الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«سرّ الليل»

«سرّ الليل»
10 نوفمبر 2012
كنت «جوالاً» في الحركة الكشفية ذات قرن، كنا نقيم المعسكرات الصغيرة في المناطق النائية، وعلى عادة الكشافة، كنا نتناوب في الليل على حراسة المعسكر خوفاً من عبث الكشافة الآخرين أو اللصوص، لذلك كنا في كل ليلة نبتكر كلمة ذات مواصفات خاصة نسميها «سر الليل»، وكان على كل من نراه يتجول في المعسكر أو ينوي الدخول إليه، أن يجيبنا حينما نسأله عن سر الليل، وإلا فإننا نعلن بالصافرة بأن هناك غرباء. وعلى ما أذكر فإننا كنا نصنّف المناطق بواسطة الدوائر المرسومة على الأرض، متداخلة أم متقاربة وحسب العدد، كنا نعتبر هذه المنطقة صديقة وتلك معادية. كنا نشكل الدوائر على الأرض بواسطة الحجارة الصغيرة، وكانت دوائرنا أقرب إلى الأشكال الفوضوية أو المربعات والمخمّسات منها إلى الدوائر، لكننا كنا نقبل بها على سبيل اللعب. في الواقع كان الأمر مجرد ألعاب، نصدقها ونتعامل معها بجدية، حتى أن الشجارات كانت تحصل بين الأصدقاء إذا رفض الصديق أن يبوح للحارس بسر الليل إذا سأله، لأنه كان يفترض أنهما أصدقاء ويعرفان بعضهما تماما، ووضعا سر الليل معا، لكن الحارس غالبا ما كان يتقمص الدور، ويركب رأسه، ويصرّ على سماع سر الليل منه. وكانت المشاكل تحصل إذا كان الصديق قد نسي سر الليل فعلا، فهي مجرد كلمات في كلمات. ذات معسكر كشفي، انتدبني القاطنون بخيمتنا أن أسرق لهم من خيمة التموين في المعسكر شيئا لنأكله خلال الليل، زحفت حتى الخيمة المرصودة ومددت يدي بحثا عن تفاح أو الطماطم أو جبنة المثلثات أو علب السردين أو ما شابهها، لكن يدي العمياء في الداخل ألقت القبض على رقبة إحدى الدجاجات الحية التي أحضرناها معنا للغداء- فلم نكن نملك ثلاجات في البرية-، كاكت الدجاجة بكل ما تبقى لها من صوت، فحضر الحارس، طلب مني فورا «سر الليل» فنطقته له، فارتاح، ودخل إلى الخيمة وأسكت الدجاجة، وساعدنا على تنفيذ السرقة البريئة. مجرد كلمات نسميها سر الليل، لكنها كانت تحمينا من أعداء وهميين، أو من عابثين حقيقيين، وكانت تمنحنا إحساسا جمعيا ومجتمعا موحدا ليوم واحد أو لعدة أيام على الأكثر، تكفينا زادا وزوّادة للتذكر والتفاخر والمبالغة والتخيل لعدة أشهر وربما لسنوات. ودعنا المرحلة الكشفية بقضها وقضيضها، وانتقلنا إلى الجامعات، حيث شروط البقاء مختلفة، ثم انتقلنا إلى المرحلة العملية، عندما ابتلعنا سوق العمل أو سوق البطالة أو التبطل حسب الظروف المحيطة بكل واحد منا، أدركنا قيمة النعمة التي كنا نحياها، ونحن نعيش تحت حماية سر الليل الكشفي. انتقلنا إلى الحياة العملية، حيث لا أحد يلعب ولا يعبث ولا يتسلى، والكل يتربص بالكل ويحاول أن يحل مكانه أو يتجاوزه، بلا حراسة ولا سر ليل ولا دوائر متداخلة أو متقاربة، ولا منارة ولا فنار صغير يضئ الطريق. في الحياة الكشفية كانت أحلامنا محدودة، أغلبها لعب، وبعضها محاولات عفوية لصناعة الذات وتحضيرها– للمراحل العملية - بشكل غريزي. وما كانت الحراسة وسر الليل والدوائر الوهمية، وربما سرقة الطعام أيضا.... إلا بروفة مبكرة لما كان ينتظرنا على بعد سنوات قليلة من المرحلة الكشفية. عشنا و»شفنا»، كما يقولون ... وسمعنا ورأينا وأحسسنا ولمسنا وشممنا كما لم يقولوا لنا. أيتها الحياة .. كم أنت جميلة. يوسف غيشان ghishan@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©