الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيتر بروك.. بين دهشتيْن

بيتر بروك.. بين دهشتيْن
19 نوفمبر 2015 12:18

رغم أن حضور بيتر بروك، في المجال المسرحي، هو الأكثر بروزاً وقوةً على المستوى العالمي، ويعد المخرج الأفضل الذي لم يستطع المسرح الإنجليزي احتواءه وامتلاكه، فإن مساهماته السينمائية ليست أقل إثارةً للاهتمام وللجدل على حدٍّ سواء. الكثيرون لا يعرفون أن بيتر بروك أراد أن يشق طريقه الفني عبر السينما قبل المسرح. لقد رغب من البداية أن يصبح مخرجاً سينمائياً. بعد أن درس في أكسفورد، حيث حقق فيلماً قصيراً، اتجه مباشرةً إلى أستديو باينوود، وهناك عمل في مختلف الأقسام: في غرفة المونتاج، في قسم السيناريو، كما عمل كمساعد مخرج، وذلك قبل أن يتجه إلى المسرح. الذي دفعه إلى ترك السينما والتوجه إلى المسرح هو إدراكه بأنه - مع وجود مدين متحجرين وضيقي الأفق - يحتاج من سبع إلى خمس عشرة سنة لكي يتاح له بأن يكون مخرجاً سينمائياً، أما أبواب المسرح فقد كانت مفتوحة له، ومن السهل الوصول إليها ودخولها. عن هذا قال بروك: «حين أردت أن أخرج فيلماً احتجت إلى 60 ألف جنيه استرليني، ولم يرغب أحد في مساعدتي. عندما اتجهت إلى المسرح، كان يكفيني 60 جنيهاً فقط». سينمائياً، بيتر بروك مقل في الإنتاج، ففي غضون ثلاثة عقود، لم يحقق سوى عددٍ قليل من الأفلام (11 فيلماً تقريباً)، من بينها: أوبرا الشحاذين (1953، أول أفلامه)، Lord of the Flies (1963) مارا/ ساد (1967) الملك لير (1971) لقاءات مع رجال مدهشين (1979) مأساة كارمن (1983) مهاباراتا (1989). الملاحظ أن هذه الأفلام تعتمد على نصوص أدبية: شكسبير، بيتر فايس، مرجريت دورا، وليام جولدنج، جوردجيف. وبين كل فيلم وآخر سنوات يتفرّغ فيها لتجاربه المسرحية التي يحققها في مناطق مختلفة. وفي هذا الشأن يقول بروك: «دائماً أشعر أنني ممزّق بين الوسطين: المسرح والسينما.. وهذا الشيء لا يمكن حلّه أبداً». عن تجربته مع فيلم Lord of the Flies يقول في كتابه «الموضع المتحول» The Shifting Point 1987: «كل ما أردته لإنتاج هذا الفيلم مبلغاً صغيراً من المال، بلا سيناريو.. مجرد أطفال، وكاميرا، وشاطئ. أن أكون، هذه المرة، في وضع من يقرر، فقد حكمت بمنع أي شخص من الارتياب في جدوى الفيلم. هذا الفيلم كان وسيلة خلاصنا لأنه، على الرغم من الطقس السيئ والأمراض، وعدم توفر نسخ التصوير اليومية rushes، وعدم وجود أجهزة إضاءة، وانعدام أي نوع من التسهيلات، فإننا واصلنا تصوير الفيلم بعدد من الكاميرات التي تعمل في آن واحد، تاركينها تدور بينما نتحدث إلى الأطفال، ونبدأ من جديد. انتهى الأمر بتوفر 60 ساعة من العرض المتواصل، بلا انقطاع. واستغرق منا مونتاجه سنة كاملة. الكتاب عبارة عن حكاية خرافية جميلة.. جميلة جداً إلى حد أنه يمكن دحضها كحيلة من حيل الأسلوب الشعري المفروض. في الفيلم، لا أحد يقدر أن يعزو النظرات والإيماءات إلى حيل الإخراج. الإيماءات العنيفة، نظرة الجشع، ووجوه التجربة.. كلها حقيقية». في ما يتعلق بإعداده السينمائي لنص شكسبير «الملك لير» فإن عدداً من النقاد صنّفوا هذا الإعداد ضمن أفضل وأهم إنجازات السينما البريطانية. الفيلم يكشف عن تأثر بروك بالمسرح الملحمي البريشتي في رؤيته السياسية، وتقنيات الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، حيث الانتقالات المفاجئة في المونتاج وزوايا الكاميرا غير التقليدية. بهذا الفيلم أراد بروك أن يتحرى أو يختبر الحدود بين المسرحي والسينمائي. *** من أحاديث بيتر بروك، عبر حوارات متفرقة، منشورة في مجلات ومواقع مختلفة، ومن كتبه، نترجم هذه الباقة من أقواله: * فرادة شكسبير تكمن في لغته. في حين أن كل إنتاج ملزم بأن يجد مظاهره الخاصة وأشكاله الخاصة، فإن الكلمات المكتوبة لا تنتسب إلى الماضي. إنها منابع قادرة باستمرار على خلق أشكال جديدة والإقامة فيها. لا حدّ لما نستطيع أن نجده في نصوص شكسبير. * لا أظن أن المسرح وسيلة للتعبير الذاتي. المسرح، جوهرياً، حدث جماعي. الفيلم هو أكثر تعبيراً عن الرؤية الذاتية. الفكرة الفرنسية عن المخرج بوصفه مؤلفاً هي متجذرة في الفطرة السليمة البسيطة. من الواضح أن سلسلة الصور، في شكل ثابت، تأتي من مصدر واحد. لكن حتى القبول بحقيقة أن الفيلم يأتي من هدي مصدر خلاق واحد، فإنه يمكن مع ذلك أن يكون أكثر انفتاحاً. أعتقد أن أي شخص يدرك بأن كل قرار يتخذه هو انعكاس لرؤاه الخاصة ولابد أن يكون باستمرار عرضةً للتحدي وللتأثير من قِبل كل المصادر الخلاقة من حوله. * لا تستطيع أن تجلس وتسأل نفسك أي أسلوب تختار لفيلمك. * هل شاهدت فيلم بارادجانوف «لون الرمان»؟ فيلم عظيم. لكن طريقته - تلك الجمالية الشكلية والمتسقة أسلوبياً - تختلف كلياً عما أحاول أن أنجزه. * فيلمي «لقاءات مع رجال مدهشين» Meetings with Remarkable Men هو، أساساً، عبارة عن سلسلة من اللقاءات، والتي يجب، بحكم طبيعتها، أن تكون سكونية. لا جدوى من جعلها غير ذلك. حتى مشاهد الرقص في النهاية، مع أنها أكثر إثارة وحيوية، مقدّمة بطريقة سكونية. لكن، بما أني أردت أن أتجنب التوجه إلى فئة قليلة من الجمهور، فقد حاولت أن أنسج هذه المشاهد معاً مع قصة مغامرات بسيطة، وهنا أيضاً تظل الشخصيات تابعة لحركة السرد. * دائماً أسعى إلى إزالة كل اللغو الذي يلازم وجودنا اليومي. في أفلامي ليست هناك لحظة فيها يقول شخص ما: مرحباً.. كيف حالك؟.. هل كانت ليلتك ممتعة؟ في فيلم «لقاءات مع رجال مدهشين» العلاقة بين جوردجيف وأبيه، مثلاً، - مجسدة في أول لقطة تجمع الاثنين وهما يسيران معاً. أعتقد أن المتفرج سوف يحصل على كل ما يحتاج أن يعرفه. * كل ما يوجد في الفيلم هو انتقائي.. إما أن تقبل به أو ترفضه. * إن تقديم الروحانية في الفن، من المعضلات التي تثير اهتمامي دائماً. في فيلم Moderato Cantabile، مثلاً، هناك عملية الإزالة والتركيز. الفيلم الحقيقي يدور على مستوى خفي جزئياً. القصة الحقيقية تُروى من خلال إيماءة اليد أو ومضة خلف العينين. * السؤال الذي يسحرني هو: كيف تعرض ما لا يمكن أن يُرى؟ * أعتقد أن الإغواء، وبالتالي الخطر، هو في توضيح، وفقاً لمبدأ مشاهد الحلم، حركة الكاميرا الذاتية والمونتاج الذي لا يمكن إدراكه أو الإحساس به. * مع فيلم «لقاءات مع رجال مدهشين» كنا مهتمين أكثر بأشكال الإيحاء والاستحضار.. في هذا، الموسيقى تلعب دوراً أساسياً، ليس فقط للتعبير درامياً أو توكيد الفعل (الحدث) إنما أيضاً لتعزيز حركات سردية معينة. * لا تهمني الإجابة بقدر ما تهمني عملية البحث عن تلك الإجابة. * Lord of the Flies.. كعمل قصصي، الكتاب جميل وفاتن. حين صورنا الفيلم بالأسود والأبيض، وبميزانية بسيطة، أدركنا أننا نخلق عملاً أقل جمالاً، لكنه سوف يحمل بيّنة وثائقية محددة. إنك ترى الرعب على تلك الجزيرة، ترى الأولاد يتحولون إلى وحوش. كل شيء معروض أمام المتفرج. ككتاب، يظل حكاية خرافية.. أما ما يضيفه الفيلم فنجده في تلك المشاركة، بيني وبين الممثلين، في تجربة مباشرة. * إذا كان الممثلون يعملون وفقاً لدوافع صحيحة، فإنه لا يتعيّن عليك أن تعطيهم تعليمات مفصّلة. هناك نوع من الإخراج التقليدي يعمل على إعاقة الممثلين وتوجيههم في حركاتهم من أجل خلق مشهد جذاب ومرضٍ. * القول بأن شخصاً ما ممثل جيد هو تعبير تبسيطي كقولك بأن ذلك المرء شخص طيب. ما الذي يعنيه ذلك؟ الممثل الجيد هو الشخص الذي وُلد مع كتلة ضخمة من الحياة الداخلية المعقّدة، والقدرة الثرية على التعبير عن هذا من خلال أعضائه المختلفة. * الكاتب العظيم، أو الشاعر العظيم، لا يبدأ بالإيقاع. لديه كلمات، صور، ومشاعر.. مثل المؤلف الموسيقيّ. من هذا تأتي اللحظة حين تكون الكلمة والإيقاع والدفق والتفكير جزءاً من شيء واحد، ويقوم هو بتدوين ذلك. * من خلال العمل، بهدوء ويقظة، ستجد المعنى الجوهري.. أعني معنى تلك اللحظة في المسرحية، كوحدة كاملة. الوسيلة التي بها تعبّر الشخصية، في تلك اللحظة، عن شيء لا تستطيع التعبير عنه بأي وسيلة أخرى. من خلال ذلك تكتشف الشكل، الصوت، الحساسية الموسيقية، إيقاع الكلمات، صيغة الحوار، التغيرات المفاجئة في النص، الإيقاع الذي يأتي بعد المعنى الأساسي لذلك المقطع. * المصور شريك في سرد القصة من خلال الصور. إني أشعر بالخيبة إزاء قبول المصور بأن يكون مجرد رجل يصور فيلماً. * في الفن، قررت أن أحافظ على حريتي دائماً. مخرجو النوايا الحسنة بوسع المخرج أن يتعامل مع المسرحية كالفيلم السينمائي، ومن ثم فهو يستخدم كل العناصر المسرحية من ممثلين ومصممين وموسيقيين.. الخ، كأنهم خدم له، من أجل أن ينقل للعالم كله ما يريد أن يقول. في فرنسا وألمانيا تلقى هذه الطريقة تقديراً كبيراً، ويطلقون عليها «قراءة» المخرج للنص. وقد وصلت إلى اقتناع بأن هذه الطريقة ليست سوى استخدام تعس أخرق للإخراج، ومن الأشرف لمن يريد أن يحقق سيطرة كاملة على وسائطه التعبيرية أن يستخدم قلم الكاتب أو فرشاة الرسام. البديل غير المقنع لهذا المخرج هو ذلك الذي يجعل من نفسه خادماً، مجرد منسق لعمل جماعة من الممثلين، يقتصر دوره على تقديم الاقتراحات أو توجيه النقد أو التشجيع - هؤلاء المخرجون طيبون، وهم مثل سواهم من الليبراليين أصحاب النوايا الحسنة والقدرة على التسامح، لا يستطيعون أن يتجاوزوا - في أعمالهم - نقطة محددة. بيتر بروك، كتاب «النقطة المتحولة» (ص: 16)

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©