الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الحب والكراهية

عن الحب والكراهية
8 نوفمبر 2012
لم يصدق كثيرون أن مهرجان “أيام الفيلم المناهض للعنصرية” الذي بدأ قبل عشر سنوات في السويد سيُقاوم كل هذه المدة ويستمر متحدياً صعابا كثيرة يواجهها كل مهرجان صغير، قليل المالية ومحدد الموضوع، شأنه شأن محاولات طموحة كثيرة لم يكتب لها النجاح فتوقفت بعد زمن قصير من انطلاقتها. ولهذا يعامل اليوم المهرجان كفعالية تستمد حضورها من مادتها التي تتعلق بقطاعات اجتماعية كبيرة وبمشكلة تؤرق المجتمعات وبخاصة الأوروبية منها، فالعنصرية لم يعد لها وجه واحد ولا جغرافيا واحدة ولعل السينما قادرة على عرضها دون طموح أو أوهام في تغييرها، ومن هنا تلازمت العروض السينمائية بمناقشات ومداخلات أعطت المهرجان قوته إلى جانب قوة السينما نفسها كعنصر محفز للتفكير والحوار. وثيمة الدورة العاشرة “الشجاعة المدنية” تعبر عن روح هذه الفكرة وتتلاءم مع تغيرات يشهدها العالم اليوم ومنه منطقتنا العربية، التي اختير منها إلى جانب أفلام أخرى اللبناني “هلأ لوين” لنادين لبكي بوصفه فيلماً يقارب التحدي النسوي السلمي ضد خطر الحرب الأهلية. فيما ظل المهاجرون العنصر الأكبر الذي تدور حوله أغلب الأفلام الـ400 التي اختيرت هذا العام لتعرض في أكثر من مدينة سويدية ويحضرها آلاف من المشاهدين. برنامج طموح تصفح برنامج الدورة العاشرة يكشف عن حجم وسعة العنصرية كظاهرة مستشرية، وبالمقابل يكشف عن حيوية السينما في رصدها والتعامل معها فنياً ومن زوايا مختلفة مثل فيلم “المساعدة” الذي يعود إلى ستينيات أميركا يوم كانت العنصرية وكراهية السود شبحاً يخيم فوق أراضيها. “عمر قتلني” لرشدي زم يمس بواطن المجتمع الفرنسي، وبقايا كراهية المهاجر العربي، والأجنبي عموما! كما جسدها فيلم المخرج الفلندي كورسماكي في “لو هافر”، المنسجم أسلوبياً مع بقية أفلامه إلا في درجة سخريته من الحياة نفسها حين يجعل كل ما هو واقعي ومحتمل إلى نقيضه حتى الموت، يتراجع ويغيب عن المشهد العام في المرفأ الفرنسي الصغير حيث يعيش صباغ الأحذية مارسيل ماركس على الكفاف ولكن بسعادة متناهية مع زوجة تخفي مرضها الخبيث، حتى لا تقلقه، وحين يدخل الطفل المهاجر “ادريسا” على حياتهما لا يتغير شيء فيها سوى بعض إضافات من الحماسة يتشارك فيها الجميع حتى كلبه في محاولة لترويضها في مصلحة طفل مهاجر أسود تطارده الشرطة!. كل ما في الفيلم يتناقض مع الواقع الذي تعيشه فرنسا وأوروبا على العموم، ليس في موقفها من المهاجرين بل من كل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية، فعالم ميناء “لو هافر” ينتمي إلى عالم خيالي حلمي، يريدنا كورسماكي العيش فيه خلال دقائق قليلة وبعد انتهائها علينا مرة أخرى أن نصحو على صوت واقع آخر، كل شيء فيه يسير عكس ما شاهدناه أمامنا على الشاشة. وليس بعيداً عنها في إيطاليا تظهر ذات المشكلة ولكن هذه المرة وسط مواقف فردية شجاعة تتجاوز مساحتها إلى أخرى كامنة في ذات المكان، تظل تحت السطح خوفاً من غضب الأغلبية المعلنة موقفها الكاره لوجود الغريب بينها، عاجزين عن نكران قانون الجغرافيا الفعال والذي يسري حتى على جزيرتهم، ولهذا سعى المخرج إيمانويل كيرلس إلى تصوير جزيرة لينوسا الواقعة بين صقلية وتونس وكأنها أرض مجهولة تقبل المقاسمة، لطبيعتها التي لا تعرف انتماء جغرافياً صارماً، فهي أقرب إلى الأراضي العربية منها إلى يابسة البلد الذي تحسب عليه: إيطاليا. أهلها يعيشون حالة كساد اقتصادي والهجرات الجماعية غير الشرعية القادمة من البحر تؤثر سلباً على السياحة فيها، ومع هذا وقف البحّار الشيخ أرنستو وحفيده في وجه السلطات الحكومية ورفض الانصياع إلى مطالبها بترك مهاجري القوارب يغرقون أمام أعينهم دون تقديم المساعدة اليهم، بذريعة أن إجراءات انتشالهم من البحر هي من مهمات شرطة خفر السواحل وما على البحارة في حالة مصادفتهم لشخص يغرق وسط أمواج البحر إلا الإعلان عنه. لقد وجد البحارة والصيادون في مطالب شرطتهم خرقاً لقانون البحر الذي نشأوا عليه، والذي يرفض ترك أي إنسان في البحر أو حتى سفينة تائهة دون تقديم المساعدة إليها. لقد رفضت عائلة الشيخ، ومع كل أزمتها المالية وضغوط الشرطة عليها، تسليم المرأة الأفريقية ووليدها الجديد إلى الشرطة وقررت التضحية بكل شيء في سبيل توصيلها إلى مدينة أخرى وسط اليابسة الإيطالية. تفاصيل “تيرافيرما” تقرّبه من الوثائقي لطريقة شغله الشديدة الواقعية ولكون إحدى بطلات فيلمه شخصية حقيقية إريتيرية وصلت ضمن الناجين إلى الساحل الإيطالي. شجاعة مدنية حصة السينما السويدية وبالتحديد حصة المخرجين الشباب من أصول مهاجرة غالبة، من بينها: “هناك حيث يخفق قلبي” لخازار فاطمي الذي يتحدث عن علاقته بوطنه الأصلي “أفغانستان” و”ابن المقاتل” للكردي زانيار آدمي ومساعده السويدي ديفيد هيرديس. في الوقت الذي أخذت أفلام موضوعة الدورة “شجاعة مدنية” حيزها الطبيعي موفرة لجمهورها فرصة الاطلاع على تجارب شخصية مثلت تحدياً لقوى وسلطات قمعية من بينها “السيدة” للمخرج لوك بيسون ويرصد تجربة السيدة البورمية أونغ سو التي تحدت جنرالات بلادها وعادت من منفاها البريطاني لتشكل حركة مناهضة للعسكرتارية، أوصلتها إلى البرلمان بقوة الدعم الجماهيري لها. الفيلم يحكي عن علاقة السيدة بعائلتها وزوجها الإنجليزي وكيف نجح في تقديم قصتها إلى العالم كله لتحصل بعد إقامتها الجبرية، والتي امتدت سنوات طوالا، على جائزة نوبل للسلام. وعلى مستوى قوة السينما نفسها في تحدي قوى رأس المال والشركات الكبيرة، يأتي الفيلم الوثائقي السويدي “الأولاد الكبار راحوا.. بناناس” ليعزز هذا التصور في قصته العجيبة، فلا أحد يصدق أن أكبر شركة إنتاج زراعي في العالم “دول” طاردت وجندت كل طاقاتها المالية ونفوذها السياسي، لمنع فيلم وثائقي أنتجته شركة سينمائية صغيرة ويدور حول الأضرار الناجمة عن استخدام شركة “دول” لمبيدات كيمياوية ممنوعة تلحق أضراراً فادحة بمزارعي الموز في نيكاراغوا. الفيلم الجديد بني درامياً على قصة فيلمه “بناناس” ويحكي كيف وجد المخرج السويدي فردريك جرتين نفسه وفي اللحظة التي أراد فيها تقديم عرضه العالمي الأول في مهرجان لوس أنجلوس للفيلم الوثائقي محاصراً بمطالب تريد منع عرضه هناك، إلى جانب تلقيه تهديدات مباشرة من شركة زراعة الموز الأميركية بإقامة دعوة ضده قد تُدخله السجن وتجبره على تقديم تعويضات مالية ضخمة إذا لم يلغ فيلمه وإلى الأبد! يستذكر المخرج جرتين الأسباب التي دفعته إلى عمل “باناس” وأهمها أنه أراد إنصاف المزارعين الصغار بعد أن شاهد بعينيه وسجلت كامرته وفاة العديد منهم وإصابة آخرين بالعقم فصار نسلهم مهدداً بسبب ممارسات شركة أميركية متعددة الجنسيات كل ما يهمها؛ زيادة إنتاجها من الموز والحفاظ عليه برشه بمبيدات كيماوية كانت تتسرب إلى أجساد المزارعين وأطفالهم. لم يكن يتصور أن فيلمه سيُخيف شركة عملاقة ولم يصدق أنها ستتدخل بكل قوتها لمنع عرضه في أي مكان من العالم، من أجل ذلك جندت كبريات وسائل الإعلام الأميركية للإيحاء بأن الوثائقي “بناناس” قد بني على معلومات كاذبة وأن المزارعين قد لقنهم المحامي الكوبي الهارب من بلاده أقوالاً ملفقة وجاء بشهادات طبية مزورة فالفيلم كله مفبرك. كتب هذا الكلام صحفيون كبار ونشرته صحف أميركية قبل عرضه في المهرجان والمفارقة المضحكة أن كل الذين كتبوا عن الفيلم ومعهم مديرو الشركة لم يشاهدوه وكل ما عرفوه عنه أنه وثق حياة مزارعي الموز النيكاراغويين ونقل قرار المحكمة الأميركية الذي جاء لصالحهم وطالب، أيضاً، الشركة بتقديم تعويضات لهم. متابعة أفغاني في حين ينقل “الصبي مير” مشاهديه إلى أفغانستان حيث الصعوبات هناك لا تفرق بين كبير وصغير، ورغم هذا كان الصبي الأفغاني مير متفرداً طموحاً لحياة أفضل وهذا ما دفع المخرج جرابسكي بول لشرح الأسباب التي قربته من الصبي ودفعته للذهاب إلى أفغانستان، وأقواها كانت الصور المنقولة عبر وسائل الإعلام لتفجير تمثال بوذا، في منطقة باميان الأفغانية عام 2001، وظلت عالقة في ذهنه، وبعد أشهر قليلة على سقوط حكم “طالبان”، تَحَفز السينمائي للذهاب إلى هناك ليسجل المُتغيّرات المنتظرة بعد 30 عاماً من سيطرة قوى لم تجلب للبلاد والعباد سوى القتل والدمار. ووفق السيناريو المكتوب على الورق أراد العثور على “شخوص” حية لفيلمه تجسد التحول الحاصل في الإنسان الأفغاني. في أول يوم لتصويره موقع تمثال بوذا المُفجر، ظهر في إحدى اللقطات جزء من وجه طفل ارتسمت على محياه ابتسامة جسدت كل معاني البراءة الصادقة. هذا الصبي ذو الثماني سنوات كان اسمه: مير. ومن هنا، وتحديدا في عام 2002، بدأت فكرة عمل فيلم تسجيلي يواكب مراحل عيشه حتى بلوغه سن النضج بدلاً من أخذ نماذج “جاهزة” قد تقلل من مصداقية وقيمة الشريط. لقد تطلب هذا الاختيار العمل على المشروع عشر سنوات كاملة، سُجلت خلالها المُتغيّرات التي حصلت على الصبي مير والعالم المحيط به، فلقد أراده جرابسكي هكذا، فيلماً عن طفل طبيعي يعيش في ظروف غير عادية، إطلاقاً. قوة الفيلم في الصدمة التي يحدثها فينا. فبعد عشرات السنوات، عدا التحولات البايولوجية عند مير، لم يحدث أي تغيير في حياة الأفغان يذكر، سوى القليل. فحياة مير وعائلته ظلت على بؤسها ولم يحصلوا من الأميركان وحكوماتهم المحلية التي أعقبت طالبان سوى وعود لم تغنهم من جوعهم الحقيقي. لقد جاعوا طويلاً وسكنوا في الحفر والمغارات المجاورة لتمثال بوذا التي جاءوا إليها هرباً من بؤس ما وصلت إليه أوضاع قراهم في شمال البلاد تحت حكم “طالبان”، والأدهى أن الفقر نفسه أجبرهم ثانية للعودة إليها، ففي المكانين بؤس وجوع. رصده للحياة اليومية في القرية الأفغانية كشف لنا واقعاً مخيفاً، محزناً، يدعوك للتساؤل عن معنى العيش فيها، إذا كانت بهذا المستوى من الدونية، لكنه في ذات الوقت يدعونا لفتح أفواهنا اندهاشاً من قوة الأمل والرغبة في مواصلة الحياة على ما فيها. فمير ومنذ صغره كان يحلم بأن يصبح مديراً لمدرسة أو رئيساً للبلاد. ترى من أين يأتيه هذا الكم من الأمل في صحراء شاسعة من العوز. ومن أين لهذا الصبي الروح المنفتحة، المبتسم دوماً الضاحك من قلبه رغم شقائه؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©