الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعرية العنونة..

شعرية العنونة..
8 نوفمبر 2012
يثير عنوان المجموعة دهشة الاتصال في اللحظة الأولى، مثلما هو حاصل مع الشعر، لأن الاستعارة فيه عالية ومكشوفة، وقصدياً اختارت ذلك القاصة الإماراتية ابتسام المعلا، لأنها تعرف بأن العنوان عتبة سردية مهمة، وأيضاً عتبة في كل الأجناس الأدبية والفنية، لذا اختارته وجعلت منه تشاركاً حقيقياً ينطوي على طاقة معنى متنوع ومختلف وغير متوقف، وهذه سمة جوهرية في العنوان الذي استطاع أن يوثق علاقة شعرية مع الكتاب السردي. وأعتقد بأن ذلك يعني بالنسبة لي على الأقل أول ملامح القران بين القصص والمتلقي، وحتماً سيكون لذلك نتائج إيجابية واضحة على نوع التلقي ومستواه وأيضاً حيويته، بحيث يستمتع المتلقي بدور الفاعل الثقافي، القادر على اختبار العنوان والقصص والعلاقة بين الاثنين، وللسيمياء طاقة كبيرة جداً في إمكان التسلل للنص والكشف عن دلالاته، وحصراً للعنونة في النص مكانة جوهرية، غير ثابتة، بل هي متنوعة بالمعنى المكتشف من قبل المتلقي المنشغل بفك شفرات هذه العتبة، وكشط طبقاته للوصول إلى أعماقه وأغواره المؤسسة لنوع من العلاقة الثنائية، بين المتلقي والنص، علاقة ذهبية تمضي بإمكانات القراءة باتجاه النزول في داخل النص، والتمدد فيه وتلمس داخله وما احتوى. ولابد للقراءة المتشكلة لحظة الاستقبال أن تقرأ العنوان، وتفحصه جيداً وكشف ما تعنيه العلامات اللسانية ـ مثلما تفعل السيمياء ـ دائماً وستكتشف سريعاً بأن العلامات التي صاغت العنوان، عتبة سردية/ شعرية مكونة من ثلاث مفردات “ضوء يذهب للنوم”، والفحص لها يضيء الانزياحات الواضحة فيه، والمكونة للشعرية الناضجة دلالة وجمالاً. وكلاهما ولدا وباستمرار حيرة المواجهة لحظة إقامة الاتصال. وأنا واثق بأني لن أستطيع فك تشفيرات هذا العنوان وفتح لغزيته، لأن التحليل مهما تميز بطاقة التأويل فإنه سينحرف نحو الرمزية وتشكيل شبكتها الجديدة، “فكل فك للتشفير هو ترميز أو تشفير آخر”، كما يقول ديفيد كارتر في كتابه “النظرية الأدبية”. العنونة واحدة من المعايير الأدبية عن أهمية النص، ويدخل هذا المجال السيميائي طرفاً مهماً في فاعلية الاستقبال والتلقي، وإعادة التجوهر للنوع الأدبي. القراءة هي الضوء الكاشف عن أسرار وإغماضات النص، والتلقي هو الذي يقشر طبقات النص ويكشطها أحياناً وبحدة. وفي هذه العملية يقدم القارئ فرضيات حول معنى ما يقرأه، وهو يقدم الاستنتاجات والربط وملء الثغرات في النص. إن النص نفسه يقدم سلسلة من “الأدلة” أو “الإشارات” التي يستخدمها القارئ لتقديم بعض التماسك لعملية القراءة. وعندما تستمر القراءة فإن توقعاتنا وإسقاطاتنا تصبح معدّلة من خلال الاكتشافات الأخرى في النص، فالقراءة ليست عملية متواصلة كالخط إذ نخلق دائماً إطاراً مرجعياً، نحاول فيه فهم تفسيرنا، ولكن ما يأتي في وقت لاحق في النص يمكن أن يسبب لنا تغيير هذا الإطار الأصلي. (ديفيد كارتر/ سبق ذكره/ ص91). المواجهة الثقافية “ضوء يذهب للنوم” عنوان إحدى القصص، ولأهمية ما تنطوي عليه هذه العتبة لأنها جزء فاعل، وخلية حيّة من السرد، اختارته القاصة ابتسام المعلا ليكون عنواناً للمجموعة القصصية، حتى يؤدي فروض المواجهة الثقافية والشعرية مع القارئ، ويمنحه زخات تسلل إلى النصوص كلها، وإبقاء هيمنة هذه العتبة/ الرقبة حاضرة وباقية بفاعليتها في القراءة ومحفزاتها المتنامية تدريجياً. والعودة للعنونة يكشف لنا بأنها مكونة من ثلاث كلمات هي “ضوء” و”يذهب” و”للنوم”، وتشكل هذه العتبة خطابا لسانيا، يفضي نحو معنى مكتمل وجملة صحيحة، لكنها اسمية، ودائماً ما تكون الجمل الاسمية نابضة بالشعرية والإثارة، وكان بإمكان ابتسام المعلا اختيار جملة فعلية للعنوان، بحيث تكون: يذهب الضوء للنوم. والجملة صحيحة تنطوي على خطاب كامل، لكن قوة الجملة مرتخية، لأن التأكيد فيها على الفعل، وما تريده القاصة ابتسام المعلا هو الإعلان عن الضوء، وإعلاء مكانته الشعرية والدلالية، الضوء هو مبتدأ الجملة/ الخطاب، وكثيراً ما يكون ذلك مثيراً لانتباه القارئ ويمنحه البدء نوعاً من الأفضلية على العلامات اللسانية الداعمة له، ولا أدري كيف تم الانتباه لصياغة هذا الخطاب الموزع بين طاقتي الابتداء والنهاية بين “الضوء” و”النوم”، وكلاهما يكونان طبقات المعنى، أما الفعل “يذهب” الممنوح صفة الحاضر والمستقبل، سيظل متحركاً وراضياً بالوجود الآن والمتجه نحو الآتي/ المستقبل، واتضح ثقل الجملة/ الخطاب متمركزاً في كلمتي “ضوء” و”النوم”، ويتضح التناظر بين “يذهب” الفعل المتحرك والدالة على الانطواء/ الخمول/ السكون. لكن حرف الجر (اللام) أضفت ثقلاً على نهاية الجملة/ الخطاب، وضغطت بقوة على السرد المكتمل بنهاية الجملة. وكأن بإمكان القاصة اختيار مناورة بنائية أخرى، مختلفة عن الذي اختارته عنونة للمجموعة، كأن تحولت الجملة فعلية، والماضي هو المعلن عنه. هذه الملاحظات هي جزء من خزانة النص السردي، وكل ذاكرة المجموعة القصصية، لأن مثل هذه العنونة لا تغيب أبداً وستظل حاضرة على امتداد القصص كلها. لأنها ـ القصص ـ ارتضت أن يكون الخطاب: ضوء يذهب للنوم عنونة المجموعة، أي هي حضور فاعل، يتشظى متمدداً على طول السرد وكتنوعات القصصي، بمعنى بقاء العنونة ضمن التشكيلات البنائية كلها، ولا يمكن لأية قراءة إغفالها، واعني بذلك عنونة المجموعة، ولا اعتقد بأن عنونة القصص الداخلية، قادرة على إيقاف شحنات العنونة الأولى وتعطيلها، لأنها تتمتع بحضور شعري، يجعل منها ـ العنونة ـ متجددة الحضور والمثول. لذا أنا اعتقد بأن العنونة الرئيسة طاقة مساعدة على انفتاح العنوانات الداخلية الخاصة بكل واحدة من القصص. والعنونة بتفاصيلها، (الخطاب) السردي يعكس تصورات القاصة ابتسام المعلا، عن العالم الذي تعيش فيه وليس حقيقة العالم، إنه عالم مفترض، لكنه مقبول منا، لذا انشغلنا به، وجعلنا فيه عالماً متخيلاً شعرياً وعالياً بجماله. لأن اللغة تكشف بوضوح وبصراحة عن كيفية النظر للعالم، ونتفق، بمقدار خاص، لما يرى في وضوحه الكامل. وتعكس اللغة تجربة المؤلف للعالم. ولا تتطابق تجربة العالم في العمل الأدبي مع العالم الحقيقي بالضبط ولكنها “العالم كما نعيشه” ويعيشه المؤلف، وهذا يتوافق أيضا مع استخدام هوسرل للغة كما قال ديفيد كارتر. نحن نسقط باستمرار أنفسنا إلى الأمام لنعرف العالم. إن اللغة ليست مجرد شيء نستخدمه للتعبير عن أنفسنا، إن لها وجوداً مستقلاً عنها، وهي أيضا موجودة مسبقاً قبلنا، ويتشارك البشر في اللغة، وبذلك تصبح اللغة إنسانية، كما قال الفيلسوف هايدجر. بيت الكينونة من هنا تأتي أهمية اللغة التي صارت بيتاً للكينونة، ولم يعد بالإمكان فك الاتصال بينهما، ولكن تظل العلاقة الإنسانية بين الاثنين متوقفة على قدرة الكائن لاختبارها وامتحان مهارته بتوظيفها، حتى تحوز على صفاتها التبادلية بين طاقتها والمجتمع، كل هذا الرأي يفضي لأنموذج مما نريده، والإشارة له في موضوع العنونة وشعريتها، وإبقاء تنوعاتها مستمرة وحاضرة دائماً حضور الإنسان/ المتلقي/، وهو يستجيب لإمكاناته في التعامل، مع أول عتبة في النص الأدبي. لابد من الإشارة، لأنها ذات علاقة جوهرية مع تأويل العنونة، وهي وجود وامتداد لساني بين العنونة “ضوء يذهب للنوم” وبين متون سردية داخلية، وعلى سبيل المثال المتطابق، الإهداء/ العتبة السردية الثانية بعد العنونة قالت القاصة ابتسام المعلا: “إلى الضوء الذي لم يطفئه الغياب: أبي، وإلى الشمس الباقية أبداً أمي” قراءتنا للإهداء تضعه مركزاً ومتقدماً بنائياً لكل القصص، وكشف بوضوح لا لبس فيه أن ابتسام المعلا مع أبيها باعتباره ضوءاً ما زال فاعلاً ومهيمناً وبمهابة، ولم يستطع الموت/ النوم أن يغيبه، على الرغم من تحقق التغيب الفيزيائي، ولا نحتاج لكثير من الجهد للتعامل تأويليا مع الضوء، بوصفه حياة وحضور، ونلاحظ الدقة والقصدية المتحققة بين الضوء/ النور واعني بها الشمس، وربما قصدت القاصة التماهي والتداخل بين المذكر والمؤنث رمزياً، فالقمر مذكر والشمس مؤنث، على الرغم من أنهما عكس ذلك في الشبكة الرمزية التي تحدث عنها. وأيضا ما أفاض به كل من العالم يونغ والمفكر باشلار. لذا لن يتعطل هذا المفتاح السردي المستتر في القصص اللاحقة، حيث الموت/ الغياب الجسدي/ والمعنوي مثل: أماكن ضيقة/ وخفيفة مثل بالون/ صورة خارج الإطار/ وقصة بيت، على سبيل المثال، وليس الحصر، وسنحاول قراءة هذا الغياب في دراسة لاحقة. واجد من الضروري كشف ملاحظة نقدية حول العنونة وما تنطوي عليه من معانٍ مغايره/ ومختلفة/ وهذا ما أضفى الأهمية على هذه القصة وابرز ملاحظاتي التحليلية هي: المفارقة الواضحة المتأتية من التضاد والوظيفي بين الضوء والنوم، لأن حضوره يضعف إمكانات تحقق النوم، وهو مرتبط مع الحضور/ اليقظة . ما أفضت إليه القصة الثالثة “ضوء يذهب للنوم” معروف وشفت عنه التفاصيل الكثيرة والمميزة لنصوص القاصة ابتسام المعلا وهو العمى. فالضوء يعني الحضور من النوع الآخر، وهو رمزي يمنحه الضوء/ الرؤية للإنسان، لأن عينيه هما اللتان تجعلان منه كائناً مشاركاً وقيمة الكائن وأهميته متأتية من انغماره بالمحيط والتشارك مع الآخر. وهذه حقيقة وجودية معروفة لنا، الأعمى محدود الحركة، غير قادر على المشاركة مع المحيط بشكل واسع، بل دائماً ما يكون محدوداً. الظلام موت، ولا أعني الفيسولوجي، أنه الاعتباري/ المعنوي، تعطل شبه كامل. وقال شكسبير “ناظراً إلى الظلام الذي يراه العميان”، وقال بورخس “واحدة من الألوان التي لا يراها العميان، هي الأسود، الآخر هو الأحمر”. الأسود والأحمر هما اللونان اللذان حرمنا منهما. وكان النور ثانياً، فكان النهار واستفادة من سفر التكوين وملاحم الخلق والتكوين السومرية/ الاكدية الخ... من أن الظلمة ليل، والنور نهار. فالأعمى الذي ذهب ضوؤه للنوم يعيش وسط الليل، ولا يعرف النهار إلا من خلال الصورة العالقة بذهنه. تسفير رمزي الظلام والنور متحركان وتفضي حركة كل منهما نحو فضاء الزمن/ الوقت. كل منهما يلج الآخر، والليل يلج النهار، وتحل الظلمة، والنهار يلج الظلمة، فيحل النور هذه الثنائية التبادلية، تنطوي على تسفير رمزي، وهذا يحصل باستمرار بين أوقات/ أزمنة اليوم وأيضاً بين فصول. وكل من الظلام/ النور ذكوري، مقتحم. الظلام تعطل للجسد، وهو موت مؤقت، هذا ما أشارت له ملحمة جلجامش، وقصة أهل الكهف. والنفس غائبة وسط الظلام، وفي النور مشاركة مع آخر واندماج به ومعه. العمى بحضوره المجازي ووجوده في الظل يذكرنا بالشعراء بورخيس، وهوميروس، وميلتون، وتاميريس، ويذكرنا بالأسطورة بشخصية أوديب. الخلوة القصوى هي الموت، كما قال بورخيس. وهنا يتسع فضاء الموت، ويكون المنعزل/ المعزول ميتاً، بمعنى التبادل والتواصل مع الآخر يمنح الكائن كينونته ويختبرها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©