الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسود في البيت الأبيض

أسود في البيت الأبيض
20 نوفمبر 2013 20:34
عندما صعد الممثل الأميركي فورست وايتكر إلى المنصة خلال الحفل الافتتاحي للدورة السابعة لمهرجان أبوظبي السينمائي بقصر الإمارات، وَجَدتُني أُصَفِّق له بحرارة ليس فقط مجاراةً للجمهور أو ترحيباً به ضيفاً بالمهرجان، ولكن إعجاباً بدوره في فيلم “كبير الخدم” الذي كان لايزال طرياً في ذهني وفكري بكل تفاصيله، فقد كنت أرى فيه سيسل جاينز، وليس فورست وايتكر، وبدا لي للحظة وكأن زوجته جلوريا (أوبرا وينفري) تتأبط ذراعه خلال الحفل الذي دُعياَ إليه بالبيت الأبيض بدعوة من سيدة أميركا الأولى آنئذ نانسي ريجان (جين فوندا) امتزج لدي ذلك المشهد المتخيل الذي اسْتَعْرَضَتْه ذاكرتي بذاك الواقعي الذي كنت أعيشه، غير أنني آثَرْت أن أظل حبيس هذه الذاكرة اللذيذة للحظات على أن أعود لواقع الأجواء الاحتفالية للمهرجان رغم جاذبيتها وأَلَقِها. وكما استرجع سيسل جاينز حياته كلها خلال انتظاره لقاء أول رئيس أسود بالبيت الأبيض (باراك أوباما)، تزاحمت في مخيلتي جميع مشاهد “كبير الخدم” والتي اختزلت قرابة قرن من معاناة شريحة واسعة من المجتمع الأميركي نجح المخرج لي دانييلز أن يُكَثِّفَها في نحو ساعتين بمنتهى الإبداع والإمتاع، وقليل من القفزات والهفوات. بعد جوائز الأوسكار، والبافتا، والكرة الذهبية، التي حصدها سنة 2007 نتيجة تألقه في أداء دور الديكتاتور الأوغندي عيدي أمين في فيلم “آخر ملوك اسكتلندا”، يعود النجم وايتر فورست إلى الأضواء مجدداً ليُثير تساؤلات صُناع السينما حول حظوظه هذه المرة في التنافس على أبرز الجوائز السينمائية العالمية في الأشهر القليلة المقبلة. فقد سار فورست على درب سلفه سيدني بواتييه وأبدع في تقديم جزء مهم من التاريخ الحديث للمجتمع الأميركي رفقة أوبرا وينفري التي عادت إلى السينما بعد انقطاع دام 15 سنة وأمتعت الجمهور هذه المرة أكثر مما فعلت في بطولة فيلمها السابق “المحبوبة” الذي خسر نحو 30 مليون دولار رغم إشادات النقاد به آنئذ، ورغم كون الرواية المقتبس عنها كانت السبب في فوز توني موريسون بجائزة نوبل للآداب عام 1993. أول ملاحظة تستقر في الذهن هي أنه على الرغم من محورية شخصية سيسل جاينز في الفيلم إلى جانب زوجته جلوريا، فإن كل الممثلين الآخرين الذين حشدهم المخرج أخذوا نصيبهم من الألق وإعجاب الجمهور بفضل حنكة المخرج في حبكة الأحداث، سواءً منهم أفراد أسرته وأقربائه، أو سلسلة الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض من هاري ترومان (روبن وليامز) إلى رونالد ريجان (آلان ريكمان)، والذين بدوا وكأنهم هم الخدم لدى حضرة كبير الخدم سيسل جاينز، أو مجموعة كومبارس إن صح القول. صحيح أن سيسل جاينز يجسد شخصية حقيقية ليوجين آلين الذي مات سنة 2010 والذي تمتع بشخصية لها قدرة خاصة على نيل محبة الآخرين ورضاهم بفضل سَمْتِه الحسن وعدم حَشْر أنفه في السياسة وكتمانه الأسرار، لكن المخرج بالغ قليلاً عندما صور علاقته بجميع الرؤساء وكأنها علاقة طوباوية مثالية تخلو من أية شائبة يمكنها أن تُعكِّر صفو مزاج كبير الخدم سيسل جاينز أو أحد الرؤساء الذين خدمهم، والحال أن منهم من تحيز بشكل أو بآخر وفي لحظات ما ضد السود. مخاض بطعميْن من أوجه إبداع المخرج تلك المقابلة المتقنة التي نهجها في عرض ما يحدث في البيت الأبيض مع ما يحدث في الشارع الأميركي، فالمخاض العسير الذي كان يمر به المناضلون والمدافعون عن الحقوق المدنية وينافحون عن المساواة ويدفعون دماءهم ثمناً لذلك كان يوازيه مخاض من نوع آخر على موائد البيت الأبيض حيث السكاكين والشوكات الفضية والمُذَهبة من رئيس لآخر على مرأى ومسمع الخدم السود الذين يُعدون في نظر الناشطين السود كابن سيسل جاينز الشاب لويس خانعين ومتخاذلين، ومتواطئين إلى حد ما مع البيض “العنصريين”، بمن فيهم رؤساء أميركا الذين يبقون في نظر أقلهم سُخطاً مقصرين في بذل الجهد الكافي لتمكين السود من نيل حقوقهم المشروعة. يبدأ مسلسل تعاطف الرؤساء الأميركيين مع السود في التاريخ الأميركي الحديث بحسب الفيلم مع إصدار ترومان قانوناً تنفيذياً يمهد للمساواة بين السود والبيض في الجيش الأميركي رداًّ على العنف الذي جوبه به السود عقب العودة ضمن الجنود الأميركيين منتصرين من إحدى المعارك، ثم آيزنهاور الذي يرسل قوات لاستتباب الأمن ووقف العنف الذي اندلع في ليتل روك بسبب فصل مدارس البيض عن مدارس السود، وبعده جون كيندي الذي بدا أكثر الرؤساء تعاطفاً مع السود ودفاعاً عنهم عبر تحليه بالشجاعة لدعوة الشعب الأميركي في خطاب تليفزيوني عقب مقتل شابين أسودين كانا متوجهين إلى الجامعة، إلى إلغاء الفصل في المدارس والحافلات والأماكن العامة كالمسارح والمطاعم وقاعات السينما والشواطئ والحمامات، بل وطلب علانية إطلاق سراح مارتن لوثر كينج، ما جعل السود يعتبرونه أبراهام لينكولن الثاني الذي قاد الحركة الثانية لتحريرهم. أظهر المخرج كينيدي رئيساً ذا شخصية مرهفة وأحاسيس شفافة تجعله سريع التأثر، كما ربط اغتياله مباشرة بدفاعه عن السود، وهو أمر غير محسوم ولا مؤكد تاريخياً باعتبار اغتيال كينيدي لايزال لغزاً لم تُعرَف إلى الآن أسبابه الحقيقية، لكن هذا لا يمنع من الإقرار بأن ربط السيناريست الشاب داني سترونج عملية الاغتيال بسياق الدفاع عن السود أعطى زخماً عاطفياً ودرامياً قوياً للفيلم، خصوصاً في تلك اللحظات المؤثرة التي تظهر فيها زوجته الحسناء جاكلين التي دخلت البيت الأبيض وهي تُمَنِّي زوجها بأنه سيسكنه ثماني سنوات بثيابها المضرجة بالدماء ورفضها تبديلها حتى يرى العالم ما فُعِل بزوجها، فضلاً عن ذلك التأثر الكبير الذي ظهر على سيسل وهو يسقط أرضاً في مطبخ البيت الأبيض من أثر صدمته من وقع الخبر، ثم تلمسه ربطة العنق التي كان قد أهداه إياها كينيدي عند عودته إلى البيت، وحرصه على ارتدائها يوم قرر الذهاب إلى البيت الأبيض لتهنئة باراك أوباما. وقفات لابد منها من الأشياء التي تستوقف المتفرج في الفيلم ذلك الصوت الحالم ببحة تحمل نبرة معاناة عميقة للراوي الذي هو بطل الفيلم نفسه “فورست وايتكر”. فتقنية (الفلاش باك) التي اتبعها المخرج بدءاً من البيت الأبيض وعودته إليه في نهاية الفيلم زادت من العمق الدرامي والبعد الإنساني للفيلم. ومن الأشياء الأخرى اللافتة ذلك الأداء المتقن للممثلة أنابيث ويستفول التي أبدعت في أداء دور أم الشاب الأبيض القاسي الذي أطلق النار على أبي سيسل جاينز، فقد أبانت بأدائها كيف أن مجتمع البيض نفسه كان لايزال مجتمعاً باترياركياً، فهي لم تكن توافق على تصرفات ابنها الرعناء، لكنها لم تكن تستطيع معارضته. وكان أقصى ما يمكنها فعله إخراج الابن اليتيم من مزرعة القطن حتى لا يلقى نفس مصير أبيه وتعليمه كيف يكون خادماً “زنجياً” جيداً، وهي الكلمة التي ظل يرددها ببراءة أمام السود والبيض على حد سواء دون إدراكه لحمولتها العنصرية التاريخية بسبب أميته. كما أن أداء النجمة جين فوندا لشخصية نانسي ريجان كان بارعاً رغم قصر فترة ظهورها، فقد نجحت في إظهار شخصية نانسي القوية والمهيمنة داخل البيت الأبيض وخوف زوجها رونالد مراراً من التسبب في غضبها واستيائها. وكان ماكياج جلوريا وسيسل لحظة شيخوختهما من النقاط الإيجابية التي تُحسَب للفيلم، كما أن اللقطات الكوميدية التي تخللت الفيلم كانت سَلِسَةً وتلقائية عكست روح الدعابة التي ينجح السود بطبيعتهم في الإبقاء عليها حتى في أحلك الظروف وأسوئها. بالرغم من كون عهد جيمي كارتر مهماً في مسار الدفاع عن الحريات المدنية للسود باعتبار ما شهدته فترة رئاسته من قلة أعمال العنف الناتجة عن التمييز العنصري وزيادة انتشار المدارس المختلطة ما بين البيض والسود وتعيينه الكثير من السود في إدارته، اكتفى المخرج بإظهار لقطات خاطفة بالأبيض والأسود للرئيس جيمي كارتر. وقد فعل الأمر ذاته مع جيرالد فورد. ما يجعلنا نتساءل هل فعل ذلك بسبب عدم إيجاده ممثلين يشبهون كارتر وفورد كأولئك الذين قدمهم في حالة ترومان وجونسون وريجان، أم أن أولويات تكثيف الأحداث اقتضت ذلك، أم لديه أسباب أخرى؟ومن الهفوات التي يبدو أن المخرج سقط فيها هي ختام الفيلم بموسيقى تصويرية مُغرقة في الوطنية الأميركية المحلية الاحتفالية رغم أن الفيلم موجه لجمهور عالمي ومحبوك بطريقة جميلة كان سيكون معها أبهى لو انتهى بشكل أقل بهرجةً وأكثر واقعية، لاسيما أن المتفرج والمتتبع لمجريات الأحداث في أميركا يعرف أن الديموقراطية مع الأميركيين السود هي ممارسة حديثة نسبياً باعتبارها لم تتحقق على نحو واسع إلا في ثمانينيات القرن الماضي. أوبرا وجلوريا قدمت أوبرا وينفري أداءً لا يمكن وصفه بأقل من البارع. فهي جسدت شخصية مركبة تفرح بحصول زوجها على فرصة العمل في البيت الأبيض، لكنها تتمنى بعد ذلك بفترة قصيرة لو أن ذلك الأمر لم يحدث. فتلك المرأة المرحة الذكية المفعمة بالطاقة والتي كانت تعيش في بيت سعيد مع زوجها الخادم في فندق إكسلسيور وولديها ستتحول إلى مدمنة على الكحول، وتقترب قاب قوسين أو أدنى من خيانة زوجها مع أحد الجيران بسبب إهمال سيسل جاينز لها نتيجة قضائه ساعات طوال في البيت الأبيض وإهماله واجباته الزوجية والأبوية معاً. ما يجعلها تثور عليه لحظة عودته شبه منهار من العمل وإخبارها بحادث اغتيال جون كينيدي قائلة “لا يهمني ما يحدث في البيت الأبيض! الذي يهمني حقاً هو ما يحدث في بيتي!”. وهو رد يتفهمه تماماً كل متفرج، فولدها لويس تحول إلى ناشط سياسي منذ سفره بعيداً عن بيت أسرته للدراسة في جامعة هووارد التي تقبل جميع الطلبة دون تمييز أو فصل، وصار يقضي في السجن أكثر ما يقضيه خارجه، وابنها الأصغر لا يتلقى من أبيه تلك الرعاية التي كان يتلقاها في السابق. هذا الوضع جعل جلوريا تنفجر أكثر من مرة لتنبيهه بأنه باع نفسه وأسرته للبيض في البيت الأبيض. غير أن جلوريا تستعيد صلابتها وقوتها الكامنة وتقرر التعايش مع الوضع على نحو أكثر إيجابية، فتنقطع عن شرب الخمر، وتشغل نفسها بالخياطة وإطعام أسماك حوض في بيتها، إلى جانب قراءة الجرائد لمتابعة الأحداث المتسارعة التي كانت تحدث في الشارع الأميركي، حيث يناضل ابنها مع ناشطين آخرين، فتكون بذلك قد فكت ارتباطها بزوجها سيسل الذي كان محور حياتها وكانت لا تفتأ تُسبِّح باسمه كل مرة بينما هو منغمس كل الانغماس في خدمة الأسياد البيض في البيت الأبيض. وتُؤتي ردة فعلها أُكلها ويعود سيسل إلى رُشده ويقلل من وقت مكوثه في البيت الأبيض، فيعود الدفء إلى عشه الزوجي ويستعيدان هناءهما مرة أخرى. غير أن موت ابنهما الأصغر في حرب فيتنام يقطع عليهما تلك السعادة، فينفطر قلبها وتجد لزاماً عليها الانشغال بالابن الآخر الذي كان يعارض ذهاب أخيه الأصغر للقتال في فيتنام. إسقاطات تاريخية من الحقائق التاريخية التي نجح المخرج في استعراضها بشكل درامي حادثة اعتراض جماعة (الكيو كلوكس كلان) العنصرية لحافلة الحرية التي استقلها نشطاء بيض وسود، والتي ستؤدي فيما بعد إلى إقدام الرئيس ليندون جونسون على سجْن أربعة أفراد من هذه الجماعة العنصرية بسبب قتلهم الناشطة البيضاء فيولا ليوزو، ودعوتهم صراحة إلى الانخراط في المجتمع السلمي ونبذ العنف والتمييز. كما لعب دوراً كبيراً في إخراج قانون المساواة في المسكن إلى الوجود. ومن المحطات التاريخية التي أخذت حيزاً مهماً في الفيلم حرب الفيتنام التي تورطت فيها أميركا وورثها نيكسون من سلفه جونسون، والتي أخذت من سيسل وجلوريا أصغر ابنيهما البار الذي رفض نصيحة أخيه البكر بعدم الذهاب وحرمتهما من إكمال لحظات سعادة كانا يحتفلان فيها بعيد ميلاد سيسل، وخلقت بعد توالي الخسائر البشرية في صفوف الأميركيين نقاشاً جدياً حاداًّ حول جدوى الاستمرار في هذه الحرب، قبل أن تعقبها فضيحة ووترجيت التي تكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر الرئيس نيكسون وأنهت فترة رئاسته باضطراره إلى تقديم استقالته. من المفارقات الجميلة التي نجح السيناريست والمخرج معاً في تذويبها في حبكة الفيلم تلك النصيحة الأولى التي يتلقاها كبير الخدم وكل وافد جديد إلى البيت الأبيض “في البيت الأبيض لا نسمح بالسياسة ولا نتسامح مع من يخالف هذا الأمر”، و”هنا لا ترى ولا تسمع، أنت فقط تخدم”. وإذا عُدنا إلى النصيحة الأخرى التي قدمها له كبير الخدم الذي سمح له بالعمل في بيت سيناتور بأحد بيوت كبار العائلات البيض عندما كسر زجاجة ليسد رمق جوعه وهو فتى يافع دون أن يأبه أن ذلك كان من شأنه أن يكلفه حياته: “إذا أردت أن تنجح في مهنة خادم وتواصل العيش، يجب أن تعيش بوجهين، وجه مع البيض لا يكن إلا الإرضاء واستباق مجاراة ما يريدونه، ووجه آخر حقيقي تحتفظ به لنفسك”. وسيعمل سيسل بكل هذه النصائح، لكن عمله بنصيحة العمل بوجهين التي طبقها على نحو لاشعوري ستتلاشى وتضمحل يوم دُعي من السيدة الأولى نانسي ريجان لحضور إحدى حفلات البيت الأبيض كضيف، للمرة الأولى، وليس كخادم. لم يتقبل الأمر في البداية، لكن إلحاح نانسي جعله يقبل الدعوة ويحقق رغبة زوجته جلوريا التي كادت تطير فرحاً بوجودها في البيت الأبيض. لكن هذه الدعوة ستكون نقطة التحول التي تبعث في سيسل وجهه الآخر والحقيقي الذي طالما دفنه، ومن حينها يبدأ ينظر إلى الأمور بشكل مختلف، ويجد صعوبة بالغة في العيش بالوجه الموارب المداري للبيض مهما فعلوا واتخذوا من قرارات. تتزامن حالته الشعورية وقلقه الوجودي والهوياتي هذا مع تصميم ريجان على عدم إدانة بشاعات نظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا وإلحاحه على أنه سيستخدم الفيتو إن حاول أحد فعل ذلك. فلا يجد سيسل سوى تقديم استقالته ليتصالح مع ذاته ومع أهله. يحاول ريجان أن يُثْنِيَه عن الاستقالة، لكن قناع وجهه الثاني يكون قد سقط نهائياً وجعله يقرر العيش بوجه واحد في آخر أيام حياته، ولو أن وجهه المزدوج حقق له بعض المآرب في البيت الأبيض، فقد كان له الفضل في زيادة راتبه ورواتب الخدم وكبار الخدم والعاملين السود في عهد ريجان، وأصبح محبوباً لديهم جميعاً بسبب ذلك. خلاصٌ وراء القضبان يخلع سيسل بعد استقالته جُبَّة كبير الخدم ويُهرول إلى حيث يتظاهر ابنه لويس أمام سفارة جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري وينادي باسم مانديلا، ليتصالح مع ابنه الذي يحاول إخباره بأن قدومه إلى مكان التظاهر قد يعرضه إلى فقدان وظيفته في البيت الأبيض، ولكنه يجيبه وقد كان فظاً معه دائماً بذلك الجواب الأبوي المؤثر وغير المتوقع منه “لقد فقدتك أنت!”. ليأتي بعدها مشهد سيسل جاينز المخلص الدائم للبيض وهو مع ابنه لويس وراء القضبان في قمة الفرح والابتهاج. فدخول سيسل إلى السجن رفقة أولئك الناشطين الشباب كان تحريراً لسيسل جاينز من ربقة خدمة البيض التي طوقت عنقه من طفولته إلى شيخوخته، لتصبح لحظة وجوده داخل السجن هي بمثابة لحظة ولادته من جديد. ربطة عنق كينيدي شاءت الأقدار أن يعيش سيسل الذي عاصر ثمانية رؤساء داخل البيت الأبيض وثلاثة آخرين بعد أن يتقاعد إلى أن يرى رئيساً أسود يحكم الولايات المتحدة الأميركية. يصبح ابنه لويس الذي طالما اعتبره عاقاًّ عضواً في الكونجرس ويصبح هو وجلوريا من المناصرين لباراك أوباما في حملته الانتخابية، وتنتشي جلوريا بتلك اللحظات ثم ترحل من عالم سيسل جاينز بهدوء كما دخلته بهدوء كخادمة في أحد المقاهي، وتتركه يحتفل وحده بعد ذلك بفوز أول رئيس أسود بالانتخابات الأميركية، والذهاب للبيت الأبيض بربطة عنق جون كينيدي والياقات المهداة إليه من رؤساء آخرين تعاقبوا على البيت الأبيض فعلقها كالنياشين، وكأنه يمثل كل الخدم السود الذين وسموا تاريخ أميركا القديم والحديث من جهة، ويمثل أيضاً كل رؤساء أميركا الذين أسهموا في مراكمة الإنجازات لتحقيق الحقوق المدنية للسود والمساواة بين الجميع، وكذلك جميع أبطال الحرية من الناشطين المدافعين عن الحقوق المدنية الذين انضم إليهم بالتحاقه بمظاهرة يقودها ابنه لويس بعد استقالته من البيت الأبيض، فكان بذلك إهداء الفيلم لجميع الناشطين والمدافعين عن الحقوق المدنية الأميركية خاتمةً مناسبة ترد الاعتبار لكل الأجيال المتعاقبة التي مرت بمخاضات عسيرة وخاضت نضالات عديدة وذاقت عذابات وتجرعت مرارات حتى توصل أحد أبناء جلدتها إلى بيت كان إلى وقت قريب اسماً على مسمى وظل حِكراً على البيض إلى أن أتى أوباما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©