الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحر يغسل ثوب شعم..

البحر يغسل ثوب شعم..
8 نوفمبر 2012
منذ الصباح الباكر، يصحو البحر، ويجلس القرفصاء، ليغسل ثوب شعم، وبأنامل الموجة الحريرية، يهذب الثوب ثم يعطره برائحة العشب، ثم يضع على أكمام الساحل قواقع الزينة. شعم تنثر فسيفساء الحلم على ربوة، عند شِفة الماء، تحدق في المارِّين على ظهور مراكب الصيد، وتقرأ حروف الهجاء على جباه لوَّنتها الشمس باللون النحاسي، وقبائل وفصائل من الأسماك الصغيرة تفر هاربة من مناقير الافتراس الرهيب، والطير يطرز الفضاء بأجنحة شفيفة، وينشد للسماء باسم البقاء، لأجل وجود رتَّبته الخصال الطيبة، ووضعت أوراق الزهو عند كل زقاق قديم قِدم الدهر.. هنا تقطن بساتين النخل، وتتدلى عناقيد الموز، كأنها الأصابع اللدنة، هنا يبارك الله خطوات الذين استيقظوا صباحاً، ليمسحوا بأيديهم على خشب الحكمة، ويسحبوا حبال الوصل بأناة وتؤدة، تتبعهم المواويل وإشراقة الوجوه المبتلة بالعرق. هنا في هذه القارة الصغيرة تتسع حدقات اللهفة، وتسمر الوجوه، وتبرز عروق التعب.. هنا الأشياء لا تمضي بسرعة الحافلات المتهورة، هنا الوثبة تتبعها نظرة إلى الأفق، وحلم يزهر على الشفاة، كأنه ثمرة اللوز. شعم تحلمُ، وتكْتِمُ، وتنعمُ، وتَحْزِمُ حقيبة السفر إلى اللاشيء، تبحث عن ذاكرة تسأل عن امرأة ساهرة، غفت قليلاً ثم صحت، وتحت الجفنين تضم صورة رجل غادر في الصباح ولم يعد مساء، وبعض مضي الدمع حتى الشفاه المرة، يأتيها الخبر اليقين، أن الذي أقفَلَ الباب خلفه، فتح شهية البحر، واستطاب المقام في أحشاء المداهم الشرس. شعم، تصبو لأن تكون الأرض المرتفعة على الماء، لكن البحر ربما لا يستوعب لغة الحب القديم، يشاغب ويراقب ويحاسب ويطارد بشغف، محنة الغائصين في خلايا الأسئلة المبهمة. نقطة هاربة شعم، كأنها النقطة الهاربة من حرف ترد على جملة شعرية، كأنها اللقطة الغامضة في مشهد الحياة، كأنها اللحظة المتوقفة على درجات سلم زمني، تناهى في الحشمة، كأنها الطير المستجير من لهب، وصخب وعتب، وغضب ورهب، وسغب ونهب ورعب ونحب، كأنها الأسطورة المولعة في الدهشة، كأنها الأحفورة الدافعة في الأرض، وكأنها حكاية مؤجلة، لم تزل على شفاه الذين لم تخصب حناجرهم باللام والألف، وكأنها السلف المهيض في عرائن النسيان. شعم، نعم ولا، وسؤال يجدل علامة استفهامه، بلغة أقرب إلى حروف الطين، واللحن المستعين، بحشرجة الوالهين إلى “وعوب” الجبال، ورائحة القمح الصحراوي المزنجل بالطيب، وخصوبة أيادي النساء. شعم، من طين الجدران، تخصب أبدان الناس، والرائحة من عبق التمر المُدبّس، وشهية الصغار للعق شهد النخل، وريق النوى المزملة بالسكر.. شعم، راهبة قصية عصية، صفية نقية مترامية في الولوج، عند خاصرة الجبل بمحاذاة أشواق الذين عشقوا البحر كأنه المحراب الصوفي، هم الورعون المدنفون الشغوفون، الذاهبون عميقاً في ثنايا الزمن الجميل، الخاشعون خشوع الجبال للمطر، النادبون الناحبون الصاخبون ساعة شهور القمر في كبد اللوعة، ساعة حفل النجوم البهيج ورقصة الجفون، احتفاء وانتماء. شعم.. قدرة وفكرة وعِبرة وعَبرة ونبرة، وسطر وشطر، وحبر وبحر، ونحر وسحر، وفجر وقمر، ودهر وعمر، وصبر وقتر، وصَخر وخِصر، ودحر وزهر، وسَبر وشبر، ووطر وزمر. شعم، في المكان القصي، بين الجبلين على أعتاب حاجبين، كأنها اللجين، تروي من معين، وتملأ الجعبة من عناء الحادبين بخيلاء الأساطير، تطوق الفكرة بالفكرة، وتغدق العِبرة بالعبرة، وتغرف النبرة بالنبرة، ولا يضيع البوح، حتى في أقصى حالات الريح العاصفة، لا تضيع شعم في الزحام، لأنها بكعوب الحجر تدفع الهامة، قامة ممشوقة، وتعتني باصطفاف النجوم، مغسولة ببريق أنيق رشيق شفيق، رقيق، سحيق، عميق. شعم.. الخيل والحيل، والليل والسيل، والنيل والكيل، والظل والخل والجل، والنهل والسهل والجذل والجدل والقُبل. شعم.. في التاريخ خاصرة البحر في التضاريس عينٌ على الماء، في القلب قصيدة أبياتها وشوَشَة الموج، والقافية ميمٌ بلا تنوين ولا تلوين ولا تضمين ولا تخْمين، ولا تَسْكين ولا قَوسين ولا نهْرين. شعم، في الذاكرة فضيلةٌ وفصيلةٌ وسُنبلة تُزهر في رحْلة الصيف والشتاء، تُبهر ما بين الفصْلين في الليل والنهار، تتغير الفصول والعقول، وشعم كأنها القِدام تُحدقُ في الجهات كنورسٍ يُطارد الريح ولا يتعب، كحارسٍ يُمشط جديلَةَ الليل بعَصا وقِنديل.. شعم، كأنها النظرية التاريخية على مَرمى من البَصَرْ، لكنها تقبع في المضمون فلسفة في العُمق والنسق. ملحمة أم تعويذة؟ شعم، الياذة أم أوديسة، أم ملحمة، أم تعويذة في صَحْنِ مَرْمَر، على قدَرٍ وحَذَر، عند نقطة في خدْ القمَر، في الزمان والمكان في كل الأحيان، في التفسير، في التبيين وفي البَيان، في استدامة الحُلُم، في قيامة حُوار وآدم، في قَوامَة النون والقَلَم، في استقامة الضاد، في معجم الكَلِم، في غضون وغصون وحُصون، وفنون وجنون وسُكون ومجون ومنون، وشؤون وشجون، وفِتون وخَؤون. شعم، عند استدارة الجغرافيا في نهاية الحد الفاصل ما بين الرِّمش والرِّمش، هي النقشِ على سجادة القلب، هي الجَدَل والجَدْول، والجديلة، السَّليلة من طين وذاكرة، وآثار أقدامٍ، حَفَرت في النسيج، حتى استوى الماء على قمة جبل، حتى شاخت القُبلة والقُبلة، حتى تسامت الشفة بالشفة، حتى ابيضت عيون الدهر سغباً، ورَهباً وعَتبا ونَدْبا، وحَدْبا، وسَكْباً، ونخْباً، وصَخباً وخصباً، وتعباً ورغباً وصَعْباً، وعَذْباً وعِذاباً وعَذاباً. شعم، قرية تسبحُ على سطح الذاكرة، تُهرولُ باتجاه الأشواق القديمة، الناس فيها يَرْفِلون بأحلام البحر، ينعَمون بفيلة الخِصال والنِّصال والوِصال، والآصال، على سنامِ السفر الطويل، يخبُون باتجاه نجمة سهيل، يُواظبون ويُوظِّبون أشياءهم الصغيرة في حقيبة التطلع، ويُرتبون المعاني في الجملة والفاصلة، في احتمالات الوجود المُتأصلة. شعم، كأنك ترنو إلى طائرتهم بالتحليق، يرى ما لا يراه القابضون على الغِشاوة، يرى رقرقة الماء، وخرير السواحل الغامضة، الوامضة، الرابضة، الناهضة، الباهضة، الفارضة سطوة ونخوة وقوة، وصبوةً، المُؤدلجة بأنساق العفوية، والشفوية بلغة التراب، والأحْبابِ والأصحاب، والانخابِ، وأسباب الصحراء، العَفية النقية المستتبة المهذبة بقوانين الفِطرة المُتعافية بالصَّفاء والنقاء والوفاء، الغافية على مهادٍ ووهادٍ وودادٍ وسداد ومِداد ونِهاد، المُسترخية عند خدٍ وقدٍ وحدٍ وسد، وأمدٍ وأبدٍ، ورغدٍ وزُهْد، وجَيْد ونَهْد، ووعدٍ وعهدٍ، وسَعَدٍ، ورَعْدٍ وبُعْدٍ وشَهْدٍ، وقَصْدٍ، ورَفْدٍ، ونَجْدٍ. شعم.. الناقلة والفرَْ، المعنى والأرض، القيمة والشيمة والشكيمة، والرّبوة العالية، والرّبابة النديمة، قلوب الناس أوتارها واللحن بدويا تشيخ له الجبال وتسجرُ له البحار، وتطْرب وتنيخ له العِشارُ وتَرْ النجوم، وتحلمُ الكواكبُ، وتنعمُ السَّواكبُ، وتخلد العيون، تنامُ قريرة هانئة. شعم.. السُّحرُ والسحر، والليلُ وما ادَّخر، والنهار وما تفطَّر، والبحرُ وما تفجّر، والسماءُ وما تحدَّر، وأنثى عَفَوية أحْلامها، أن يهجعُ البحر، والأرضُ أيْكٌ وأريكة العاشقين. شعم.. طفلة تحت المطر، تغسل شِفاهها دون حَذَرْ، وتنفِضَ التراب بقُدرة مُقتدر، تهيبُ بالله أن يحفظ الزرع والضرع والبشر، ترفعُ النشيد صاخباً ومُستتر، بضمير الحاضر المُستعر، بوعي أممي مُسفر، ومُستشعِرْ بصولة الحجيج من كل فجٍ عامر غامر ومُدِر. شعم.. سحابة على وجه القمر، ورعْشة تنفض أطراف الهوى والعُمر، ونفضَة تُرعش الأطياف والدّهر، وساقِية تدْلو بِدَلو الارتواء والسّهر، وشقية تشاغب الوَجيب ونخْبها من تمر، وخليلة من دفئها تثني عُذوق النخل عناقيد السَّمر، جَليلة مِنْ حُسنها، طاب الهوى وانْهمر. شعم.. رابعَة العَدوية في التصوُّف والحذُر، في عِزلة التهجد، تفيضُ بالآيات والتبتل والترتُّل والتعلُّل والتجلُّل والتجدُّل. شعم.. حرفُ شين في الشهامة، حرفُ عيْن العلامَة، حرف ميم في المَدامة، هي في كل ذلك مُثلث أضلاعه البحرُ والجبل وما بينهما سهْل حَبِلٌ، وفي المحيط أخلاقٌ تكحلُ الأحْداق، وأشواق في الجِناس والطّباق، وطرائق في المغْزى، أجْدى وأحلى، وأعلى من القِممِ الشَّم. شعم.. عِند شِفة البحر، تعلوا مراكبها، وتُعانق الموْج بنجابةِ الأفْذاذ، ورَحابة الأجْداد، والجَوادُ طموحٌ يُساور الامتداد، والمدى شراعٌ ويَراعٌ وسواعدٌ تغسلُ بالعرق قماشة البحر، والغناء هديلٌ في السّفر الطويل. شعم.. هي تلك المرأة الصاخبة عشقاً، وألقاً وتألقاً ونسقاً، وبرْقاً وحَدَقاً تُشاطر الرملَ السخونة، ومن ترائِبها تسرقُ الموجة بياضها، ومن رجفة الشفتين ينفض البحرُ ثيابه، ويحتسي الرِّضاب والنخب شهقة بَعد لهفةٍ ثم إياب بَعدَ ذهاب، بعدَ يباب.. هي تلك المرأة المنيفة الرهيفة الشّفيفة العَفيفة، المرسومة بمعاني الأوَّلين.. والمُبجّلين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©