحركة الثقافية وتابعت تطورها، وهذا التطور مما يصعب بل يستحيل على الإنسان العادي أن يستوعبه. ولا شيء أدل على ذلك من جزيرة السعديات التي تشكل مركزا للفن في المنطقة كلها، إضافة لاستضافة الإمارات لأكبر متاحف العالم من «غونهايم» إلى «اللوفر». الحديث عن جزيرة السعديات قاد المخرجة الفرنسية صوفي بشليه إلى هذه الجزيزة حيث التقت الفنانة الإماراتية الشابة غالية سعيد المنصوري وهي تعد تركيبا فنيا من عدة مجسمات كل واحدة منها تمثل امرأة، مختلفة عن الأخرى في الشكل واللون، وذلك للتعبير عن تحرر المرأة ودورها في المجتمع. وتتوزع هذه المجسمات بين الرمل تعبيرا عن مكانة الرمل في التراث العربي والإماراتي حيث أن المرأة أثبتت أنها عاشت طول التاريخ داخل البيت وخارجه تعبيرا عن تعدد أدوارها ومسؤولياتها ومواهبتها وقدراتها التي لا يمكن مصادرتها، كما تقول غالية المنصوري. تقول المخرجة صوفي باشليه إن قصتها مع الإمارات بدأت في سياق تاريخي بعد مطالعة كتاب «صحراء الصحراء» للإنجليزي المعروف في الإمارات بـ«بن لندن». هذا الكتاب الممتع الذي يتحدث عن سكان الصحراء وأخلاقهم قبل ظهور النفط. وبعد وصولي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بعد أكثر من أربعين سنة على نشأتها لاحظت الطفرة والعمران ولمست الجدية والأخلاق والتنوع، فأردت أن أروي بدوري حكاية التحولات الكبيرة التي صارت في هذه الدولة. ولأن غالبية أفلامي تدور حول الثقافة والذاكرة والتوثيق من فرنسا إلى الصين والجزائر وتونس والسنغال والسويد، أدركت أن الفن هو أفضل وسيلة للتعبير عن ما كانت عليه هذه البلاد وما هي عليه الآن. وبعد جهد طويل تمكنت من التواصل مع عدد من كبار الفنانين الإماراتيين. واخترت أن أنجز هذا الفيلم لأفهم أولاً المجتمع الإماراتي عبر الفنانين الإماراتيين وأعمالهم، وهنا أذكر مقولة للدكتور عوض علي هي أن دول الخليج ليست النفط فقط، بل هي قبل كل شيء إنسان وثقافة وتاريخ.. فالنفط ظهر بعد مئات السنين من صمود الإنسان في هذه الربوع في ظروف قاسية. وحين نطلب من فنان انجاز أي عمل أمامنا، فهذا الأمر يمثل حديثاً خاصاً بين المشاهد مستقبلاً والفنان ذاته وهذا مهم لأننا نرى ميلاد لوحة ونتابع تطورها. وهو أمر لا يمكن أن نعيشه كل يوم بطبيعة الحال. وينتهي الوثائقي بعرض أكبر ورقة حول العالم من سعف النخيل، يعدها الفنان العراقي محمد قريش، وتواكب «الكاميرا» نشأة هذه الورقة وتفاصيل إعدادها والمخاطر التي تعرضت لها خلال لحظاتها الأخيرة..إلى أن تستقيم بشكلها النهائي. وترسم عليها صورة مكبرة لمؤسسي دولة الإمارات العربية المتحدة. في محاولة لرواية علاقة النخيل بالتراث الإماراتي بشكل خاص والعربي بشكل عام كما يقول قريش، مؤكداً أن الصحراء أكبر «استوديو» للعطاء الفني في العالم، كما يظهر في الوثائقي باب تراثي قديم يرى فيه الفنان الأسترالي ناصر بلنجي بوابة للوصول إلى الماضي عبر الوثائقي «ذاكرة الدار». الإمارات.. بثلاث لغات يصدر الوثائقي« ذاكرة الدار» بثلاث لغات، هي: العربية والفرنسية والإنجليزية، بهدف الوصول إلى المواطن الإماراتي والعربي وكل الأمم. ومن المنتظر أن يبدأ العرض الأول لهذا الفيلم في دور السينما في العاصمة الفرنسية «باريس» خلال العام الجاري، كما تم تقديمه للمشاركة في عدة مهرجانات دولية حول العالم؛ اعتادت المخرجة الفرنسية أن تحصد فيها الجوائز لأعمالها الوثائقية. وتقول المخرجة، إنها على تواصل مع «قناة أبوظبي» لعرض الوثائقي في الإمارات، حيث تلقت جواباً إيجابياً مكتوباً من دون تحديد موعد للعرض. المخرجة في سطور صوفي باشلية مخرجة فرنسية متخرجة من مدرسة الفنون في باريس، وحاصلة على شهادة معمقة في الأنثوليوجيا، وتهتم بالتاريخ الجماعي والتحولات في مختلف المجتمعات الإنسانية. عملت على توثيق الذاكرة من جزر «إسلاند» و«المركيز» إلى الصين والسويد وفرنسا والسنغال، مروراً بالجزائر وتونس. وآخر فيلم تنجزه هو «ذاكرة الدار» في الإمارات العربية المتحدة. وحصدت باشلية عدة جوائز لأعمالها الوثائقية حول العالم العربي والقارة الإفريقية في مهرجانات سينمائية دولية. ولها تجربة سينمائية في مشروع اليونسكو» طريق المساء طريق الحوار» العام 1986. ومن بين أفلامها التي لقيت رواجا كبيرا: «كاركاش بحيرة اللؤلؤ» و«أرض الرجال مركيز»، و«حلم الجزائر» و«نواكشوط موسيقى البدو»، و«أمبكمي» حديث المحيط، و«شوسة»، وأخيراً «ذاكرة الدار».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©