الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صوفي يتدثر بحلمه في قصيدة المناجاة

22 مارس 2009 03:20
كل ذلك نجده في ديوان ''منمنمات'' للشاعر خالد الراشد الصادر عن مشروع ''قلم'' التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، والذي سبق أن أصدر ''كله أزرق'' وقد نتساءل، هل أراد خالد الراشد أن يقدم نصاً إنشادياً كاملاً يستقي عوالمه من رؤى حالمة، رؤى الشاعر ومن عالم الهند المليء بالأسرار والثقافات والسحر والحقيقة· يستعيد خالد الراشد أبعاداً إنسانية شفيفة، عصية في الآن نفسه، لذا تراه يقبع في أعمق نقطة في شعرية الإله الكبير ''راما'' التي هي يقظة الحياة وصمت الموت، وكأننا نسأل هل أراد الشاعر أن يجسد عبر هذه المناجاة الطويلة التي امتدت لـ 79 صفحة وان يلخص تجربته الصامتة في الشعر· مما لا شك فيه أن خالد الراشد في ديوانه الجديد ''منمنم'' قد قدم نصاً دائرياً، اعتمد فيه الخطاب أولاً وكأنه بذلك يحاكي أسلوبياً وشكلياً خطاباً هندياً، أما من جانب المتن فهو مليء بالصوفية الفارقة في تأملاتها الوجدانية العميقة· تلك تجربة قل مثلها ولا يعني ذلك أنها لم تكن موجودة في شعرنا العربي الحديث والدلائل على ذلك كثيرة ولكن غرائبية تجربة خالد الراشد أنها متأسسة على استبطان روح الشاعر أولاً والخطاب الهندي ثانياً بفعل ثقافته المنفتحة على المنجز الموروثي والفلسفي الهندي ومعايشته لواقع الهند بشكل يومي· تجربة مثل هذه لم يرد لها خالد الراشد أن تموت، فبقدر الاحتفاء بالحياة والرقص على وفق تعاليم أو شعر المفكر والمعلم الهندي الإنساني 1931 ـ 1990 الذي تبنى تعاليم تقوم على الرقص والموسيقى واتخذ الحب مبدأ للحياة فإن خالد الراشد يحتفي بـ ''راما'' أيضاً الذي يمازج بين ثنائية الحياة/ الموت· حتى لتجد أن الشاعر ينهي نصه الطويل ''منمنم'' بهذا المقطع'' ''الشاعر الذي يموت على فراشه من العطش ماذا يمكن أن يقول؟''· لنفترض جدلاً ـ مع جمالية أن يقدم الشاعر تجربته تلك بدون انقطاع أو عناوين داخلية وكأنه يدعو القارئ ليخلق عناوينه الخاصة للمقاطع ـ أن بداية النص هي الحياة فيقول: ''أسماء دربي كلها ذكرتها انت الأخيرة وأنا المنمنم اعطيك ما عندي تعطيني ما تريدين''· ويشير العطاء ''أعطيك/ تعطيني'' إلى الواهب، المانح الحياة فإن المقطع: ''الشاعر الذي يموت على فراشك من العطش ماذا يمكن أن يقول؟''· تمثيل واضح وحقيقي للموت وهو بذلك يبتدئ بالحياة وينتهي بالموت على وفق فلسفة راما·· مابين هذين المقطعين نجد فلسفة ''اوشو'' الذي يتوسط الحياة والموت والذي يحتفي بالموسيقى والرقص، وهو في كل ذلك يخاف من نهايات مأساوية ''راما'' في الموت· المقطع الثالث يقول: ''هذا المساء في عينيك يا حبيبتي على وشك الكلام كلما رأيت هويت مرة بعد مرة''· وكأنه يشير إلى أن ''هذا المساء'' ستبدأ الانشودة في خطابها المنقطع حيث يشعر لأول مرة بالكلام وكلما يبدأ تراه يهوي كي يتعلم الكلام ليواصل انشودته مرة بعد أخرى· يشعرنا خالد الراشد ببهجته مع المرأة مثلما تراه يرقص على أنغام ''أوشو'' التي تمزج بين الفرح والبكاء: ''أيها النهر الذي يجرف مع الطين دمعي لو رأيت''· وتبدو الرؤية هنا مكررة ''كلما رأيت'' و''تنظرين'' و''لو رأيت'' أما الأول فهي مكررة بذاتها والأخرى توكيدية والثالثة للتمني· وكأن الشاعر في نشيده الصوفي هذا لم ير أن حبيبته ترى شوقه الطاغي· منطق التكرار يعمد خالد الراشد إلى التكرار في جميع المقاطع وكأنه بنية الرقص على الكلمات المتشابهة وهذا عنصر من أهم عناصر شعريته التي يريد من خلاله توكيد نسق تكرار ايقاع الألفاظ كما هو في الرقص· يكرر ''كيف'' متسائلاً ويكرر ''تملئين'' تقريرياً ويكرر ''أريد'' للطلب في الخطاب و''يكرر'' أضمك'' للتمني ويكرر ''تخلق ويخلق'' للتساؤل· أما مهيمنات المنمنمات لديه ـ بوصفها صوراً جزئية تشكل كلاً متجانساً ـ في العيون وكأنه يشبه كل منمنة جزئية بالعين، إذ لا تجد مقطعاً خالياً من إما الرؤية أو العين، تلك هي ميثولوجيا المنمنمة التي تقرب إلى أن تكون عيوناً مجتمعة· فهل أراد خالد الراشد أن يقدم رؤى من عيون كالمنمنمات· 1- هذا المساء في عينيك يا حبيبتي· 2- وعينان تركتهما تنظران 3- أريد أن تراني عينيك· 4- عيناها عذبتان تغتسل فيهما روحي· 5- هناك هاتان العينان· 6- هاتان العينان لك· 7- انظري إلى عيني· 8- ماذا اسمي هاتين العينين· 9- هاتان العينان جميلتان أبعد من ذلك وليس مستغرباً أن تهيمن عينا حبيبته على مقاطع النشيد الصوفي إذ هما موطن الرغبة والحياة·· الرغبة لا تستثار إلا من خلالهما لذا وجد خالد الراشد مصدر الضوء والنور، وهو ما جعل أفق الشاعر ينطلق منهما حتى ليصل إلى حالة الوجد فيقول: ''من أين هذا العسل متدثراً به أسير''· في مدينة بهملايا الهند اسمها ''منالي'' يعيش خالد الراشد في بيته الخشبي الكبير، بين شجر تفاح على جبل، بيت بلون أصفر ـ روى ذلك عن الأصدقاء ـ وكأن الشاعر يعيش حلم الشمس في ليله ونهاره· ويصل خالد الراشد إلى أقصى شفافيته في المناجاة فيقول: ''وجهك هذا أم بستان ورد حديثك هذا أم عبير الجنان؟ قلادتك من الحجر الكريم والعابرون في النهر كلهم مرتحلون'' يستخدم خالد الراشد تناصات لفظية ''أقسم بهذا البلد'' ويهيمن في النص الموروث السباعي للعدد و''يولج النهار مع الليل والليل مع النهار'' وصوفية الهندوس وتعاليمهم· ويبقى هاجس ثنائية الحياة/ الموت في تضاعيف القصيدة بالرغم من مناجاته للحبيبة احتفاءً بها: ''كلما سقطت وردة تأذيت كلما أتت غيمة فتحت لها جسدي باحة القلوب مفتوحة''· وينعطف مرة أخرى ليستبقى الموت فقط فيقول: ''أنا الذي تركتني النسوة وسائر الأغنيات، في الزمن الماضي وتركت قصة الحب صوفي قديم، أنا أرقص الموت أطلبه الصدق''· وبرغم أن فرحاً ما يحاول أن يشع في سفر خالد الراشد إلا أننا نلحظ الألم عبر الموت المكرر والرحيل والذهاب المفاجئ ومزدوجة الضحك / البكاء كي يقع في سر الوردة الذي يريد أن يعرفه· خالد الراشد باحث عن السر في العلن وعن النوم في اليقظة وعن الكلام في الصمت وعن الداخل في الخارج، عبر تجليات صوفية قل نظيرها بكائية ومبهجة متأملة وحالمة ومبصرة وعمياء، وكل ذلك وفق منطقة وفلسفته في ثنائية النور والظلمة· ''التقيتها·· كلما وضعت الكحل تنفتح الدنيا والظلام''· حيث يمتزج لدى خالد الراشد النور بالرؤية/ العين· ولكنه يمتلك حكمة البوذي: ''الحب مثل القصيدة قلها فوراً حيث يسكن القلب في مسكنه''· ويبقى منذ بداية الديوان أنه موشك على القول واطلاق الكلمات التي صعبت عليه أولاً حيث يقول ''وخلتني أسير/ على وشك الكلام/ ارجعني الكلام على وشك/ والنور على وشك'' ص49 كما بدأ حين قال: ''هذا المساء في عينيك يا حبيبتي على وشك الكلام''· ص8 يستخدم خالد الراشد الأسطورة الهندية، فلا تبدو غريبة على نصه، حيث تجيء في سياقها، ما دام النص يعتمد على المناجاة والانشاد· ''أنا أغطس في ''الغانغا'' حتى الرقية وفي ''الجامنا'' تستحمين عارية لم يرك أحد والباقي بين الهواء والسماء'' كل ذلك خطاب لـ ''راماروز'' الوردة المقدسة التي جعلت الشاعر حالماً، صوفياً، متوهجاً: ''هذا الهوى خلاني أسير هذا الزلزال من جبالي'' ويتكرر ذلك ثانية: ''أتكلم عن الرياح سيدة الرياحين أتكلم عن الطريق هذه الطريق خلتني اسير''· وهي جزء من رحلة صوفية يعيشها أو عاشها الشاعر في وجدانه وواقعه فتجلت لديه قصيدة طويلة ضمها ديوانه ''منمنم'' ولكن يبدو أن خالد الراشد بعد كل ذلك الاحتفاء بـ ''راما روز'' يصل إلى حقيقة الوحدة : ''لا أحد خارج الباب ···· لا أحد خارج الباب ···· رقصت وحيداً هذه المرة كما سابقاتها أغلقت باب الغرفة وتركت الشمعة تنير أحلامي حيث يتوحد الصوفي مع ذاته التي ربما هي ''راما روز'' دون أن نعرف''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©