الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المشوار الطويل

المشوار الطويل
23 مارس 2009 01:06
عندما كبر الأولاد كنت متصورة بأنني سأرتاح قليلاً، وأتخفف من الشعور بالمسؤولية نحوهم، فمنذ أن توفي والدهم وأنا في حالة استنفار دائم من أجل أن أوصلهم بر الأمان، والحقيقة هي انني لم أعد أعرف أين هو ذلك البر! تلقيت الصدمة الكبرى في حياتي عندما أخبروني بأن زوجي قد رحل بعد تعرضه لحادث، لم أتحمل ذلك الوضع بسهولة، فلم يمر على زواجنا سوى خمس سنوات، فكيف أتحمل فقدانه؟ وكيف أتحمل لوحدي مسؤولية تربية أولادنا الثلاثة؟ ابني الأكبر كان في الرابعة من عمره، تليه أختاه، الكبرى في الثالثة، والبنت الأخيرة لم تكمل عامها الأول. بعد حزن طويل تقبلت الوضع، وقلت في نفسي: بعد وقت قصير سيدخل الأولاد للمدرسة عندها سأبحث عن وظيفة مناسبة تعينني على مسؤوليتهم، فقد تخرجت من الجامعة وتزوجت مباشرة دون أن أفكر بالعمل، لأن زوجي أقنعني بفكرة التفرغ لأسرتي، وقتها حمدت ربي بأن لدي شهادة جامعية، فقد رحل ولم يترك سوى راتبه التقاعدي الذي لا يكفي مع تقدم السنين والغلاء المستمر. بداية الصراع دخل الأولاد المدارس وبدأت عملي في التدريس، فتضاعفت المسؤولية بشكل كبير، فعملي كان شاقاً ومرهقاً، وهو يستهلك جزءاً كبيراً من قوتي وأعصابي وطاقتي، وما أن ينتهي الدوام حتى أعود لمنزلي وأنا مليئة بالتعب والاجهاد، أتصارع مع الوقت كي أصل مسرعة قبل عودة الأولاد، فأبدأ بتجهيز الطعام لهم، فأطبخ عدة أنواع لأرضي الجميع، فكل واحد منهم كان يفضل نوعاً معيناً من الطعام، وهذا بالطبع لا تستطيعه الخادمة مهما بلغت من شطارة، بعد أن يعود الأولاد ويتناولوا طعامهم، تبدأ المرحلة الأصعب، وهي تدريسهم، محاولة جعلهم متفوقين كانت تأخذ مني جهداً غير اعتيادي، والكل معتمد علي لا يفكرون بالاعتماد على أنفسهم في تحضير الواجبات، وكل واحد منهم يريد أن يكسب انتباهي واهتمامي له وحده. ما أن تنتهي تلك العملية المهلكة حتى أسرع لخارج البيت كي أحضر متطلباتهم التي لا تنتهي، ورغباتهم في الذهاب إلى أماكن اللعب، وتناول الوجبات في المطاعم، فينتهي اليوم مع الحمام اليومي والذهاب إلى النوم، فأصل إلى فراشي وأنا منتهية تماماً. أيام صعبة وشاقة مرت علي، ولكنني اجتزتها ولله الحمد، وكنت أقول لنفسي: ما هي إلا فترة بسيطة حتى يكبر الأولاد فيصلوا إلى الثانوية فتقل مسؤوليتي في تدريسهم ومتابعتهم، ولكن ما حدث هو إنهم عندما وصلوا إلى مرحلة المراهقة، بدأت أعيش معهم معاناة من نوع آخر، وهي تقلبات أمزجتهم، وصداماتهم مع بعضهم البعض، الولد يريد أن يتحكم بأخواته، وقد قرر أن يأخذ دور الرجل المتسلط في البيت، وهو يختلق المشاكل مع أخواته، وعندما حاولت أن أمنعه صار عصبياً ومعانداً، ثم اكتشفت بأنه يحاول التدخين، وأنه يصادق بعض الأولاد السيئين، وقد ترك صلاته، ثم دخل مرحلة العزلة وعدم الرغبة بالذهاب إلى المدرسة لأن أحد الأولاد عايره بأنه تربية حريم، لأن والده متوفى. أما البنت الكبرى صارت عصبية وتثور لأتفه الأسباب، تعيش معاناة غريبة وهي تعبر عن تعاستها بشكل دائم بلا سبب محدد، وقد تعرفت على فتاة من المتشددات فملئت رأسها بأفكار مخيفة، وأوهمتها بأن جميع الناس من الكفار المذنبين، وأن الجميع سيدخل جهنم بسبب مشاهدة التلفاز وعدم تغطية الوجه، وعدم التفرغ للعبادة طوال الليل والاستغفار لله تعالى، كما أقنعتها بأن خروج المرأة من المنزل حرام، لذلك قررت عدم إكمال دراستها. أما البنت الثالثة، فكانت تهيم في واد مختلف تماماً، صادقت فتاة منفتحة بلا قيود، وقد حاولت جرها إلى عالم العلاقات مع الشباب، فلم تستطع التأثير عليها بشكل كامل، ولكنها تأثرت بها وصارت تبحث عن الحب بأي شكل، حتى لو بالخيال، فأحبت أحد المطربين وقد فكرت بالانتحار عندما علمت بزواجه. هكذا وجدت نفسي مع ثلاثة من الفاشلين، كل منهم يرفض الدراسة ويرفض الاستمرار في الحياة، وقد أعانني ربي على تخطي كل تلك الصعاب حتى عاد الجميع إلى عقولهم وإلى مدارسهم وإلى حياتهم الطبيعية. المراحل الصعبة كنت أفكر بداخلي بأن مرحلة المراهقة هي من أصعب المراحل التي يمر بها الأولاد، وأنهم إذا ما انتقلوا إلى المرحلة الجامعية فأن المشاكل ستنتهي، حيث تتسع أدمغتهم مع تطورهم في دراستهم ولكن للأسف فأن مشاكل جديدة ومعاناة مختلفة برزت في حياتهم من جديد.الولد صار يفكر بشراء سيارة، ولكن ما نوع تلك السيارة؟ إنها بسعر لا يمكن تخيله، بصعوبة بالغة كنت أقنعه بأن وضعنا المادي لا يسمح بتلك الفكرة، وأنه يستطيع شراء تلك السيارة بعد أن يتخرج ويتوظف، اقتنع بالسيارة العادية بصعوبة، وقد تحملت تكاليف تزويدها وتحويلها إلى سيارة غريبة وعجيبة كي تلفت انتباه البنات إلى سائقها، هذا كله بالإضافة إلى مصروفه الكبير، لأنه يخرج مع الشباب باستمرار ويذهب إلى المطاعم والمقاهي ولا يريد أن يظهر أمامهم بمظهر البخيل، هذا بالإضافة إلى رغبته المستمرة في تفصيل «الكنادير» المرتفعة الثمن، و»النعال» الغالي، والنظارة الماركة. أما البنات فلم أسلم من طلباتهن، حيث صرن يطالبن بشراء الحقائب من الماركات العالمية التي تكسر الظهر، والعباءات الغريبة والعجيبة من محال معروفة بزيادة خيالية للأسعار. عشت معاناة لا يعلمها إلا الله وأنا أحاول تسيير الأمور المادية حتى لا يشعروا بأنهم أقل من غيرهم حتى انتهت الأمور على خير وبدأوا بالتخرج والعمل واحداً تلو الآخر. بعد أن انتهت تلك المرحلة قلت لنفسي: انتهت المعاناة ولله الحمد وقد أصبح لكل واحد منهم مصدر دخل يساعده في الاعتماد على نفسه، ولكن في الحقيقة فأن المشاكل لم تنته كما توقعت. الولد يفكر بالزواج، وهو وضع منطقي بعد أن تخرج وأصبح لديه راتب، وقد أعجبته إحدى زميلات العمل، فطلب مني أن أخطبها له. كنت فرحة وسعيدة بقراره كأي أم تريد أن تفرح بولدها البكر، وتتمنى أن يكون لها أحفاد، ولكن عندما ذهبنا لخطبة البنت، إنهالت علينا قوائم الطلبات، فكانت التكاليف غير منطقية أبداً، وكان علي أن أتصرف، فطلبت قرضاً بنكياً كبيراً ولكنه لا يكفي، فساعدتني أختاه باقتراضهن مبالغ أخرى، بالإضافة للقرض الذي أخذه الولد، اسمحوا لي أن أقول إنها مأساة حقيقية، لأن مبلغ النصف مليون مع فوائدها هي كارثة حقيقية، وقعت على رؤوسنا من أجل أن يتزوج شخص واحد فقط.قلت في نفسي: الحمدلله لدي ولد واحد، وبزواجه تنتهي الأزمة، ولكني كنت مخطئة في تقديري كالعادة، فبعد أن تزوج الولد بفترة بسيطة، أرغمته زوجته على الاستقلال في شقة لوحدهما، مما ترتب عليه مصاريف إضافية زادت من أعبائنا المادية، عموماً.. فهو في النهاية قرار صحيح ليستقلا بحياتهما ولا نكون جزءاً من مشاكل حياتهما الزوجية. بعد زواج أبني صارت لدي قناعة بأن من تزوج ولداً فهي التي تتحمل العبء الأكبر ومن تزوج بنتاً فهي المسيطرة والمستريحة، ولكني لم أقدر نوع المشاكل التي سأواجهها عملياً عندما يأتي دور تزويج البنات. صعوبات من نوع آخر خطبت ابنتي الكبرى، فبدأنا مشواراً جديداً في حياتنا، وبدأت أعيش مشاكل من نوع آخر، فالبنت تطلب أشياء معينة، وأهل خطيبها لا يحرصون على إرضائها ويتصرفون على مزاجهم، لذلك فإن كل دقيقة كانت تمر، كنت أشعر بأن هذه الخطبة ستفشل، وأن ابنتي ستتحمل لقب مطلقة وهي في بداية حياتها. لم أصدق كيف انتهت الأمور على خير، فتزوجت البنت وذهبت لتعيش مع زوجها في سكن مستقل كما طلبنا، وعلى الرغم من اعتراضات أهله. أما بالنسبة للبنت الثالثة، فقد كانت ترفض الزواج بشكل تقليدي، حيث تكلف الأم باختيار العروس لولدها، وكانت تنتظر أن يراها الشاب فتعجبه ويتقدم لخطبتها، وهو مقتنع تماماً بها. خفت أن تصل ابنتي إلى مرحلة العنوسة دون أن يظهر فارس الأحلام، لأنها كانت تمر بحالات من الكآبة والانغلاق، كلما سمعت بزواج إحدى صديقاتها، لذلك قررت أن أتصرف بنفسي لحل مشكلتها. إحدى زميلاتي في العمل حدثتني عن رغبتها باختيار ابنتي زوجة لولدها، ولأنني أعرف موقف ابنتي من الزواج عن طريق اختيار الأم، اتفقت مع زميلتي بأن ترسل ولدها لمقر عمل ابنتي كي يراها، فإن أعجبته، فليعبر عن إعجابه بها بأي شكل، ليلفت انتباهها له، دون أن، يشعرها بأنه يتصرف بتخطيط مسبق منا أنا ووالدته، وقد نجحت الخطة وتم الزواج، فحمدت ربي لأن المشكلة قد انتهت على خير. بعد أن تزوج الأولاد وأصبح لكل منهم حياته المستقلة، تصورت بأن مسؤوليتي قد انتهت، وأنني سأتفرغ لنفسي حيث استطيع الذهاب مع صديقاتي إلى مكة المكرمة، والسفر إلى أماكن كثيرة، والتمتع بأمور قد حرمت نفسي منها من أجلهم، ولكن قبل أن أنفذ خطتي، عادت المشاكل من جديد ولكن بشكل آخر. بداية جديدة جاء ابني يحمل حقيبة، فأخبرني بأن زوجته تركت البيت وعادت لمنزل أهلها مع ولديها، وإنه قد قرر أن يطلقها، أخبرني بأنه عجز عن التعايش معها طوال زواجهما الذي دام أربع سنوات وأثمر عن طفلين رائعين. لم أكن أعلم بأن في حياتهما خلافات، كانا يزورانني دائماً فتبدو عليهما السعادة، وأنا لا أحب التدخل أو التجسس على حياتهما، ولكن عندما تصل الأمور إلى الطلاق، فهذا أمر يحتاج للتدخل. سألت ابني عن مشكلته مع زوجته فانفجر قائلاً: إنها طويلة اللسان، دائمة الشجار، دائمة الانتقاد لي، لأنني أعجز عن تلبية طلباتها التي لا تنتهي، تقارن بيني وبين زوج فلانة وعلانة، وكلهم من الأغنياء، وأنا موظف، وهي تعلم ذلك جيداً، لم أعد أطيقها وأريد الخلاص منها بأي شكل، لقد كرهتها، وكرهت البيت، صرت أقضي معظم وقتي مع الأصدقاء، ولكني لم أسلم من ملاحقتها لي باتصالات لا تنتهي، لقد أخطأت الاختيار وأريد أن أطلقها لارتاح. لم يمض على مشكلة ابني سوى أيام قليلة حتى عادت ابنتي الثانية مع طفلتها إلى البيت وهي تبكي، ثم بعد أن هدأت بدأت تحكي عن مشكلتها وهي تقول: تعبت يا أمي من محاولتي إرضائه، إنه ينتقدني باستمرار ويبحث عن أي نقطة ضعف أو تقصير، وهو يسمعني كلاماً جارحاً باستمرار، يحط من شأني ويكسر كرامتي. يا أمي أرجوك لا أريد الاستمرار في العيش معه، أرجوك خلصيني منه. أما البنت الثالثة، فقد عادت من شهر العسل وهي غاضبة لأنها علمت بالخطة التي دبرناها لزواجها. ضاقت بي الأرض بما رحبت، فأغلقت باب غرفتي علي، لا أريد أن أتحدث مع أحد منهم، أتعبوني بمسؤولياتهم ولم يفكروا بي في يوم من الأيام. رفضت الخروج ورفضت تناول الطعام على الرغم من توسلاتهم وبكائهم، لم أخرج حتى وعدوني بأنهم سيحلون مشاكلهم ويتفاهمون مع أزواجهم لحل تلك الخلافات، فلم أخرج حتى ذهب ابني وتصالح مع زوجته وأحضرها معه وكذلك فعلت أختاه، فخرجت من غرفتي لأجدهم مجتمعين كلهم وهم في حالة جيدة من التصالح والود. أعتقد بأن المشاكل لن تنتهي مهما فعلت، ولكني تخلصت من اعتمادهم الكامل علي لأنني بحاجة حقيقية للاهتمام بنفسي بعد هذا المشوار الطويل
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©