الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدب الشعبي.. التأصيل والتهميش

الأدب الشعبي.. التأصيل والتهميش
8 نوفمبر 2012
صدر مؤخراً عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وبدعم من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الكتاب الجديد للدكتور والباحث المغربي مصطفى يعلي، تحت عنوان “نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب”، وهو الكتاب الذي يأتي بعد كتب قيمة أصدرها الدكتور يعلي، منها: “امتداد الحكاية الشعبية”، “القصص الشعبي بالمغرب”، “دراسة فورمولوجية”، “السرد المغربي”، “القصص الشعبي بالمغرب/ قضايا وإشكالات”، “السرد ذاكرة”، “ظاهرة المحلية في السرد المغربي”. وتتركز مقصدية الأبحاث المدرجة بين دفتي هذا الكتاب، على محاولة استطلاع بعض القضايا المرتبطة بالأدب الشعبي، واستنطاق عدد مهم من نصوصه السردية، بهدف الإجابة تطبيقيا عن طائفة من الأسئلة الملحة في حقل الدراسة الأدبية، من مثل: كيف نظرت النخب المثقفة في المغرب إلى هذا الأدب المغبون؟ وكيف ولماذا ومتى شرعت هذه النظرة في التحول من الضد إلى الضد؟ ومن أهم الجنود المجهولون الذين كانوا يعنون به في مرحلة التأسيس الصعبة، عاملين في دأب وإخلاص ونكران ذات، من اجل تأصيل وإرساء الدراسة الأدبية الشعبية في المغرب، بهدف إعادة الاعتبار إلى أدب همش تحت طائلة فهم ووعي مغلوطين طال أمدهما؟. ثم، هل هذا الأدب يستحق بشكل عام في المغرب وغير المغرب أن تبذل من أجله جهود مُضنية من اجل جمعه ودراسته؟. فأي ثيمات وأي جماليات وأي وظائف وأهداف، وما إلى ذلك من مواصفات وإشكالات هذا الأدب، تغري ببذل هذه الجهود وتبررها؟. ويتساءل الدكتور يعلي قائلا: “هل هذا الأدب موجود أصلا؟. وإذا كان موجودا، فما هو حجم التراكم المتحقق لمتونه؟. وقبلا، أيملك فعلا خصوصيات تربطه بالتربة المحلية والوطنية والقومية، مع العلم أنه ينتمي في الأصل إلى حقل أوسع هو الحقل العالمي؟. وأخيرا، هل يمكن أن يكون المنجز الأدبي الشعبي مصدر إلهام وإغناء لمختلف أجناس وأنواع الأدب الرسمي ذاته، فيخصبها بالأساطير المثرية والرموز العميقة وأشكال التعبير المدهشة، فاتحا أمام مبدعيها آفاقا شاسعة في مجال الخلق والتجريب والامتياح، تساعدهم تعبيريا في إنجاز عملية تحديث أساليبهم وتنويع أنسجة وبنيات نصوصهم وتعميق منظورهم ورؤاهم؟. ويرى الدكتور يعلي في توطئة الكتاب إنه إذا كان الاهتمام الجاد بالمأثورات الشعبية عامة والأدب الشعبي بوجه خاص، مما حفظته الذواكر الشعبية واحتفظت به لنفسها وللتراث الإنساني، قد ترسخ كعلم مبكرا في الغرب، ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر، وخلال كل القرن التاسع عشر، بتأثير خاص من الحركة الرومانسية والنزعة القومية والثورة العلمية، مع بعض المفكرين والمحققين والفولكلوريين والفلولوجيين والانثروبولوجيين، أمثال هردر وبيرو والأخوين جريم وبنفي وفريزر، وأفانسييف إلخ.. بعد أن سبقتهم محاولات بدائية من هنا هناك منذ القرن السادس عشر؛ فإن مثل هذا الاهتمام قد تأخر في العالم العربي، نظرا للمرتبة المتدنية التي كانت توضع فيها الثقافة والأدب الشعبيين في العالم العربي خلال القرون المتأخرة. ولم تبدأ المحاولات العربية المحتشمة لإحلالهما في الوضع الاعتباري الذي يليق بهما، إلا مع الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، حيث نشطت الدراسات الشعبية في مصر مثلا خلال الخمسينات ثم في الستينات تخصيصا بشكل مكثف، توجت بتأسيس كرسي الدراسات الشعبية بجامعة القاهرة. وبفضل ذلك يكون المنجز الأدبي الشعبي قد استعاد هويته الأدبية عربيا، بدليل أن عددا مهما من عيار الأدباء والباحثين المصريين الكبار المعروفين في تلك الفترة قد انخرطوا في هذه الموجة، أمثال رشدي الخادم، عبد الرحمن خورشيد، شكري عياد، فوزي العنتيل، عبد الحميد يونس، سعد الخادم، عبد الرحمن زكي، سمير القاموي، نبيلة إبراهيم، نعمات أحمد فؤاد، أحمد مرسي، اللائحة طويلة. أما في المغرب، فمما يسترعي الانتباه في هذا الشأن، كون صورة الموقف السلبي المتعالي المتبلور بفعل شروط تاريخية معينة تجاه الأدب الشعبي زمن ما قبل الاستقلال، قد جعلت على امتداد العقد الستيني من القرن العشرين، تتخفف من صرامتها، تحت تأثير المتغيرات السياسية والثقافية التي انطلقت سيرورتها بحلول هذا العقد، مع ما عرفه من أحداث ونقاشات ساخنة، في أفق تمتين الذات الوطنية تحت ظل الدولة الحديثة، وما ارتبط بهذا من طموحات وتطلعات، لا سيما بعد الاعتراف بالدور الفعال الذي لعبته الجماهير الشعبية العريضة في ميدان مقاومة الاستعمار والإسراع بالحصول على الاستقلال. العبقرية الشعبية وقد كان لكل هذه التحولات أثرها في إحداث وعي مختلف نوعيا لدى الأجيال الجديدة حاضنة التغيير والتجديد في الحياة والفكر والأدب، علماً بأن هذا الوعي قد تزامن مع معطى أساسي في هذا الصدد، ونعني به ما تحقق من انتباه على قرائن مؤشرة على ما يزخر به المتخيل الشعبي مما أبدعته العبقرية الشعبية من جمال وثراء متمثلين في مهارة الخلق، وبلاغة الإدهاش والتأثير، وقدرة الاستيعاب الشفاف للقيم الإنسانية الخالدة، فضلاً عن وفرة اختزانه لكنوز من المضمرات الرمزية والأبعاد الأسطورية العميقة؛ وهو الوضع الذي يمكن اعتباره ذريعة صحيحة تمكن من تثمين هذا المتخيل ورفعه إلى درجة التكامل مع المتخيل العالم ذاته. ومنذ تلك المرحلة، لم تفتأ المحاولات الأولية المخلصة تستميت من أجل تكريس الاهتمام بالأدب الشعبي في المغرب، وذلك من خلال تأسيس الجمعيات ومجموعات البحث المهتمة بهذا الأدب، وتنظيم الندوات المخصوصة به، وبحث قضاياه في إطار تحضير بعض الشهادات الجامعية العليا، ونشر الدراسات والأبحاث الضافية المعالجة لبعض أجناسه بأنواعها المختلفة، مع ما تطرحه من إشكالات إجرائية وقضايا جمالية وأبعاد دلالية. ويبدو أنه كان لكل تلك الجهود أصداء طيبة في الجيل التالي من المهتمين بهذا الأدب في المغرب، ومن حسن الحظ أن تلك المحاولات التأصيلية الدؤوب، قد توجت في السنوات القليلة الأخيرة، بفتح عدد من وحدات التكوين والبحث ثم “الماستر” في بعض كليات الآداب المغربية، متخصصة في الثقافة والأدب الشعبيين، إلى جانب تأسيس مجموعات البحث والمختبرات النشيطة، وتدشين الورش الخاصة بأجناس هذا الأدب، يتقدمها القصص الشعبي حصراً. الوعي المغلوط ولا شك في أن هذا الإنجاز المتحمس للأدب الشعبي في الجامعة المغربية، سوف يضاعف من الاحتضان الأكاديمي للثقافة الشعبية وأدبها، موفرا لهما مجالا حيويا للانتعاش والاستمرار، نظرا لما تملكه الجامعة من إمكانات بشرية ومنهجية وأدواتية فاعلة، وما تتمتع به الدراسة الجامعية من قدرات علمية دقيقة متمثلة في الموضوعية والتمحيص وحسن التنظيم والتدقيق وفضيلة التأني ودراية بالفهرسة والتوثيق والمقارنة والحجاج والنمذجة والوصف العلمي الدقيق؛ وبعبارة واحدة؛ الصرامة البالغة الأهمية للدرس والبحث الرصينين. ولعل كل هذا سيقود إلى رفع سقف الاهتمام بالأدب الشعبي من مستوى التداول الشعبي السارد في الشحوب والتلاشي بوتيرة متسارعة تثير الأسى في النفس، بسبب إكراهات مكتسحة بات يعرفها الجميع ويتحسس مخاطرها، في زمن العولمة الأعمى الذي تعيش البشرية أبشع مظاهر تهديداته لكل ما هو جميل وأليف؛ إلى مستوى عالم له الوعي والمعرفة والمرجعيات والمنهج، ما يسهل تحويل هذا الأدب إلى موضوع ثر للنقاش والدراسة والبحث. وربما قاد هذا الوضع المستجد في ميدان الأدب الشعبي عندنا، إلى فتح مسار رحب لنوع جديد من الدراسة، من شأنه أن يغني البحث الجامعي والدراسة الأدبية والنظرية والنقدية، وبالتالي تحقيق الإضافة النوعية المطلوبة للمكتبة المغربية والعربية بل الإنسانية. ويرى الدكتور مصطفى يعلي أن الوعي المغلوط الذي تعاملت به النخب العربية المثقفة إلى حدود فترة استقلال المغرب، قد أصابه بعض التحول منذ العقد الستيني من القرن العشرين، بسبب مجموعة من المتغيرات المؤثرة التي مست مختلف مجالات الحياة في الفترة ما قبل الاستقلال. خاصة على المستويين السياسي والفكري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©