الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خزائِنُ المكتبات·· توفير أوعية مصادر المعرفة للجميع

خزائِنُ المكتبات·· توفير أوعية مصادر المعرفة للجميع
22 مارس 2009 03:22
لم تظهر المكتبات بشكل واسع ـ ولم تتسع الكتب نفسها ـ إلاّ منذ القرن الثالث بعد انتشار الورق وصناعته في عاصمة الخلافة العربية الإسلامية بغداد· وكان امتلاك مكتبة في أيّ منزل علامة على السِعَة والغِنَى لصاحبها· والرواة لأخبار العرب والشعر هُم الذين اهتموا بأن تكون لهم مكتباتهم الخاصة لأنها من صناعتهم· وهي تكبر وتصغر حسب مبلغهم من الغِنَى· وقد يبيع بعضهم كتابه من الفقر· وقد يغسله ليكتب عليه أمراً آخر! ورغم أنّ ثمن الكتاب مرتفع وأجرة نسخه مرتفعة بدورها، ومع ذلك فقد سمح الغِنَى للخلفاء والوزراء وكبار العلماء المُوسرين بأن تكون لديهم مكتبات ضخمة كان من بقاياها هذا التراث من خزائن المخطوط من الكتب والموزع بين مكتبات العالم والذي يُعدّ بعدّة مئات من الآلاف· ويورد د· أحمد شلبي في ''موسوعة الحضارة الإسلامية'' عن اهتمام المسلمين بالمكتبات، وكيف لجأ من أحبّ تعليم الناس إلى إنشاء مكتبة يجمع فيها الكتب ويفتح أبوابها للناس، كما فعل البطالمة في مكتبة الإسكندرية بمصر، والعباسيون في بيت الحكمة ببغداد· وكانت الكتب نواة الجامعات الإسلامية المبكرة، كبيت الحكمة في بغداد ودار الحكمة في القاهرة، وقد كان ذلك داعياً إلى اختلاف المؤرخين في طبيعة هذه المؤسسات؛ وما إذا كانت تُعدّ مدارس أو مكتبات، ثم أصبحت هذه نماذج لهذا النوع من المنشآت سواء شيدتها الدولة أو أسسها الأفراد، وعلى هذا أصبحت المكتبات في العالم الإسلامي في تلك العصور تقوم بمهمة المعاهد العلمية في العصر الحديث، بالإضافة إلى ما تؤديه دور الكتب في الوقت الحاضر من خدمات لمرتاديها من الباحثين والمطالعين· بيت الحكمة ببغداد يُعدُّ القرآن الكريم أول كتاب عرفه المسلمون وحملوه معهم في فتوحاتهم، ولقد شهد المسلمون أثناء فتوحاتهم لدى الأمم المجاورة كتباً مخطوطة، فما أعاروها أهمية، ولكنهم حين بدأوا يعتنون بالتفسير والحديث الشريف والشِعر والخطب والأمثال والحِكَم، شعروا بالحاجة إلى التدوين ونسخ الكتب وحفظها في أماكن عرفت فيما بعد بـ''بيت الحكمة''، أو ''خزانة الحكمة''· ويحدثنا الدكتور يحيى وهيب الجبوري في ''الكتاب في الحضارة الإسلامية'' عن أول ذكر لبيت الحكمة البغدادي الذي يرد مرتبطاً بمعاوية بن أبي سفيان ومنسوباً إليه، ففي المناظرة التي كانت بين عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ)، وبين بشر المريسي (ت 218هـ)، يقول الدارمي: ''وادّعى المعارض أيضاً أنّه سمع أبا الصلت يذكر أنّه كان لمعاوية بن أبي سفيان بيت يُسمى بيت الحكمة، فكلما وجد حديثاً ألقاهُ فيه، ثم رُويت بعد''· ومعروف عن الخليفة معاوية بن أبي سفيان أنه كان مهتماً بسماع الأحاديث وسِيَر الملوك وأخبار الماضين وتدوينه والاحتفاظ والانتفاع بها، فمما عُرِفَ عنه أنّه ''كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد، ويحضر الدفاتر فيها وسِيَر الملوك وأخبار الحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها''· وذكر ابن النديم في ''الفهرست'' أنّ معاوية قد استقدم عُبيد بن شَرِيّة الجرهمي (ت 67هـ)، وهو أول مَن صنّف الكتب من العرب، فكان معاوية يسأله عن أخبار العرب الأقدمين وملوكهم، فيحدثه، فأمر الخليفة بتدوين أخباره، فأملى كتابين، أولهما ''الملوك وأخبار الماضين''، والثاني كتاب ''الأمثال''· أيام الرشيد والمأمون ثم يُعرِّج الجبوري ليحدثنا عن بيت الحكمة في العصر العباسي أيام الخليفة أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد، فيقول إنّ: الخليفة عُرِفَ بميله وولعه بعلم النجوم، بالإضافة إلى العلوم الأخرى، وكانت عنايته بالعلوم العربية، من الفقه والحديث ورواية الأخبار والتاريخ، لا تقلّ عن عنايته بالعلوم الطبيعية المُترجمة، من ذلك أنّه أمر محمد بن إسحاق (ت 151هـ) أن يُؤلف كتاباً في التاريخ لابنه المهدي منذ آدم حتى زمن المنصور، وكذلك ألف عبدالجبار بن عدي له كتاباً في آداب الحروب، وصنف المفضل الضبيّ بأمر المنصور كتاب ''المفضليات'' الذي كان قصائد يُؤدب بها المهدي· أما زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد وقد أثريت خزانة بيت الحكمة ومنه إذ جاءتها دفعة كبيرة من الكتب بعد فتح هرقلة وأقاليم بيزنطة عام 190هـ، حيث جُلِبَ إلى بيت الحكمة ممّا وُجِدَ بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم·· وكان الخليفة الرشيد قد أوكل إلى يوحنا بن ماسويه مهمة ترجمة هذه الكتب لرومية، ورتبّ له كُتّاباً حذّاقاً يكتبون بين يديه، وقد صار لبيت الحكمة ببغداد مكانة خاصة، وقد اقترنت فيه حركة الترجمة بالمراصد الفلكية، وبخزانة الكتب التي حفظت فيه، ونظم لها مُترجمون ونُسّاخ وكُتّاب مَهَرة، وكان مِن جُمْلَة النُسّاخ الذين يكتبون للرشيد الشاعر علاّن بن الحسن· وفي زمن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد كان بيت الحكمة في أوج عطائه وازدهاره العلمي والفكري وتوسعه ورسوخه، إذ كان مُحباً للعلم والعلماء ومجالستهم، وكان همه أن يزود بيت الحكمة بكتب الفلسفة والعلوم لترجمتها والإفادة منها، فدأب على مراسلة إمبراطور الروم وإرسال البعثات إلى بلاده لاجتلاب الكتب· وبعد سنين معدودات ونتيجة لاهتمام الخليفة باجتلاب الكتب المختلفة إلى بيت الحكمة، حتى أصبح أشهر خزانة كتب ومركز للترجمة والتأليف، وغدا مركزاً للأبحاث ورصد النجوم وأنّ الكتب التي ضمّها هذا البيت لها جملة مصادر، أولها الكتب القديمة التي وصلت عن طريق الوراثة والاقتناء، وهي كتب عربية ويونانية وفارسية وسريانية، وثانيها الكتب التي ترجمت عن تلك اللغات الأجنبية، وثالثها الكتب التي أُلِفَت للمأمون ولغيره من الخلفاء وغيره، ورابعها الكتب التي نسخها النُسّاخ الذين كانوا يعملون في بيت الحكمة· مكتبات للعامة ومن المكتبات العامة في الحضارة الإسلامية خزانة الحكمة لعلي بن يحيى المُنجِّم، التي قال عنها ياقوت الحموي في معجم الأدباء: ''وكان بكركر ـ قرب بغداد ـ ضيعة نفيسة للمُنجِّم وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة يُسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والكتب مبذولة في ذلك لهم والصيانة مُشتملة عليهم والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى···''· وهناك ''دار العلم'' في الموصل وقد أنشأها الفقيه أبو القاسم جعفر بن محمّد الحمداني، في القرن الرابع الهجري، وجعل فيها خزانة كتب في جميع العلوم وقفاً على كلّ طالب علم ولا يُمنَع أحد من دخولها· وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان مُعسراً أعطاه ورقاً وورِقاً· وكانت دار العلم تُفتح في كل يوم ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس ويُملي عليهم مِن شعرهِ ومِن شِعر غيره· دور العلم·· مكتبات عامرة وأنشأ أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي وزير الخليفة المُستضيء العباسي خزانة المسجد الزيدي، والذي نذر إن رجع للوزارة أن يرسل إلى الزيدي ألف دينار وعاد فزادها الخليفة ألفاً أخرى فاشترى الزيدي داراً وبناها مسجداً ووقف فيها كتبه وكانت كثيرة وتلقت هذه الخزانة منحة مجموعتين من الكتب واحدة جاءتها من دمشق وقفها على المسجد أبو الخطاب العلمي الدمشقي والثانية كتب ياقوت الحموي· أما دار العلم في طرابلس ـ لبنان ـ فقد أقيمت في النصف الثاني من القرن الخامس العام 473هـ، أقامها الحسن بن عمّار قاضي طرابلس وحاكمها· وكانت مكتبة ضخمة يصفها بعض المؤرخين بقول شاكر مصطفى في ''المدن في الإسلام'' بأنّها كانت تجري ثلاثة ملايين كتاب منها خمسون ألف نسخة من القرآن الكريم· وكان يعمل فيها مائة وثمانون نسّاخاً، ثلاثون يعملون ليل نهار· وكان في طرابلس معمل لإنتاج الورق· ولها رجال يجوبون البلاد في شراء الكتب وكان يقصدها العلماء من كل مكان، وكان فيها طلاب ومدرسون يسكنون· مكتبات خاصة بعد ذكر المكتبات العامة، نشير إلى المكتبات الخاصة في العالم الإسلاميّ التي تكشف للقارئ مدى الولع بالكتب عامة في المدينة الإسلامية· وفيها مَن كان يحرم نفسه الطعام ليشتري كتاباً أو يبيعه لحاجة وهو يبكي وهؤلاء الفقراء المولعون بالكتب أكثر من ان يحصوا لأنّهم يشكلون عُشّاق الثقافة، أما أرستقراطية المثقفين فهي التي بقيت لنا أخبارها وأخبار مكتباتها الخاصة وهي بدورها كثيرة جداً وبعضها الخاص والعام· ولعلّ أول المكتبات هي مكتبات الخلفاء سواء منهم العباسيون أم الأمويون في بلاد الشام والأندلس· فبيت الحكمة كما ذكرنا إنّما نشأت أول الأمر مكتبة للخليفة· وهناك مكتبة الخلفاء الأمويين في قصر الخضراء في دمشق، وقد أخرج الخليفة عمر بن عبدالعزيز منها كتاباً في الطب استخار الله أربعين يوماً قبل أن يدفعه للناس· ومثل مكتبة الحكم بن عباد صاحب الأندلس الذي كان يرسل التجار إلى المشرق لاصطياد المؤلفات الجديدة ويرسل إليهم الأموال وقد استطاعوا أخذ نسخة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني قبل أن تذيع شهرته في المشرق وكتاب القاضي أبي بكر الأبهري (ت 375هـ) في شرحه لمختصر ابن عبدالحكم· وهكذا كان فهرس مكتبته يتألف من 44 كراسة، كلّ واحدة منها 20 ورقة، ولم يكن بها سوى أسماء الكتب· زيارة المقدسي وابن سينا ويورد المؤرخون نبذاً أخبار عن المكتبات الخاصة، ومنها أنّ المقدسي الجغرافي المعروف، دخل خزانة الكتب في دار في دار عضد الدولة البويهي بشيراز ووصفها بأنّها ''حجرة على حدة عليها وكيل وخازن ومُشرف من عدول البلد· ولم يبقَ كتاب صُنِّفَ إلى وقت عضد الدولة من أنواع العلوم إلاّ وحصله فيها· وهي أزج طويل في صفّة كبيرة فيه خزائن في كلّ وجه· وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتاً طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوّق عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر مُنضدة على الرفوف لكلّ نوع بيوت وفهرستات فيها اسأمي الكتب، ولا يدخلها إلاّ كلّ وجيه···''· وكذلك يروى أنّ الطبيب ابن سينا دخل خزانة كتب نوح بن منصور في مدينة بخارى فوصفها قائلاً: دخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كلّ بيت صناديق كتب منضدة بعضها فوق بعض· في بيت منها كتب العربية والشعر وفي آخر الفقه· وكذلك في كلّ بيت كتب علم مفرد''· المزايدة لشراء الكتب وقد روى المؤرخ المقري الأندلسيّ أنّ أحد علماء الأندلس زاود في السوق على كتاب يحتاجه حتى بلغ الحدّ، وخصمه في الشراء يزيد فيه فسأله عن حاجته إلى الكتاب، فقال: لا حاجة له بموضوع ولكن في مكتبته فراغاً بمقداره ويريد أن يكمله به، ليتجمّل بها بين أعيان البلد· وثمة العديد من المكتبات الخاصة بقدر ما كان ثمة رؤساء وكبار فلا يخلو بيت واحد منهم جملة كتب حتى إذا تضخمت جداً اشتهرت، مثلما أرسل نوح الساماني في بلاد ما وراء النهر يستدعي الصاحب بن عباد وكان من جملة ما اعتذر به أن كتبه تحمل '' 400 جَمَل''، ويقع فهرسها في عشرة مجلدات وبقي في مدينة الري· ابن خاقان··· لم يرَ أعظم منها بينما جمع القاضي أبو المطرف (ت 402هـ) قاضي الجماعة بقرطبة ما لم يجمعه أحد من أهل عصره من الكتب بالأندلس وكان له ستة ورّاقين ينسخون له دائماً· وكان متى علم بكتاب حَسن عند أحد بالغ فيه حتى يشتريه وكان لا يعير كتاباً من أصوله البتة ولكنه يسمح بنسخها وقد اجتمع أهل قرطبة عاماً كاملاً بعد وفاته لبيع ما فيها من الكتب التي بلغ ثمنها أربعين ألف دينار مكرر! وكان في مكتبة الفتح بن خاقان وزير الخليفة العباسي المتوكل على الله العباسي قيمّ عليها هو علي بن أبي منصور المُنجِّم زودها بما يزيد على خزانة حكمه واستنسخ لها الكتب الكثيرة حتى كانت حسب قول ابن النديم في ''الفهرست'' مكتبة ''لم يرَ أعظم منها كثرة وحُسناً''· مكتبة ابن منقذ الغارقة ومن المكتبات الخاصة مكتبة حُنين بن اسحق المُترجم التي كانت تتميز لا بكثرة الكتب فقط ولكن بتعدد لغاتها من اليونانية والسريانية وصل أكثرها بلاد الروم· وهناك مكتبة الأمير أسامة بن منقذ التي غرقت وهي عائدة من مصر إلى الشام وحزن عليها أكثر من حزنه على أيّ شيء ضاع من ماله معها، ونجد مكتبة البرقاني العالِم البغدادي الذي احتاج حين أراد أن ينتقل إلى ستين عدلاً وصندوقين لحمل كتبه· وقد كان المبشر بن فاتك من أعيان أمراء مصر قد جمع مكتبة ضخمة فيها علوم الأوائل، وقد أغرقت زوجته كتبها في الماء بعد وفاته غيرة منها وحزناً على زوجها الذي أضاع حياته في حُبّ الكتب! في حين جمع القفطي في مدينة حلب ما لا يُوصف من الكتب وقصد من أجلها الآفاق· واستغنى بها عن الزوجة والولد· وقد أوصى بها للناصر الأيوبي صاحب حلب وكانت تساوي مكتبته حوالى خمسين ألف دينار· كما دخل أبو يوسف القزويني بغداد (ت 488هـ) ووراءه عشرة جِمَال تحمل كتبه الأثيرة· 300 ألف درهم للكتب كانت مكتبة ابن الخشّاب الذي جمع مكتبة عظيمة رغم بُخلهِ في تصيد الكتب· وقد وقف كتبه على أهل العلم في أواخر حياته· وقد صادر ملك قشتالة من البحر سفينة تحمل الكتب إلى سلطان المغرب فهي اليوم ثروة مكتبة الاسكوريال من المخطوطات ويصادف المرء هذا النوع من الأخبار في جميع المصادر التي تتحدث مرّة عن عالم في أصفهان من الموسرين (ت 282هـ) أنفق في كتبه ثلاثمائة ألف درهم· وعن رجل آخر هو محمّد بن نصر الحاجب (ت 312هـ) الذي خلفّ كُتباً بألفيّ دينار، وعن مُصادرة حبشي بن معز الدولة عن عصيانه لأخيه فكان من جُملة ما أخذ منه خمسة عشر ألف مُجلد سوى الأجزاء وما ليس بمجلد، وعن مكتبة الوزير ابن العميد التي سرقَت كلها بما فيها فلما أبلغ أنّ خزانة كتبه سليمة سرّى عنه وأفرَ وجههُ!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©