الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جميل بثينة.. الشاعر العفيف

جميل بثينة.. الشاعر العفيف
8 نوفمبر 2012
الشاعر الذي سنتناول حكاية قصيدته اليوم هو جميل بثينة.. هكذا عرف باسمه واسم حبيبته التي شبب بها، وحاصر نفسه في محيط حبها. وبسبب هذا الارتباط بين الشاعر وحبيبته نسي حتى الرواة اسم أبيه، واختلف الدارسون حوله. فمن قائل إن اسم أبيه عبدالله، ومن قائل إنه معمر، وقائل إنه صُباح. أبو الفرج الأصفهاني يسجل أنه جميل بن عبدالله بن معمر بن الحارث بن ظبيان حتى يصل به إلى قضاعة بن معد. يرجع الدارسون زمن ولادته إلى أواخر خلافة عثمان بن عفان أو بعدها بقليل. ينتمي جميل بثينة إلى قبيلة بني عذرة، ولا يعرف عن بداية نشأته الشيء الكثير، إلا أنه كان يرعى الماشية في وادي القرى أو وادي بغيض، وكان من صباه يميل إلى الشعر. وقد عذله أبوه في ذلك: ? يا جميل.. مالك وما للشعر؟ ـ أحبه يا أبي.. أشعر أنه جميل ومن خلاله أرى الحياة جميلة. ? أليس من الأفضل لك بدلاً من حفظ قصائد الشعراء، أن تحفظ كلام الله.. لماذا لا تحفظ القرآن؟ ـ أحاول يا أبي.. ولكن حتى الإمام أنس بن مالك رضي الله عنه أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر حكمة، ألا تعجبك الحكمة يا أبي. سكت الأب وعلم أنه لا فائدة من نهي جميل عن الشعر. والشعراء كان لهم رواة يلقون قصائدهم أمام الملأ، ويرافقونهم إلى الملوك والأمراء، وأن بعض الرواة كان مطبوعاً على الشعر فينبغ فيه ويصبح شاعراً. ونقلت بعض المصادر أن جميلاً كان راوية للشاعر هدبة بن خشرم، إلى أن نبغ هو نفسه في الشعر وأصبح له راوية يشار له بالبنان، وهو كثير عزة. وكان كثير عزة يقدمه على نفسه ويعتبره قدوة وأستاذاً له، وقد سئل كُثير عزة هل أنت أنسب أم جميل؟ وأنسب تعني هل شعر النسيب أو الغزل الذي تنظمه أجمل أم نسيب جميل فرد قائلاً: وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل. وقد اشتهرت قبيلة عذرة بين العرب بالحب العذري، أي الحب العفيف والذي يذوب فيه المحب بمحبوبه. وقصة حب جميل لبثينة كما ترويها المصادر المختلفة، بدأت بتغزل جميل بأم الجسير، وهي أخت بثينة. وبثينة هي بنت حبأ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حُن بن ربيعة. وهي تلتقي مع جميل في حُن بن ربيعة في النسب. وما أكثر الروايات التي تناولت قصة حب جميل بثينة حتى لكأن حياة جميل لم يكن فيها إلا حبه لبثينة وتغزله بها.. واحدة من هذه الروايات تقول: أقبل في أحد الأيام جميل بإبله حتى أوردها وادياً يقال له بغيض، فاضطجع جميل وترك الإبل ترعى غير بعيد عنه، وكان أهل بثينة بالقرب من ذلك الوادي، فأقبلت بثينة وجارة لها إلى مورد المياه، ولما رأت بعض إبل جميل وهي باركة قامت بثينة بتنفيرها فهي لا تزال صغيرة، وما كان هذا التنفير للإبل الذي قامت به إلا محاولة للعب والإثارة، فما كان من جميل إلا أن سبها، فردت السباب عليه.. وفي هذا قال جميل: وأولُ ما قادَ المحبة بيننا بوادي بغيض، يا بثين، سبابُ وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله لكل كلام يا بثين جوابُ تعلق جميل بهذه الفتاة وشغله حبها عن سائر النساء، فكرس قلبه وشعره وحياته لهذا الحب وفاضت شاعريته، وبدأ يصرح باسم بثينة حيناً ويكنى عنه حيناً آخر، حتى أصبح اسم بثينة على كل لسان، وبدأ اسم جميل يرتبط ببثينة، فقيل جميل بثينة كمجنون ليلى، أو قيس ليلى، وعروة وعفراء وغيرهما. وبما أن النهاية السعيدة للحب هي الزواج، تقدم جميل لخطبة بثينة من أبيها. ولكن الأب الذي وصل إليه شعر جميل ردّه رافضاً طلبه لأنه شبب بابنته، على الرغم من عذرية الحب وعدم حدوث أي اتصال بين الحبيبين. وكما حدث مع ليلى المجنون حدث مع بثينة إذ قام أبوها بتزويجها من واحدٍ من فتيان قبيلة عذرة يدعى نبيه بن الأسود، وهذا ما جعل جميلا يعيش مأساة رهيبة، وكأن ذلك الزواج أشعل نيران قلبه وأحرق البقية الباقية من عقله. فانطلق الشعر من أعماقه ليجسد تلك المأساة، وليخلد ذلك الحب اليائس الذي لا أمل فيه ولا نهاية له إلا بالموت. وما كان من أبي بثينة أمام ذلك الشعر الذي انتشر بين قبائل العرب انتشاراً في الهشيم إلا اللجوء إلى أبي جميل أولاً باعتبار صلة القربى، ثم عندما لم يجد ذلك نفعاً لجأ إلى عامل وادي القرى ثم إلى مروان بن هشام الحضري والى عامل الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على تيماء.. ما جعله يفر من مكان إلى مكان لا يحمل في جعبته إلا حب بثينة ولا ينفك عن التشبيب بها رغم زواجها من غيره. ولقد وصل به الترحال إلى مصر.. وقيل إنه توفي فيها سنة 82 هجرية (701 ميلادية)، ومما ذكر من الروايات حول جميل وبثينة ما جاء في خزانة الأدب أن جميلاً غادر في يوم من الأيام إلى الشام.. وكان اللغط الكثير حول علاقته ببثينة قد بدأ يغزو أسماع القوم.. فحاولت بثينة أن تقطع علاقتها بجميل وواصلت شاباً يسمى حجنة الهلالي، على أمل أن تنتهي مأساتها المتمثلة في تشهير جميل الشاعر بها: فلما عاد من الشام قالت له محاولة قطع العلاقة نهائياً به: ألم تر أن الماء غيّر بعدكم وأن شِعاب القلب بعدك حُلّتِ فرد جميل: فإن تكُ حُلّتْ فالشعافُ كثيرةٌ وقد نهلت منها قلوصي وعلتِ فأسقط في يدها أمام هذا الرد الرهيب وقالت: ـ ناشدتك الله أن تسترني.. فقد كانت هفوة. كما جاء في مرجع آخر قصة أخرى، وهي أن أهل بثينة شكوا إلى عامل عبدالملك بن مروان على تيماء فتوعده، ففر جميل إلى الشام ولجأ إلى سيد من بني عذرة فأحسن إليه واستضافه وزيّن له سبع بنات عسى أن يتعلق بواحدة منهن فيزوجه بها.. فكن يرفعن الخباء إذا أقبل جميل ويقمن بحركات الغنج والدلال.. ففهم جميل قصدهن.. وفطن إلى أن مضيفه أراده أن يعلق بواحدة منهن.. وكن جميعاً جميلات، بل لعلهن أجمل من بثينة.. ولو ارتبط بواحدة منهن فإن قصة حبه لبثينة ستنتهي وسيتوقف عن التشبيب بها وينساها. ولكن جميل محب حقيقي، وحب بثينة لا يمحى بهذه السهولة.. بل أدرك جميل أنه من المستحيل أن تحصل أية امرأة مهما بلغت من الجمال محل بثينة. فقال في قصيدة مخاطباً البنات السبع: حلفت لكي تعلمن أني صادق وللصدق خير في الأمور وأنجح لتكليم يوم من بثينة واحد ورؤيتها عندي ألذ وأملحُ من الدهر لو أخلو بكن وإنما أعالج قلباً طامحاً حين يطمحُ وهكذا أعرض جميل عن بنات مضيفه، وعاد إلى وطنه حيث يمكنه أن يرى بثينة رغم زواجها من غيره.. ولم تخلُ الروايات عن حب جميل لبثينة من لقاءات بين الحبيبين قبل زواج بثينة وبعده. ولكنها لقاءات حوار، بعيدة عن التواصل الجسدي.. فحب جميل لبثينة كان عذرياً عفيفاً لا تماس فيه ولا تواصل. يحكى أن لقاءً تم بعد تباعد وشقاق بينهما فقالت بثينة: ـ ويحك يا جميل.. أتزعم أنك تحبني وتتمنى لي الشر والأذى، بربك كيف استطعت أن تقول: رمى الله عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح رمتني بسهم ريشهُ الكحل لم يُضر ظواهر جلدي فهو في القلب جارحي فأطرق جميل وبكى طويلاً ثم قال: بل أنا القائل: ألا ليتني أعمى أصم تقودني بثينة لا يخفى عليّ كلامُها فقالت بثينة: ـ ويحك، ما حملك على هذه المنى، أو ليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً. عاش جميل بالحب.. وللحب ولم ينظم إلا فيه ورغم أنه كان شاعراً فحلاً ومحط أنظار القوم بمن فيهم الخلفاء أمثال عبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك إلا أنه لم يلجأ إلى المديح ولم يتكسب من شعره. كان شعر جميل يجسد حياته وحبه. والقصيدة التي تختصر كل حياته وحبه لبثينة هي التي سنختار منها هذه الأبيات: ألا ليت أيام الصفاء جديد ودهراً تولى (1) يا بثين يعودُ فنغنى (2) كما كنا نكون وأنتم صديق وإذ ما تبذلين زهيد وما أنس م الأشياء لا أنس قولها وقد قربت نضوي (3) أمصر تريد ولا قولها لولا العيون التي ترى أتيتك فاعذرني فدتك جدود خليلي ما أخفي من الوجد ظاهر ودمعي بما أخفي الغداة شهيد إذا قلتُ: ما بي يا بثينة قاتلي من الوجد قالت: ثابت ويزيد وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به مع الناس قالت ذاك منك بعيد فما ذكر الخلان إلا ذكرتها ولا البخل إلا قلت سوف تجود ويحسب نسوان من الجهل أنني إذا جئت إياهن كنت أريد فأعرضن إني عن هواكن معرض تماحل غيطان بكن وبيد (4) لكل لقاء نلتقيه بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد علقت الهوى منها وليداً فلم يزل إلى اليوم ينما (5) حبها ويزيد فلو تكشف الأحشاء صودف تحتها لبثنة حب طارف وتليد (6) ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي القرى (7) إني إذن رشيد وقد تلتقي الأهواء من بعد يأسه وقد تطلب الحاجات وهي بعيد فمن يعظ في الدنيا قريناً كمثلها فذلك في عيش الحياة رشيد يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعود يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ومن كان في حبي بثينة يمتري فبرقاء ذي ضال عليّ شهيد لئن كان في حب الحبيب حبيبه حدود (8) فقد حلّت عليّ حدود شرح المفردات: 1 - تولى: ذهب 2 - نغنى: نعيش بسرور. 3 - انضو: المهزول من الإبل وغيرها 4 - تماحل: بعد. الغيطان جمع الغوط والغائط وهو المتسع من الأرض. 5 - ينما: ينمو 6 - الطارف: الجديد المستحدث.. التليد: القديم. 7 - وادي القرى: مكان إقامة بثينة. 8 - الحدود: العقاب الذي أحله الله لانتهاك المحرم. المراجع والمصادر: 1 - ديوان جميل بثينة/ جمعه وحققه وشرحه الدكتور إميل بديع يعقوب. 2 - طبقات الشعراء/ ابن المعتز. 3 - لسان العرب/ ابن منظور. 4 - الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني. 5 - مختار الصحاح/ أبو بكر الرازي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©