الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قرية الدهشة والحزن

قرية الدهشة والحزن
23 نوفمبر 2011 21:12
الشعر من إحدى زواياه هو أن نكتب حكاياتنا الخاصة كما لو أنها تعني الآخرين، أو أن نحكي عن الآخرين، كما لو أنها حكايتنا الخاصة هذا مايقوله الروائي التركي أورهان باموق في إحدى كتاباته، ولعل هذه القيمة في الكتابة الأدبية تنطبق على فنون كثيرة، ما الشعر إلا واحد منها وفي صميمها. وبنظرة سريعة على المجموعة الشعرية الجديدة للشاعرة هبة عصام “أن تأكلنا الوردة” ـ التي صدرت مؤخرا عن دار شرقيات للنشر ـ سنلاحظ التصاق الشاعرة بعوالم قريبة وفي المتناول تحمل كاميرتها المزودة بلغة حديثة وتمضي بها لتعكس مرآة على اليومي والمعاش وصورة لمحيطاتها، إذ الشعر لديها هو هذا الاقتراب الجمالي الواقعي من الأشياء الذي يقارب ويمعن في تتبع حالة القصيدة. وهي تكتب قصيدتها الجديدة، بعد ديوانها الأول، بأدوات خاصة ورؤية متسعة دون أن تكون هناك موضوعية تسير مآل القصيدة ولا أطر تكبل فكرتها، فهي تعتني فقط بكون تلك القصيدة تحمل فكرة ما، ورؤية مغايرة، بعيدة عن استعراض البلاغي والعبارة الشعرية الخام والمستقرة في الأذهان، بل الصورة هي تلك التي تمضي بنا طيلة النص في انسجام ودهشة، تتكئ على أدوات السرد كصيغة أخرى يمكن من خلالها أن تقترب القصيدة من وقعها، وتتكئ على الهامش كلغة بديلة يمكن أن تصنع شعورا خاصا بالأشياء. لذا جاءت المجموعة مليئة بلغة إنسان اليوم في همومه وفي استعمالاته الإلكترونية وحياته الجديدة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في جيل جديد للكتابة الشعرية الحديثة يؤمن على اختلاف مستوياته بالكتابة من شاشة الواقع ليلتمس ويلتقط واقعه الجديد عن كثب. “أن تأكلنا الوردة” عنوان هذه المجموعة جاء ليعبر عن هذه القصائد، تناقض الحياة وإنسانها المتوزع في جنبات النصوص، وتلك المفارقات التي تلوح مع كل عبارة تصدمك أحيانا وتدهشك في أخرى، بل وتتوقف كي تكرر قراءتها من جديد. نص يستوعب الحياة كما لو أنها قصيدة تقرأ في حالات عديدة وكما لو أنها تعني كل قارئ تماما. سنقرأ في نصوص المتوحد، بلياتشو، زائرة الليل، عم جرجس، مقهى الفيس بوك، وغيرها هذه الحياة التي تنقلنا لها هبة عصام بسلاسة وبساطة وهما ما يشكلان دهشة مجموعتها، بهذه اللغة القريبة من الواقع والحس الإنساني: “كان منغمسا في الترانيم/ حين تناثر بغتة.. دم وغبار/ شيء من الرجل الآن على الحوائط..!/ لم يعد يفتح دكانه/ لكن الأطفال ما زالوا يمرون...”. وبهذا العمق الأسطوري المتصل إلى الراهن: “لا شفيع سوى ما حفظتَ من تعويذتك الآشورية/ ونبوءتي معلقة فوق برج القاهرة”، وفي قصيدة أخرى حيث الحس الجديد لإنسان اليوم: “بصمت يدخل رأس العصفور يرقب أخيلة الطيران يحكم النوافذ بأزرار الكيبورد، ما كان رحباً لم يعد.. حتى الحروف التي تطنطن الآن يتبعها شاويش إلكتروني” والمستقبل الذي يشع في صوت الشاعرة وهي تتكهن: “البكاءُ ليس سهلاً، وليس سهلاً أن تُنتزع أقنعةَ الضحك دون بكاء... لا موسيقى لكنني سأرقص غدا”. “أن تأكلنا الوردة” مجموعة تشير أيضا إلى جهد الشاعرة وهذا الوقت المبذول لكتابة قصيدة مختلفة ومغايرة ومسؤولة عن كتابة ما هو فن، أعني اشتغالها الطويل على قصيدتها ومن ثمَّ تقديمها كصياغة نهائية لما يمكن أن يقال حيث لا زوائد يمكن ملاحظتها في قراءة القصيدة، ولا فائض يمكن أن يثقل كاهل النص بكلمات عائمة، حتى لو افترضنا أن عنوان المجموعة مبهم بالنسبة لمن يقرأون الشعر كعبارة مباشرة وتحيلنا بالتالي إلى الموضوعي، يمكن أن نجد أكثر من دلالة تشير إليه.. ليس دلالة تشير إلى العنوان في مضامين النصوص بل إلى الاشتغال الفني القائم على بعثرة جمالية لما يلتصق بمفاهيم المتلقي عن الشعر. إذن ليست العبارة سريالية محضة في زمن تعبر عنه الشاعرة بالجمل والعبارات الإلكترونية والتقنية كأداة حياة، وليست فانتازية ونحن نعيد الكتابة على ما يسمى الحائط في مواقع الإنترنت مثلا، ولنقرأ: “... كنت أتجاهلها باحثةً عن وجه توم هانكس أو ميج رايان/ أدير رأسي عن زائرة الليل الدؤوبة/ وأدفنه كنعامة بين التليفزيون والنت”. إنه العنوان القائم على انزياح اللغة لصالح بقائها في الدهشة، كل شيء قابل لأن يؤسس له الشعر وجودا جديدا، ومن ثم قدرته على التنفس بيننا وعلى أن يبقى حيويا وفاعلا، وليس التأويل فقط الذي يمنحنا هذا الشعور بل تماس الشعر مع الواقع واكتراثه للفن كقيمة أولى، ومن ثم يمكنه أن يدخل إلى عوالم أخرى حتى لو كانت اجتماعية أو سياسية أو غيرها مما قد يشير إليه الفن ويمرره بعيداً عن التقريري والخبري الذي يورط الشعر في الكثير من المتاعب، ويسجل نسيانا سريع المدى ويجعله متوقعا ومستقرا وهذا ما لن نجده في “أن تأكلنا الوردة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©