الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تكريم.. بعد فوات الأوان

تكريم.. بعد فوات الأوان
23 نوفمبر 2011 21:13
بقي تكريم المبدعين من شعراء وروائيين أو غيرهم في مجالات الفكر والفن والثقافة، ظاهرة تتعاهدها المؤسسات الثقافية والجهات المهتمة في لفتة تكريمية نبيلة ومضيئة يستحقها المبدع على نتاجه وإبداعه وما حققه طيلة مشواره الإبداعي، هذا المبدع الذي يسعد بمثل هذه البادرة وهذا التوجه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يطالب بتكريمه أو يطالب بوقت محدد لإقامة هذا التكريم في أي صرح من صروح الثقافة والإبداع، ليس لأن هذا الفعل هو دور المثقفين المجايلين أو المؤسسة الثقافية أو غيرهم، بل لأن التكريم هو لفتة استحقاق وهو لا يستطيع أن يملي هذا الشعور على وسطه أو مجتمعه الثقافي، لكن هذه الظاهرة ـ تكريم المبدعين ـ والتي أخذت خلال العقد الماضي تزدهر اكثر، ونصبح على موعد في كل مرة مع أديب أو شاعر أو فنان تكرمه جهة ما، بأشكال مختلفة او مبتكرة أو حتى تقليدية، لاقت استحسانا من الأوساط الثقافية بعدما شعر الكثير بأن هناك من يستحق ولم يكرم، وأن هناك من يستحق ولكن كرم بعد فوات الأوان على حد تعبير الإيرلندي جورج برنار دشو حينما دعي إلى تكريمه فقال: “إن هذا يشبه أن ترمي طوق النجاة لرجل غرق أساساً”. متى ينبغي إذن أن يكرم المبدع؟ ونحن نرى الكثيرين من المبدعين لم يكرموا أو لم يعرفوا جيدا إلا بعد رحيلهم في مشهد أشبه ما يكون بالحزين وليس بالمفرح إطلاقا، وهل سيظل الآخر الغربي هو الصورة المكتملة فقط في مثل هذه الظواهر التكريمية؟ يقول القاص السعودي طاهر الزارعي: لا أنكر أن العقلية العربية تحتاج إلى تذهين فيما يخص هذه الظاهرة (ظاهرة تكريم المبدع) والسؤال الذي يمكن أن يتموضع في كل ورقة: لم يتم تكريم المبدع بعد وفاته، وليس في حياته؟ ثمة تجاهل ينمو مع الذهنية العربية المناطة بالتكريم للرموز الثقافية والأدبية، هذا التجاهل سببه السلوك الثقافي الذي جبلت عليه المؤسسات الثقافية والتجاهل بأحقية المبدع في نيل ذاته وإبرازها للبقية. إلى حد ما أنا لا أعارض فكرة تكريم المبدعين بعد رحيلهم، ولكن أؤكد أن مثل هذا السلوك يخل بعملية التوازن في حقلنا الأدبي والثقافي، ويجب ممارسة ظاهرة التكريم على جميع النخب التي تستحق ذلك، وأذكر قبل أيام أن الشاعر العربي (أدونيس) قد تم تكريمه في فرانكفورت، حيث منح جائزة (غوتة) باعتباره الشاعر العربي الأكثر أهمية في جيله. وهنا يأتي دور مؤسساتنا الثقافية في أن يكون لها نسق خاص يتم من خلاله تكريم المبدعين والذين أثروا الساحة الفكرية والثقافية بنتاجهم. ظاهرة مؤرِّقة ويرى الشاعر السعودي عبدالله بيلا أنه في وسطنا الثقافي العربي تظل ظاهرة تكريم المبدعين في مرحلةٍ متأخرة جداً من حياتهم، أو بعد نضوب أرواحهم في حالاتٍ كثيرة، تظل هذه الظاهرة مؤرِّقةً للمبدعِ ومنغصَّةً لسيرورة مشروعه الإبداعي، ولا يكاد يسلم من هذا الأرقِ والتنغيص إلاّ المبدعون الأحرار المتجاوبون مع واقعهم، والأوفياءُ لإبداعاتهم وفنونهم بغضِّ النظر عن الظروف والإحباطات المحيطة بهم. ولكنَّ المبدع يظل متشوِّقاً في الأغلب إلى لحظات التكريم والاحتفاء به، وكلّما كانت هذه اللحظات في مرحلةٍ مبكّرة من مسيرة إبداعه، كان للتكريم صداه الأبعد ووقعه المؤثِّر في نفسية المبدع، وفي إبداعاته اللاحقة لفترة تكريمه. وبتأمُّل هذه الظاهرة على مستوى الخليج العربي والسعودية بوجهٍ خاص نجد أنّ تكريم المبدع على المستويين الرسمي والخاص لا يتمُّ إلاّ بعد وفاته في الأغلب، بل إنّ الأجيال الناشئة لا تكاد تتعرفُ إلى مبدعيها إلاّ حين تسمع نعياً لهم في وسائل الإعلام، مقروناً بسيرةٍ ذاتيةٍ مختصرة. وقد حدث هذا للكثير من المفكرين والشعراء والأدباء الأوائل، الذين ودعوا الدنيا من دون أدنى ضجيج بعد أن تجاهلتهم الحياة، فلم يجدوا غير العزلةِ ملجئاً وأنيسا. ولكنّهم حظوا بالتكريم ولم يحظوا بلحظةِ الانتشاء به، وحالة الرائد المبدع يعقوب إسحاق الذي يفكّر الآن في الانتحار لتدهور أوضاعه النفسية والمادية أوضح دليل على ما يعانيه المبدع من تجاهلٍ تام حال حياته، بعكس ما يصاحب وداعه من ضجيجٍ وصخب، وقد يصل صدى صوت يعقوب ولكن متأخراً جداً. بينما يتمُ تكريم بعض المبدعين في اللحظات الأخيرة من مشوارهم الإبداعي وبعد أن جفّت منابع الخلقِ لديهم، ولم يستطع الكثيرُ منهم حضور حفلات تكريمهم بسبب الكبر وأوضاعهم الصحية الحرجة. ويرى عبدالله بيلا أنّ الوسط الثقافي سيتعافى من هذه الظاهرة ما لم يحدث رقيٌّ في الحس المجتمعي بشكلٍ عام تجاه المبدع والمثقف، بحيث يصبح المبدع في العقل الجمعي فاعلاً ومؤثراً وذا قيمةٍ تعادل قيمة الرياضي والفنان والسياسي، مع اقتران ذلك الوعي بنهوضِ مؤسسات الدولة المعنية والمنتديات والأندية الخاصة بإبراز قيمة المبدع، وتكريمه انطلاقاً من دوره في تنوير وتثقيف المجتمع، وأن يكون التكريم في مرحلةٍ مبكرة تسمح للمبدع بضخِّ طاقاتٍ إبداعيةٍ هائلة في فضائه الذي ينتمي إليه. وتتفق الروائية السعودية فاطمة فهد في هذه الرؤية حيث تقول: تستفزني ظاهرة التكريم بعد فوات الأوان لأنها تشعرني بحجم الإحباط للمبدع الحي بعد غياب سابقه ولأنه لا شيء يضاهي إنصاف حروف افترشت السطور وعانقت الأرواح إحساسا أو فكراً، أن يكون هناك احتفاء بإنجازات لمبدع ودع الحياة أو كهلت به أمور كثيرة وبقي إبداعه أرث لا يورث فلا قيمة لأي احتفال ومن المحبط أن نستوعب الإبداع متأخرا، فالمبدع يحتاج منذ البداية دعم واحتواء لعله في يوم قد يصنع شيئا أنتظره الجميع. المثقف والنجوم الدكتور حمزة رستناوي طرح الموضوع من أكثر من زاوية فهو يقول: إذا كان الزمن مفهوم نسبي، فإنّنا نلاحظ أن الزمن الثقافي هو بطبيعته بطيء بالمقارنة مع الزمن السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي والفنّي، ونجد تعبيرات ذلك في أن الكثير من عمالقة الأدب والفكر والثقافة عُرفوا واشتهروا متأخّرين وأحيانا بعد عقود لا بل قرون من وفاتهم. بينما لا نجد سياسياً أو رجل إعمال أو مطرباً أو ممثّلاً الخ.. لا يشتهر في أوج عطائه أو عقب وفاته بزمن طويل. ويضيف: إن النتاج الإبداعي والفكري المهم يقترن كذلك بالخلود، على النقيض مثلا من الشركات التجارية أو الأحزاب السياسية، إنّ هذا الخلود يدفع الكاتب ثمنه، فهو يُحرق نفسه كشمعة لقاء ضوء إبداعه المرشّح للخلود ولو إلى حين. كما أن هناك نمط الحياة المتسارع القائم على الاستهلاك والميديا يجرف الناس عادة بعيدا عن الحقل الثقافي الخاص. لنقارن بين مسلسل درامي ناجح كم مشاهد يتابعه ويحفظ اسم ممثليه ومخرجه الخ.. الإجابة ربّما عشرات الملايين بينما مهما كانت القصيدة أو القصة القصيرة أو الرواية أو الكتاب النقدي مهماً ومعروفاً كم سيقرأ ويتابع؟ ويتابع رستناوي: من يبحث عن الشهرة والمردود السريع والنجاح الشخصي لا أظنّه يكون أديباً أو مثقّفاً في هذا الزمن؟ ثمّة طرق أخرى أسرع وأكثر مردوداً: إعلامي، رجل أعمال، ممثّل، سياسي الخ.. ويقول: سأضرب مثال لا أقصد به الانتقاص من قيمة أحد، ولكن فقط للتوضيح: زاهي وهبي (الشاعر) تعرّف عليه جمهور الشعر العربي عبر بوابة زاهي وهبي الإعلامي ومقدّم برنامج “خلّيك بالبيت” وليس لعوامل تتعلّق بنصوصه الشعريّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©