الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شرعيات النقد

شرعيات النقد
8 نوفمبر 2012
ينطلق الدكتور سعد الدين كليب في كتابه “وعي الحداثة ـ دراسات جمالية في الحداثة الشعرية” من علم الجمال، لاقتراح مقاربة نقدية مختلفة للحداثة الشعرية، وهو ما لم تتم الإفادة منه في النقد المعاصر حتى الآن، إلا بشكل جزئي حيناً وعرضي حيناً آخر. فقد تم النظر إلى الحداثة الشعرية من منظورات عدة متباينة، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بتحديد ما هو جوهري فيها أم عرضي، حتى يخيل للمرء أن النقد المعاصر لم يكد يترك جانباً من جوانب الحداثة، من دون معالجة تحليلية أو تناول نقدي. غير أن ذلك لا يؤدي إلى الزعم بأن النقد قد قال كلمته الفصل في شأن الحداثة الشعرية، لأنه ليس هناك كلمة فصل في الشعر والفن عامة، كما أنه ليس ثمة كلمة فصل في العلوم الإنسانية. ولهذا فإن كليب يجد تبريراً كافياً لمقاربته المختلفة، فهناك برأيه شرعية مستمرة للمقاربات النقدية الجديدة جزئياً أو كلياً. نتاج الوعي تقوم مقاربة سعد الدين كليب النقدية ـ الجمالية على مقولة محورية، مفادها أن الفن هو نتاج الوعي الجمالي السائد والمشروط بالبنية المجتمعية العامة. وهو ما يعني أن الفن لا يمكنه أن يتبدل، ما لم يكن ثمة تبدل في الوعي الجمالي. وهذا لا يحدث بمعزل عن التبدلات الحاسمة في تلك البنية المجتمعية. أي أن الفن ليس انعكاساً مباشراً للواقع، بل هو انعكاس للوعي الجمالي المشخص تاريخياً من جهة، والمشخص فردياً من جهة ثانية. والفن ـ كما يرى كليب ـ هو الأكثر قدرة على تبيان ذلك الوعي وتجسيده وتمثله، ولا يتبدى ذلك في طبيعة المعالجة الجمالية للواقع فحسب، بل يتبدى أيضاً في التقنيات الفنية التي ليست في الحقيقة سوى تمظهر حسي لما هو معنوي جمالي مجرد. فثمة، إذاً، علاقة جدلية بين الوعي الجمالي والشكل الفني، ومن هنا، فإن مقاربة ذلك الوعي لا تتم على النحو الأمثل، إلا من خلال مقاربة الشكل الذي هو الوعي متمظهراً، فالشكل الفني هو شكل الوعي الجمالي. ولذلك، فإن أي تبدل في الوعي سوف ينعكس تبدلاً في الشكل، غير أن هذه المسألة لا تتم ميكانيكياً أو بطريقة حتمية، فقد يتمكن الشكل من استيعاب تبدلات الوعي غير الجذرية أو الجوهرية. ولهذا ينظر الكاتب إلى الحداثة الشعرية على أنها حداثة في الوعي الجمالي أولاً، ولا يمكن فهم الاختلاف والتميز بين النص الحداثي من جهة، والنص الكلاسيكي والتقليدي المعاصر من جهة أخرى، ما لم يتم الأخذ بالاعتبار الاختلاف والتميز بين الوعي الجمالي لكل منهما. الحداثة الشعرية والنقد يشير كليب بأهمية بالغة إلى التفاعل بين النقد والحداثة الشعرية، ويذهب إلى أن ما صاحب الحداثة من مقاربات نقدية، كان له الأثر الكبير في تطور النقد المعاصر، وبلورة الكثير من مفاهيمه، وفي الوقت نفسه لم يكن لهذه الحداثة أن تتعمق وتتبلور، لولا النقد الذي كان موضوع التحديث الشعري من قضاياه الأساسية. وهو يعتبر أن الوعي الجمالي يشكل الأساس الذي انطلقت منه الحداثة الشعرية العربية، لكنه بقي هامشياً بالنسبة للنقد الأدبي المعاصر في إجابته عما هو أساسي في هذه الحداثة. ومعظم ما يقال في هذه المقاربة النقدية أو تلك عن العلاقة بين ظاهرة الحداثة والوعي الجمالي هو أن ثمة ذوقاً جمالياً جديداً راح يتبلور عربياً، أو أن تغيراً ما قد طرأ على طبيعة الاستيعاب الجمالي في الإبداع والتلقي، أو أن الشعر الحديث ذو بنية جمالية مغايرة ومختلفة عن الشعر العربي القديم. ولكن النقد المعاصر يسكت عن تبيان طبيعة هذا الذوق الجديد أو التغير أو البنية، مكتفياً بالإشارة أو التقرير. وكأن الأمر بدهي لا خلاف حوله!. ولعل السبب الأبرز في ذلك يكمن في قلة عناية هذا النقد بعلم الجمال تنظيراً وتطبيقاً، وهو ما انعكس سلباً على بعض أطروحاته، من مثل عدم الربط أو ضآلته بين الظاهرة الشكلية وأساسها الجمالي. ومن مثل تحويل الجزئي إلى كلي، وتعميم الخاص على الحداثة الشعرية عامة، ومن مثل التعامل مع هذا المستوى الفني أو ذاك بمعزل عن المستويات الأخرى من جهة، وعن المضمون الجمالي من جهة ثانية. تكثيف التجربة الاجتماعية يعتبر كليب أن الفن بوصفه “أعلى أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال”، إنما هو نتاج الوعي الجمالي، في نمط من أنماطه التاريخية. ولهذا، فإنه يكثف التجربة الاجتماعية تكثيفاً فنياً راقياً، من منظور ذاتي تخيلي تقويمي، مما يعني أن إحالة الفن على الواقع لا يمكن أن تكون إحالة مباشرة، مثلما أنه لا يمكن ربطه بما هو فردي صرف. فالوعي الجمالي الحداثي هو الصور الذهنية التي تتشكل في المجتمع العربي المعاصر، بفعل المستجدات المتعددة والمختلفة التي بدأت بالبروز منذ أوائل القرن العشرين. ومن هنا، فإن تبيان هذا الوعي هو في أساسه تبيان للخلفية الناظمة للحداثة الأدبية العربية عامة، والشعرية منها خاصة. ولهذا فإن التصنيف المدرسي لهذه الظاهرة الفنية أو تلك ينبغي أن ينطلق برأي الكاتب من تحديد طبيعة الوعي الذي يقف خلفها، أما أن ننطلق في التصنيف من المستويات الفنية وحسب، فإن في ذلك قصوراً عن استيعاب الظاهرة نقدياً. لكن الكاتب لا ينفي أهمية تلك المستويات في التصنيف، إذ إن الوعي الجمالي لا يمكن استقراؤه من دونها، فهي الحامل المادي له أو هي شكله المشخص مادياً. ولاسيما حين تكون تعبيراً مباشراً عنه. وعي جديد يعرف سعد الدين كليب الوعي الجمالي بأنه الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء، من خلال سماتها الحسية وأثرها في الطبيعة النفسية والروحية للمتلقي، منطلقاً من المقاييس الجمالية التي تشكل مضمونه القيمي. ويتلاءم الوعي الجمالي طرداً مع تلك المقاييس، بحيث إن أي تغير يطرأ على واحد منهما، يطرأ على الآخر بالضرورة، غير أن تغير الوعي يكمن في آليته الذهنية ـ الانفعالية، على حين أن تغير المقاييس يكمن في المثل العليا الناظمة لها، فليس ثمة وعي جمالي دون مقاييس، وليس ثمة مقاييس من دون مثل عليا. وتتداخل هذه الأقانيم بشكل يصعب فيه التمييز بينها، إلا أنه يمكن القول إن الوعي هو الآلية الذهنية ـ الانفعالية المنتجة للظاهرة، والمقاييس هي الناظمة لها. أما المثل فهي المعيار الأعلى الذي تسعى الظاهرة إلى تشخيصه وتمثيله بوساطة تلك المقاييس. ويخلص الكاتب إلى أن الحداثة الشعرية العربية جاءت تلبية لحاجة جمالية ناشئة في المجتمع العربي المعاصر، وتعبيراً عن وعي جمالي راح يتبلور عبر نصف قرن تقريباً. ويتميز هذا الوعي في الحداثة الشعرية العربية من الوعي الكلاسيكي العربي بعدة سمات تجعله وعياً جديداً بكل ما تعنيه الكلمة، كما تجعل نتاجه الشعري مختلفاً عن الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©