الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

باخ.. زبدة الموسيقى

باخ.. زبدة الموسيقى
23 نوفمبر 2011 21:20
مثل ما هو الحال مع موزارت وبيتهوفن، فما ان يذكر اسم آخر هو باخ، الذي وصل بمؤلفات عصر الباروك الى قمتها الأعلى على الإطلاق، الا وتذكر الموسيقى الكلاسيكية أو مفهومنا لها على الأقل. ومن مفارقات الأزمان أن هذا العملاق الموسيقي الألماني، الذي ألف قرابة ألف عمل في سائر ضروب الموسيقى الكلاسيكية (عدا الأوبرا) تعتبر اليوم زبدة الموسيٍقى في عصره، لم يذكره أحد وقتها إلا كعازف ماهر للأورغن. فقد ظل مؤلفا مغمورا، ليس في حياته وحسب وإنما بعد انقضاء مائة عام على وفاته، فصار بذلك تجسيدا حقيقيا لمقولة العبقري الذي ولد قبل زمانه. يشمل إنتاجه الضخم هذا مؤلفات للأورغن والكمان والكلافيكورد والهاربسيكورد (هذان الأخيران هما البيانو في شكلين سابقين) وأوركسترا الصالونات إضافة الى العديد من الأغاني. ومع انه كتب تلك الأعمال الهائلة العدد، فلم يستطع نشر الا نحو عشرة منها. وحتى بعض هذه اضطر لدفع ثمن نشرها من جيبه. وثمة شبه إجماع وسط المؤرخين الموسيقيين على أن السبب في عدم رواج أعماله طيلة ذلك الزمن هو تشعب تراكيبها وصعوبتها التقنية. وشيء كهذا يستدعي مهارة عالية فعلا في قراءة النوطة ومثلها في العزف وهو ما لم يتوفر كثيرا بسبب وجود أعمال لمؤلفين آخرين أكثر سهولة في كل من الحالين. ويضيف هؤلاء المؤرخون سببا آخر هو تقيده بأصول موسيقى الباروك وقوالبها التي بدأت تفقد صلابتها في وجه الزحف المقبل من الأنماط الجديدة من الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك صُنّف في خانة المحافظين. بين الدراسة والموسيقى ولد يوهان سيباستيان باخ في 21 مارس (اذار) 1685 في آيزناخ، المدينة الصغيرة في إقليم تورينجين بألمانيا، في عائلة انجبت أكثر من 50 مؤلفا موسيقيا مرموقا على مدى سبعة أجيال. ولهذا فقد ولد والموسيقى تجري في عروقه كما يقال. ولهذا ايضا فاز بمنحة في الموسيقى الكورالية الى إحدى أرقى المدارس وهي سنت مايكل الراقية في لونبيرج القريبة من هامبورج عاصمة الامبراطورية الرومانية المقدسة وقتها. وفيها وجد نافذة عريضة الى مختلف الثقافات الأوروبية ما كان ليجدها إذا ظل في مدينته الأصلية. ويرجح انه تلقى في هذه المدرسة ـ إضافة الى علومه الموسيقية ـ دروسا في اللاهوت والتاريخ والجغرافيا والفيزياء مع اللغات اللاتينية والفرنسية والإيطالية. ذلك ان المدرسة كانت شبه مخصصة لتعليم أبناء النبلاء وعلية القوم بغرض إعدادهم لوظائف رفيعة المستوى في الحكومة والسلك الدبلوماسي وإدارة الجيش. لكن كل هذا لم يلحقه بأي من تلك الوظائف، إذ وهب قلبه للموسيقى ولا شيء غيرها. وخلال حياته، التي يحتفى بها اليوم، كأحد أعظم التركات الموسيقية في التاريخ، اشتغل باخ بصنع الآلات الموسيقية وبيعها ووزن أوتارها على اختلاف أنواعها وبيع كتب الموسيقى والعزف على الأورجن إضافة الى عمله في عدد من بلاطات النبلاء عازفا أو مديرا موسيقيا. لكنه لم يصل أبدا الى صف النجوم عندما يتعلق الأمر بنشر الأعمال الموسيقية (كان هاندل وقتها هو “السوبر ستار”). وكان مضطرا لتلبية طلبات تأليف القطع الموسيقية للأعراس والمآتم وغيرها بلا انقطاع بسبب حجم مسؤوليته تجاه أسرته وبالتالي حاجته الماسة والدائمة للمال. فقد تزوج مرتين أُنجب له منهما عشرون من الأبناء. ويذكر ان عشرة بين هؤلاء ماتوا في طفولتهم أو صباهم. ويجدر بالذكر ايضا أن أربعة من الباقين منهم صاروا لاحقا موسيقيين يحفظ التاريخ مكانتهم اليوم. وقد أمضى السنوات السبع والعشرين الأخيرة من حياته في مدينة لايبزيغ بين التأليف والتدريس. تشمل أعمال باخ، المتميزة عموما بجمال تقني وفني فريد، مؤلفات الفيوغ ـ وهو ضرب من الموسيقى شاع في عصر الباروك ويتميز بأنه “حوار” بين مختلف الآلات الموسيقية ـ وأشهرها مؤلفه للأورجن “التوكاتا والفيوج في سلم ريه الصغير” الذي يعتبر من أعظم أعماله على الإطلاق. ولذا وصف لاحقا بأنه سيد هذا الفن بلا منازع. ومن أعماله الشهيرة ايضا “كونشيرتوهات براندنبرج” الستة التي ألفها في العام 1721 وأرسلها يطلب بها وظيفة الى حاكم براندنبرج العسكري. لكنه لم يحصل على الوظيفة ولم يتلق ردا على طلبه في المقام الأول. ولكن، لحسن الحظ، لم تؤل هذه الأعمال إلى سلة المهملات ونشرت أخيرا في العام 1850، بعد مائة سنة على وفاته... وفورا اعتبرت آفاقا ما كان أحد يعتقد أن موسيقى الباروك يمكن ان تصل اليها. وأضف إلى أهم أعماله ايضا “تنويعات غولدبرج” والـسويتات” الانجليزية والفرنسية و”سويتات التشيلو”، و”القداس في سلم سي الصغير”، و”القربان الموسيقي”... على سبيل المثال. وفاته وأثره الموسيقي قضي باخ العام 1749 معتلا وبدأ بفقد بصره بسرعة. وفي 1750 خضع لعملية جراحية غير ناجحة في عينيه على يد الطبيب الانجليزي جون تيلور الذي كان يزور لايبزيج وأجرى سابقا عملية مماثلة، وغير ناجحة ايضا، على المؤلف هاندل. وفي 28 يوليو (تموز) 1750 توفي باخ عن 65 عاما بجلطة دماغية تزامن معها التهاب رئوي. وقيل وقتها إن سبب وفاته هو تعاسته لفشل العملية الجراحية مضافا الى إحساسه بأنه صاحب موهبة لا يستطيع أحد رؤية عظمتها. ويصح القول إن نشر كونشيرتوهات براندنبرج الستة كانت عاملا مهما في رد الاعتبار الذي لم يجده باخ في حياته واعتباره وسط العامة عبقريا موسيقيا. لكن إشارات الى هذه العبقرية بدأت في مطالع القرن التاسع عشر مع نشر سيرة حياته (في 1802) بقلم يوهان نيكولاوس فوركل، ثم العروض المهمة الأخرى التي قدمها لبعض أعماله في برلين فيليكس ماندلسون العام 1829. وأضاف الى كل هذا إعلان أسماء عملاقة في الموسيقى والأدب انبهارهم التام بمساهمته العظيمة سواء من ناحية الكيف أو الكم. وتجد بين هذه الأسماء موزارت وبيتهوفن وشوبان وغوته وهيجل. فقد قال عنه موزارت: “أخيرا موسيقى تسر الروح بالاستماع اليها”. وكتب هيجل: “هذا عالم لم ننتبه الى عبقريته الا مؤخرا”. وقد ألف بعض كبار الموسيقيين أعمالا مستقاة مباشرة من مؤلفات باخ إجلالا لموهبته. ومن هؤلاء بيتهوفن في “تنويعات ديابيلي”، وشوستاكوفيتش في “مقدمات وقطع في الفيوج”، وبرامز في سوناتا للتشيلو في سلم مي” التي بنى ختامها على بعض أجزاء باخ في مؤلفه “فن الفيوج”. وقد عُدت موسيقى يوهان سباستيان باخ في القرن الثامن عشر معقدة وقديمة الأسلوب مقارنة مع الأشكال الموسيقية الجديدة المقدمة من قبل الموسيقيين الآخرين. ويعود الفضل إلى مندلسون الذي اكتشف عام 1829 ميلادية عبقرية باخ في مؤلفاته “الآلام كما هي عند القديس ماثيو” التي أُلّفت قبل قرن من ذلك. وعلى أثر ذلك قدره جميع الموسيقيين، وأدى هذا العمل وكثير من المؤلفات الأخرى له إلى تأسيس جمعيات موسيقية كثيرة تحمل اسمه منها جمعية باخ في لندن سنة 1870، وتأسست كذلك في لايتزنج سنة 1805 جمعية باخ التي باشرت بنشر جميع أعماله الموسيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويمكن القول، إن طبيعة القديم والجديد في موسيقى يوهان سباستيان بارزة المعالم وتؤسس تميزا تاريخيا بقي متبعا حتى القرن العشرين. وأخيرا يقدر انه لو كُلف موسيقي اليوم بتدوين أعمال باخ يدويا على النوطة، لاحتاج الأمر منه ما لا يقل عن أربعين سنة لإنجاز المهمة كاملة. صدمة القطعة المنسوبة يقدر الخبراء أنك لو سألت ألف شخص عن أفضل وأهم أعمال باخ (بمعنى الأحب الى قلوبهم) لقالت الأغلبية الساحقة إنه التوكاتا والفيوغ في سلم ريه الصغير” المشار اليه آنفا. وبالنسبة للعديد من عشاق الموسيقى الكلاسيكية فإن هذا العمل “هو باخ وباخ هو هذا العمل”. لكن عددا لا يستهان به من المؤرخين الموسيقيين في زماننا الحديث هذا خرجوا بمفاجأة ـ صدمة تقول إن لا شيء يثبت بالدليل الذي لا يختلف عليه اثنان أن باخ هو مؤلف هذا العمل فعلا. ورغم أن هؤلاء المؤرخين لا يقولون من هو المؤلف الحقيقي، فإنهم يشيرون الى أن هذا بحد ذاته ليس مهما وإنما المهم هو أن باخ ليس هو المؤلف على الأرجح. ولكن.. حاول إقناع العالم بأن شكسبير كان أميّا وأن نبيلا لم يرد الهبوط الى مستوى اشتهاره بالتأليف المسرحي (لأن هذا شأن العامة) فاتفق معه على نشر أعماله باسمه. هذا ما يقوله البعض وما يزعمه فيلم صار بين الأشهر وسط أفلام “مهرجان لندن للفيلم” الأخير في اكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وهناك بالطبع فكاهة العقيد معمر القذافي الذي نسب الكاتب الشهير الى العرب وقال إن اسمه محرّف من “الشيخ الزبير”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©