الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبدالله عبدالرحمن يفتح «أرشيف الحنين»

عبدالله عبدالرحمن يفتح «أرشيف الحنين»
8 نوفمبر 2012
الحديث مع الكاتب والباحث ورائد الصحافة الميدانية في الإمارات عبدالله عبدالرحمن هو حديث أشبه بارتياد أفق شاهق وممتع ومتعدد المستويات، وكأنك وسط بحر متلاطم من الصور والذاكرات والتفاصيل المرهفة والشائكة لزمن ولّى وتلاشى، ولكن توابعه واسترجاعاته ما زالت ترّن وتلتمع في تجاذبات وعينا، وما زالت تتنفّس وسط انتباهنا لجماليات الغائب والمنسي في أرشيف الحنين، وما يتضمنه هذا الحنين من أطلال باذخة ومعالم فائضة ومتسربة نحو وهج داخلي كدنا أن نفرط به، ونحو شغف ترمّد فينا ولم ننتبه لشعلته الغافية في أعماقنا. إبراهيم الملا كذلك فإن محاورة شخصية محتشدة بخبرة 37 عاما من العمل الصحفي والإذاعي والتلفزيوني، والمليئة بحكاياتها ومكابداتها وانتشاءاتها، لابد وان تقودك إلى سفر روحي وذهني وتخيلي نحو أراض بكر، وارتحالات متلألئة تتوزع على مشهديات بعيدة تستقطب ما هو متروك ومهمل ومشرع أيضا على البحث والتنقيب وإعادة الدهشة إلى سؤالها الأول عن لغز الإنسان وسيرة المكان، والمناخات الغاصة بمجهولها ومعلومها وسط بيئات محلية متفاوتة الأنساق والطبائع والطقوس، في البحر والجبل والصحراء. غنائم معرفية فبدءا من رصد جيولوجيا الحكاية الشفهية عند كبار السن، وليس انتهاء بالرحلات الاستكشافية للأمكنة والآثار البائدة، وتوثيق مظاهر التراث الشعبي، والمراسلات الصحفية في بؤرة الخطر أثناء الأزمات والحروب التي عصفت بالمنطقة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فإن حصيلة ما وثقه عبدالله عبدالرحمن في تحقيقاته وبحوثه الغزيرة، وخصوصا في الأجزاء الثلاثة من سلسلة “الإمارات في ذاكرة أبنائها” وما يختزنه أيضا من مشاريع وكتب قادمة، ستتيح دون شك فرصة ذهبية لاصطياد الغنائم المعرفية، واقتناص المعلومات التاريخية والاجتماعية النادرة التي كلفته الكثير من العناء والمكابدة والإصرار على الاكتشاف والتبصر وإعادة إحياء الزائل والمقصي في إيقاع زمننا الراهن المتسارع والمنطلق لارتياد المستقبل على حساب الماضي وبكل ما يحمله هذا الماضي من مرويات وإسفار ولذائد روحية ما زالت مطمورة تحت ركام هائل من التشويش والهدر والنسيان. استهل عبدالله عبدالرحمن حواره مع “الاتحاد الثقافي” بالإشارة إلى مشاريعه القادمة وكتبه الجديدة التي يتمنى صدورها قريبا، حيث أنه ـ وكما أوضح ـ لم يتوقف منذ تقاعده من العمل الصحفي في العام 1998عن الإنتاج والبحث والتقصي في محيط هادر من المواضيع والمحاور البيئية والتراثية والتاريخية التي لم يتم التطرق لها من قبل أو تلك التي ما زالت تعاني من نواقص وثغرات بحاجة لمن يكملها ويمنحها ما تستحقه من متابعة واهتمام. فمن الكتب قيد الطبع التي أشار إليها يبرز عنوان مثل “ذاكرة المكان في الإمارات” وهو حصيلة مسح إعلامي وتوثيقي مصوّر للقرى والمناطق الشمالية والجزر البحرية في دولة الإمارات، نشرها على مدار عامين في صفحات متخصصة بجريدة “الاتحاد” تحت باب “موسوعة الوطن”، وكتاب آخر بعنوان: “من الأعماق إلى الآفاق”، يتضمن دراسة توثيقية لرحلات شخصية قام بها إلى أشهر مغاصات اللؤلؤ التابعة لسواحل الدولة، تناول فيها تجارة اللؤلؤ في الإمارات بين الماضي والحاضر، وهناك كتاب ثالث بعنوان: “تجربتي في صحافة الميدان والجمع والتوثيق الميداني للتاريخ الشفهي وذاكرة المكان في الإمارات” مشفوعة بمتابعات وشهادات منشورة للأدباء والكتاب والأكاديميين والباحثين، وغيرها من المخطوطات والوثائق التي تملك أهمية بالغة في سياق المحافظة على مكتسبات الهوية الوطنية. وعن أبرز المناطق التي وثقها في هذه المخطوطات، أشار عبدالرحمن إنه اهتم في نهاية التسعينات بالمناطق والرؤوس البحرية التي تقع في أقصى إمارة أبوظبي بالقرب من الحدود والمعابر المشتركة بين السعودية وقطر، مثل منطقة (الغويفات) و(السلع) و(رأس غميص) وجزر: (دلما) و(غاغة) و(الياسات) التي ذكر أنها كانت بحاجة لتفكيك معرفي وبحث معمّق، للتعرف على أصل تسميتها وقيمتها الجغرافية والآثارية والتراثية، حيث كانت هذه المناطق والجزر ـ كما أوضح ـ بمثابة محطات ومصايف مؤقتة للرحالة ومرتادي البحر والصحراء وتنطوي على الكثير من الذكريات والقصص والأشعار التي ما زالت حاضرة في ذهن سكانها الأوائل. وذكر عبدالرحمن إن ما لفت انتباهه في هذه الجزر وجود مقابر للبحارة والغاصة الذين قضوا نحبهم في تلك الفترات البعيدة، والتي عبّرت عن مدى التعب والمعاناة والصعوبات التي واجهها هؤلاء البحارة في زمن قاس ومهلك، كما رأى في جزيرة (صير بني ياس) آثارا لكنيسة صغيرة تعود لعصور ما قبل الإسلام في الإمارات، وأشار أن كل هذه المكتشفات والشواهد موثقة بالكلمة والصورة في مخطوطته قيد النشر. مطاردة «المانشيت» وعن سر انجذابه في بدايات عمله الصحفي لهذه البئيات الجغرافية الصعبة، أوضح عبدالرحمن أن السر يكمن في عشقه الخاص للعمل الميداني ورغبته في إضفاء طابع وأسلوب أدب الرحلات على تحقيقاته الصحفية كي يوثق لأسفاره الميدانية البحثية التي قطعها في أوائل الثمانينات من القرن الماضي نحو القرى والمناطق النائية والجزر البحرية وفي مراكز الاستقرار والانتشار السكاني للبادية والحضر، مع بداية متغيرات الحاضر والنهضة الثقافية والاقتصادية في الدولة، وأضاف بأن الصحفيين الإماراتيين رغم قلة عددهم في أواسط السبعينات من القرن الماضي كانوا يتنافسون على السبق الصحفي وعلى حيازة لقب: “صاحب المانشيت”، وعلى استقطاب القارئ والترويج للصحيفة من خلال التصدي لمواضيع تعبّر عن جهد الكاتب واقتحامه لحقل غامض وجديد لم يسبق التطرق له، ومن هنا كما قال فإن مقابلاته مع كبار السن في المناطق المنسية في تلك الفترة كان لها جاذبية خاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تتعرف على كفاح وصبر وعذابات هؤلاء المعمرين، والتي لم تخل أيضا من لحظات مبهجة ومحطات حافلة تستعيد طعم ومذاق الأيام البعيدة، وكيف أن أهل الإمارات الأوائل استطاعوا ترويض البيئات الصعبة والتكيف معها رغم وسائل العيش البدائية وندرة الموارد الطبيعية. ونوه عبدالرحمن أن شغفه بالصحافة انطلق من هاجس إعلامي مبكر عززه بالقراءة وممارسة فن الخط، ما دفعه بعد ذلك وهو ما زال في مرحلة الدراسة الإعدادية في رأس الخيمة إلى مراسلة الصحف والإذاعات المحلية والخارجية، وبعد تعرف الإعلامي خالد محمد أحمد الذي كان يرأس تحرير جريدة “الاتحاد” في تلك الفترة على مواهبه أشار عليه بالعمل في قسم التحرير بأقسام المحليات ثم المنوعات والتماس المباشر مع العمل الميداني الذي تحول إلى فسحة ومضمار مثير لتحقيق مواضيع ملفتة طبعت اسمه بقوة على صفحات الجريدة. وقال إن أول حوار أجراه مع كبار السن كان مع أحد الذين رافقوا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”، وكان اسم هذا الشخص عبدالعزيز ربيع، وأضاف: “لقد تمتع المرحوم عبدالعزيز بذاكرة نافذة، وزودني بتفاصيل مدهشة حول شخصية مؤسس الاتحاد الشيخ زايد، والتي كانت انعكاساتها واضحة بعد ذلك في حكمته وموهبته القيادية التي انبنت على الذكاء والفطرة وبعد النظر”. عن الرحالة والمستشرقين وحول زيارات الرحالة والمستشرقين الأوروبيين إلى المنطقة ومدى استفادته من تجاربهم في البحث والتوثيق، أشار عبدالرحمن إلى أن أهداف هذه الزيارات المتعددة إلى المنطقة كانت محاطة بالشكوك، فنوايا هؤلاء الرحالة لم تكن متشابهة ـ على حد قوله ـ فبعضهم أتى من أجل التبشير، وآخرون أتوا في مهمات تجسسية، والقليل فقط من جاء من أجل اكتشاف الصحراء والمغامرة والمتعة الذاتية من خلال مبادرات فردية أو من خلال العمل كمراسلين صحفيين. وأوضح أن بعضهم قدم خدمات جليلة بقصد أو بدون قصد للباحثين والمحققين في مجالات التاريخ والآثار والتراث، من خلال الصور والمدونات والكتب التي أنتجوها، وذكر من هؤلاء الرحالة ولفريد تسيجر الملقب بـ: “مبارك بن لندن”، وزويمر، وكودراي، وجوليان ووكر الذي كان أول من وضع خارطة لمناطق الدولة المختلفة، وبذل جهدا كبيرا لتحديد مواقع استخراج النفط في الدولة، وكذلك لوريمر الذي قدم جهدا خرافيا لتوثيق التفاصيل الخاصة بكل المدن والحواضر والقرى والأحياء في الإمارات المختلفة. وأكد أن معظم هذه المدونات الإستشراقية والمذكرات الشخصية التي قدمها لنا الآخر أو الغريب عن المنطقة بحاجة لتدقيق وإعادة نظر والتحقق من المعلومات الواردة فيها، ومن هنا ـ كما أشار ـ تنبع أهمية التواصل مع كبار السن المحليين للتأكد من تفاصيل الأمكنة والحوادث التاريخية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة في القرنين الماضيين. ميراث ذهبي وعن الحصيلة المهنية والثقافية التي ظفر بها من خلال هذه التجربة الغنية والمترامية الأطراف والوجهات، أكد عبدالله عبدالرحمن أن الجهد الشخصي الذي بذله في حقل الصحافة الميدانية هو مجرد حجر في بناء كبير ما زال يشهد علوا وتطورا ويحتاج لأجيال جديدة ومتحمسة تضيف إليه وتحقق فيما سبق تقديمه، وأشاد عبدالرحمن بدور باحثين آخرين بذلوا الكثير من الجهد والتضحيات الشخصية لتوثيق مظاهر وظواهر التراث الشفهي والمادي والآثاري في الإمارات وذكر منهم الشاعر والباحث الراحل أحمد راشد ثاني، وعبدالله الطابور، وعبيد بن صندل، وعبدالعزيز المسلم، وناصر العبودي، وحسن قايد، وغيرهم من الصحفيين الإماراتيين والمقيمين الذين قدموا خدمات واضحة وجليّة في هذا السياق. وأضاف أنه اكتسب من خلال تحقيقاته وجولاته التخصصية المزيد من التواشج والارتباط الروحي والعشق المتقّد لأرض الإمارات والتي تتميز بتنوع جغرافي يندر وجوده في الدول الأخرى، ويحقق في ذات الوقت قيمة خاصة ومضاعفة لمعنى الوحدة والاتحاد بين أبناء هذه الدولة. وتمنى عبدالله عبدالرحمن في نهاية الحوار أن تكون هناك مبادرات خلاقة لتجديد البحوث المتعلقة برموز التراث الأدبي والثقافي والاجتماعي في الإمارات، وإعادة الاحتفاء بهم، والذين تركوا بعد رحيلهم إرثا ذهبيا من الأخبار والمرويات الموثقة في نتاجاتهم الأدبية، أمثال شاعر الإمارات الكبير الماجدي بن ظاهر، الذي اعتبره عبدالرحمن من أهم الشعراء الذين وثقوا للأماكن والمناطق المختلفة في الإمارات من خلال قصائد عديدة ومدهشة، وهناك أيضا ـ كما أوضح ـ الشاعر راشد الخضر، والملاح الشهير أحمد بن ماجد الذي كانت إسهاماته المدونة في علوم البحار مرجعا للكثير من البحارة الأوروبيين الذين ارتادوا المحيط الهندي والخليج العربي. وتمنى عبدالرحمن أيضا أن يتم إحياء وإعادة ترميم الأرشيف البصري والسمعي والمدون، في تلفزيونات وإذاعات وصحف الدولة المختلفة، لأن محتوياتها المهملة ـ كما قال ـ هي أشبه بكنوز منسية، وتعتبر بالإضافة إلى المخطوطات التي يحتفظ بها الكثير من الأهالي، بمثابة ثروة وطنية يجب الانتباه إليها ونشرها، نظرا لأهميتها التاريخية وقيمتها الحضارية التي لا يمكن أن تنضب أبدا. جهود وجوائز حاز عبدالله عبدالرحمن العام الماضي على جائزة الصحافة التخصصية في حفل توزيع جوائز الصحافة العربية ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة لمنتدى الإعلام العربي الذي أقيم في دبي عن تحقيقاته الموسعة حول ذاكرة البحر ومغاصات اللؤلؤ في مياه الإمارات. وبرزت مساهمات عبدالله عبدالرحمن الصحفية والبحثية منذ العام 1977 في مجال تغطية ومتابعة وتوثيق شؤون وشجون المناطق النائية والمنسية إعلاميا عبر أرجاء الإمارات، وكان من أوائل المبادرين لرصد وجمع وتوثيق التراث الشفهي والثقافة الشعبية من خلال الحوارات المكثفة والمباشرة مع المعمرين وذوي الخبرة من أبناء الإمارات بمختلف شرائحهم وفي كافة أرجاء الدولة بمناطقها الساحلية والصحراوية والجبلية، وكان من أوائل من سعوا إلى التوثيق الإعلامي الصحفي والتليفزيوني والإذاعي للتراث الحضاري والتاريخ المبكر للإمارات متمثلة في المواقع والمكتشفات الجيولوجية والآثارية عبر الحقب الزمنية المختلفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©