الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين (محرَّق) البحرين و(جلفار) رأس الخيمة

بين (محرَّق) البحرين و(جلفار) رأس الخيمة
20 نوفمبر 2013 20:36
عندما يقع نظر أحدنا على عنوان رواية “آخر نساء لنجة” للكاتبة الإماراتية لولوة المنصوري، تقفز دلالة التاريخ إلى ذهنه؛ فـ (لنجة) مكان، مدينة ساحلية، لكنَّ ما يضخم دلالة تلقِّي التاريخ لدينا هو القسم الأول من العنوان، المتمثل بملفوظ “آخر نساء..”، ليصبح عنوان “آخر نساء لنجة” مفعماً بعبق التاريخ حتى نظن أنّنا بصدد رواية من روايات ما وراء القص التاريخي أو روايات المتخيَّل التأريخي، لكنَّ التوغُّل في قراءة متن الرواية يأخذك إلى مظان أخرى تفوح برائحة التاريخ المسرودة ضمن مدارات وحكايات مصغَّرة ترتبط بتسريد الشُّخوص أو الفاعلين المشاركين في أحداث الرواية. في غضون سنوات مرّت، عرفنا عن لولوة المنصوري أنّها كاتبة تتميز بلغتها الشِّعرية الطافحة بانزياحات مثمرة تجري رحاها بين المعنى والمبنى. وعرفناها أيضاً شاعرة تمتص من رحيق اللغة عصارتها العابرة لمعجمية مفردات الأشياء المعتادة صوب معجمية المعاني والدلالات الإيحائية، وهو ما انعكس أثراً سخي العطاء في تجربتها الروائية الأولى “آخر نساء لنجة”، الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2013. هندسة النَّص جاء المتن النَّصي للرواية بـ (261) صفحة من القطع المتوسط، وضمَّ سبعة وأربعين فقرة سردية انضوت تحت خمسة عناوين مفصلية، هي: “رئة الظل”، و”سقف المحرَّق”، و”عباءة الضوء”، و”باب عنيد”، و”صوت أبيض”. سبقت ذلك عتبة نصية افتتاحية تبدَّت إهداءً جاء فيه: “إلى.. أميرات الخبز، وسيدات أشجار الرولة، أهدي هذا الشاغر من الضوء حيث الانعطاف الآخر من عباءتي” (ص 5)، وهو الإهداء الذي تتضح فيه حضورية الأنثى المتكرِّرة عبر ملفوظات “أميرات”، و”سيدات”، و”عباءتي”؛ الإهداء الذي يزفُّ، إيحاءً، كينونة فعل ما ستقبل عليه الناصَّة (Textor) أو (لولوة المنصوري) في روايتها هذه، والذي اختارت له معنى إيحائياً، وبلغة شعرية رائقة، عندما انتقت ملفوظ “أهدي هذا الشاغر من الضوء حيث الانعطاف الآخر من عباءتي”، وفيه خاصَّة ملفوظ “هذا الشاغر من الضوء”، الذي يوحي بفعل الكتابة الروائية. في روايتها هذه، لم يأت السَّرد إلى طينة نثرية واحدة، إنّما جاء متعدِّد البناء؛ فالناصَّة فضّلت صيغة الرسائل المتبادلة بين بعض المشاركين في أحداث الرواية، ومنها الرسائل التي يبعثها “سالم” إلى قريبته “ميعاد” من مدينة المحرَّق ابتداءً من 4 أبريل 1991، ومن ثم من العراق حتى 5 يوليو 2003، حيث يعمل سالم مراسلاً صحافياً في بغداد الحصار والحروب، وكذلك رسائل ميعاد إلى سالم نفسه التي بدأت بإرسالها إليه ابتداءً من 20 أكتوبر 1991، وكذلك رسالة “يوسف”، زوج ميعاد الفار عنها لسبع سنين إلى أمريكا، والمؤرخة في 2 أكتوبر 2005. وإلى جانب ذلك، تدعم المنصوري نسيج سرديتها ببعض النُّصوص/ المذكّرات التي تحمل تاريخاً معيناً، لكنَّها المذكَّرات المتواقتة مع سير أحداث الرواية التي تُعبِّر عن فعل جارٍ وليس ماضياً، وهو شكل من أشكال التناصية (Intertextualité) الموحية، ما دعا المنصوري إلى توظيف التناص (Intertexte) من خلال استثمار بعض النصوص الشِّعرية لراينر ريلكه (ص 205)، وجارسيا لوركا (ص 246)، وعلي الشرقاوي (ص 99)، وشكسبير في “حلم ليلة صيف”، (ص 157)، ولأبي العلاء المعري (ص 261)، وهي المتناصَّات التي غدت مؤازرة لـ “ميعاد” على مواصلة بناء مسارات الروي؛ “ميعاد” الراوية المركزية (Central Narrator) في النَّص. الحيز الزمكاني كما هو واضح، أن أحداث الرواية تتكثَّف في تسعينيات القرن العشرين وما بعدها من سنين حتى عام 2006، لكنَّ الناصَّة تعود إلى أبعد من ذلك؛ تعود إلى طفولتها، بل وإلى جذور سلالتها من خلال تسريد حياة جدتها لأمها (رزيقة) التي تنحدر من مدينة لنجة الساحلية، وزوجها (السَّردال إبراهيم). وكذلك من خلال تسريد طريقة زواج (حورية)، والدة ميعاد وابنة رزيقة من (راشد) الفتى الذي تبناه (عبدالكريم العطار الأهوازي)، وصار بمثابة ابنه حتى زوّجه من “حورية” بعد اشتداد عوده. وكذلك تسريد حياة العطار الأهوازي نفسه وابنته الوحيدة (آسيا) اللذين جاءا معاً إلى (جلفار) للعيش فيها بعد أن هاجرا عن موطنهما الأهوازي في إيران. وهي تسريدات تعود إلى أزمنة قريبة في حدود عقود القرن العشرين سوى الإشارة إلى “الشيخ محمَّد بن قضيب” أحد شيوخ القواسم في القرن التاسع عشر، وبالتالي تسريد موت والدة البطلة “حورية” لتبقى “ميعاد” وأخواتها “سعاد” و”عوطف” يتيمات الأم تحت رعاية جدتهن اللنجاوية “رزيقة”، وبتربية “آسيا” الأهوازية لهنّ أيضاً. أما الحيز المكاني، فيبدو لي أن لولوة المنصوري فتحت أفقاً جديداً في الرواية الإماراتية عندما وسَّعت من جغرافية الحدث المكانية لتشمل مدينة (المحرَّق) في البحرين، و(جلفار) في الإمارات، و(الأهواز) و(أصفهان) و(لنجة) في إيران، وكذلك (بغداد)، و(أمريكا). ولعل الأهم في تسريد هذه الأمكنة هو الانتقال المتناوب بين المحرَّق وجلفار وبغداد من خلال مدارات متوترة كالحب والحرب والحصار والموت والانتقال الديمغرافي بين المجتمعات وما يستتبع ذلك من ثقافات متعدَّدة تتكور وتتلاقى في المكان الكلي المسرود في الرواية لتكتسب ـ تلك الثقافات ـ هويتها المجتمعية الجديدة. الحكاية تبدو رواية “آخر نساء لنجة” حكاية كل هذه الأطراف المشاركة في أحداثها، إلاّ أن الناصَّة آثرت تعويم قدر من الغموض في بناء العلاقة بين عنوان روايتها “آخر نساء لنجة” والشخصية المقصودة به، فيمكن النظر إلى تلك العلاقة بأنها تهدف إلى “ميعاد”، ويمكن أن تهدف أيضاً إلى “رزيقة”، لاسيما أن الناصَّة ختمت روايتها بموت “رزيقة” في عام 2006، إلاّ أنّنا، وفي أثناء متابعة المتن الحكائي، نهجس أن العنوان يرمي إلى “ميعاد” بوصفها آخر نساء لنجة، خصوصاً عندما قالت في نهاية الرواية: “رجال لنجة تكبر براويزهم؛ يشكِّلون انتماءً واحداً لتجذر اسمي!” (ص 257). ويبدو لي أن لولوة المنصوري تدرك جيداً أهمية تعويم الغموض في العنوان وهي تحقنه ببنية دلالية إيحائية قابلة للتأويل القرائي، وهو منعطف زخمته الناصَّة من تجربتها في كتابة الشعر، لكنَّ ذلك لا يعني أن الحكاية الكبرى في هذه الرواية لا هوية لها؛ بل على العكس من ذلك، تبقى حكاية الرواية في طواف يتمحور على شخصية “ميعاد”، الفتاة الجلفارية النشأة والتكوين والثقافة، ميعاد ابنة “راشد” و”حورية” التي توفيت والدتها بمرض مستعص لتترك “ميعاد” يتيمة وهي صغيرة، فاستحال أمر تربيتها إلى جدتها “رزيقة” وابنة العطار الأهوازي “آسيا” حتى تزوجت من “يوسف” الذي اغترب بعد عام عن الوطن إلى أمريكا وظلَّت تنتظره لثماني سنين حتى تطلّقه. وفي خلال ذلك تبقى على علاقة شبه غرامية مع قريبها “سالم عبدالرحمن كاظم” اللنجاوي، ابن أخ “رزيقة أحمد كاظم” اللنجاوية؛ “سالم” الذي يعمل مراسلاً صحافياً في العراق، ويظلُّ بعيداً في علاقته مع “ميعاد” حتى نهاية الرواية احتراماً لكينونتها بوصفها متزوَّجة من “يوسف”؛ “يوسف” ذلك الشخص الغامض في الرواية الذي يكتب، في نهاية المطاف، رسالة إلى “ميعاد” من “شيكاغو”، يطلب منها الزواج من غيره، ويعترف بحسب قوله إنه “مجرَّد جرذ قذر وخائف حتى من ظله” (ص 256)، بل ويعترف وإن متأخراً بأنه عقيم، “كان الخواء مني وقد علمتُ به فأخفيته متوارياً عن نميمة القرية إلى الأبد” (ص 256). وهو الملفوظ أو المؤدّى السَّردي (Enoncé) الذي يكشف عن سبب سفره إلى أمريكا لغرض علاج عقمه، لتبقى “ميعاد”، وهي ابنة الأربعين عاماً، وحيدة بعد أن أصبح سالم “المتشرد بحموضة الدم، التائه بنبوءة المجهول” (ص 257)، وبعد رحيل زوجها “يوسف” النهائي عن حياتها؛ ومن ثمَّ موت “رزيقة” في المحرَّق، لتبقى “ميعاد” وحيدة كآخر امرأة من نساء لنجة. شعرية المسرود إن فداحة الأثر النفسي الذي تركه مآل “ميعاد” في القارئ، تزامنت معه ضميمة من الصيغ الأسلوبية التي كشفت عن أثر جمالي كبير أدلقته تجربة البناء الشعري في السَّرد. وكما أشرت سابقاً بأن كتابة الشِّعر لدى لولوة المنصوري أتت بأثرها في عملها الروائي الأول (آخر نساء لنجة)؛ فالمتن النَّصي يحفل بعدد هائل من الملافظ (Prononce) السَّردية المتدفقة بإيحاء شعري فائق الحضور. وإذا كان الملفوظ العتبي “أهدي هذا الشاغر من الضوء”، الذي افتتحت به المنصوري عملها الروائي هذا، قد ألمح إلى فلسفتها في الكتابة، فإنها عادت وبلورت جانباً آخر من فلسفتها تلك بملفوظ افتتحت به “الفصل الثالث: عباءة الضوء” قائلة وعبر لسان “ميعاد”، بطلة الرواية: “إن الأدب لا يتهادن مع الهدوء، وإن تمَّت المهادنة، فلا شك أنّها ستغدو عادية، مملة، كتلك الأشياء العابرة المكرَّرة في ركضنا الباهت”! (ص 101). ولذلك، يمكن القول إن الارتماء في أحضان لغة عادية هو من قبيل الاشتغال على الهدوء والمعتاد والمكرَّر، بينما حياة “ميعاد” المسرودة ما كانت كذلك، بل هي حياة انفعالية يغزوها التوتر والتعب الوجودي الممل جراء الشعور العميق بالوحدة، وهو ما تطلَّب معجمية لغوية إيحائية انفعالية عابقة بالصور الشعرية الخارقة لنمط المعنى الرائج على نحو فاتن وخلاب بغية “إبراز وجه العالم المؤثر” كما يقول جان كوهين في كتابه (بنية اللغة الشعرية) (ص 215). ولهذا، بدأ الدفق الإيحائي الشِّعري من عنوان الرواية، ومن ثم أخذ يتكرَّس في العناوين الخمسة التي تمفصلت بها الفصول الداخلية أو الفرعية للرواية. إلاّ أن ذلك لم يكن سوى الغيث الأول؛ فقد أخرجت المنصوري بوصفها ناصَّة لعملها السَّردي بعض المؤدَّيات أو الملافظ السَّردية من معناها المعجمي السائد إلى معناها الإيحائي أو المعنى الطافح بالشِّعرية (الشعرية = Poéticité)؛ ومن ذلك ملفوظ “من جذورك/ سالم” (ص 102)، وكذلك ملفوظ “إلى جذوري سالم” (ص 122)، وهي تواقيع الرسائل المتبادلة بين “ميعاد” و”سالم” التي جاءت بديلاً عن ملفوظات معجمية دارجة مثل: “حبيبك/ سالم” أو “حبيبتك/ ميعاد”، وغير ذلك من المخاطبات التقليدية. إن نأي الناصَّة عن تسريد ملفوظات معجمية معتادة يكمن في طبيعة العلاقة بين “سالم” و”ميعاد”، فهذه الأخيرة متزوجة من “يوسف”، والتي تنتظر عودته أمريكا، وشعورها بـه كشعورها بأب شبه غائب عن حياتها، وهو الغياب “شبه السنوي لبيت أمها” (ص 217)، ومن ثم اختفاء ذلك الأب بعد أن “توكأ على عصاه وحزنه، وامتشقته آخر الدروب البعيدة...” (ص 227)، ويشبه أيضاً غياب الأم المتوفاة مبكراً عن حياة بناتها. ولذلك، لا يعد ُّ”سالم” حبيباً، إنما القريب الحميم الذي يذكِّر “ميعاد” بأنه كذلك من خلال ملفوظ “جذورك” الذي تكرر كثيراً بقصدية واضحة. وبذلك يصبح هذا الدال حاملاً لمعاني التواصل الإنساني في صورته القرابية في بداية الرواية، لكنَّه سيتحوَّل إلى تواصل غرامي عندما قال لها ذلك السالم، وفي أثناء مكالمة هاتفية: “أحبك ميعاد.. أحبك جداً” (ص 238). غالباً ما تلعب اللغة الشِّعرية على أسلوبية الإضمار الدلالي المعجمي بغية إحياء دلالة إيحائية مسرودة، ومن ذلك وصف الناصَّة لكينونة “رزيقة” بأنها “امرأة من حنّاء وطحين وسمن ورطب؛ امرأة من شمس وبنادق وحطب، وذاكرة جرار الماء فوق الرؤوس” (ص 8)، وهو وصف يمكن تلخيصه بمفردة معجمية من قبيل أن هذه الجدة هي أمرأه كادحة أو امرأة بدوية أو امرأة قروية. أما عن تسريد حالة الأب، فنقرأ: “على رأس الميناء، صبيٌ هزيل أسمر، يدب حائراً في خطواته، يسأل التجّار عن عمل متاح، يجلس على الضفة يقتات الانكسار والتخاذل والجوع” (ص 30). والمشار إليه (Referred to) هنا هو “راشد” الذي سيصبح والداً لـ”ميعاد”، وزوجا لـ “حورية” بنت “رزيقة”. وكذلك نقرأ: “عندما بدا الخليج من النوافذ مرتدياً السواد التام بعد عملية اغتصابه، وسكب ما يقارب مليون طن من النفط، فابتلعها قسراً في جوفه” (ص 60). والمشار إليه بلفظ الاغتصاب هو غزو صدام للكويت، وحرق آبار النفط وسيحه في مياه الخليج. وفي مكان آخر، نقرأ الملفوظ الآتي: “قبل أن تنزع المحرَّق قناعها الأزرق الملفوفة به قبيل نهضة الشمس” (ص 29)، إشارة إلى انبلاج فجر الصباح. وتضم سردية الرواية الكثير من الملفوظات الخاصَّة بوصف الأمكنة المسرودة، وكذلك صور الطبيعة، خصوصاً ما يتعلَّق منها بمدينة “أصفهان” التي زارتها الرواية طفلةً مع والدتها لغرض العلاج. وكلما نتوغَّل في قراءة النَّص الحكائي للرواية، نجد الانحناء لما هو شعري يتدفّق في صور إيحائية متعدِّدة تظهر بحسب ظرفية السَّرد المدارية (Topics)، خصوصاً ما يتعلَّق بكينونة “ميعاد”، ومن ذلك: “عن زائر فجائي لزج أحمر يباغت شهرياً، ويبعثر جدولة الأيام” (ص 23)، والمشار إليه هو ظهور الدورة الأنثوية الدموية لدى “ميعاد”. وكذلك الملفوظ الذي جاء فيه: “كحال يُتمي، كنتُ منشغلة بالأيتام الذين سيأتون من رحم الحرب” (ص 61). والمشار إليه هنا هو ما تركته حرب الخليج الثانية من خراب في الأسرة الخليجية. وأيضاً الملفوظ الذي يرد فيه: “لم يكن هناك أحد حين استجمع العفريت أنفاسه وولى هارباً! لم أشعر إلاّ ببرودة تئز عظامي، وتنخرها رغم القيظ. لم يرَ أحد ما وقع.. جيد، انهضي يا ميعاد، أسدلي ثوبك، وعاودي ارتداء ما قد أهدر منك..” (ص 64). والمشار إليه في هذا الملفوظ هو عملية الاغتصاب التي تعرَّضت لها ميعاد عندما كانت طفلة من جانب جارهم “مسعود ابن الحاج منصور”. وكذلك الملفوظ الذي جاء في أول رسالة تكتبها “ميعاد” إلى “سالم” وهي ترجوه الكتابة إليها: “جئتُ بشوق كي أستفز حروفك، أرجوك فك حصار الكلمات كيما تروي مفازتي الآيلة للاختفاء” (ص 119). شعرية الغياب من الواضح أن شعرية الحضور تستند إلى مجموعة من الملافظ السَّردية الدالة على كينونتها ووجودها معاً. أما شعرية الغياب (Absence Poéticité)، فيبدو أمرها باعثاً على الحيرة؛ فكيف يمكن تسريد الغياب وهو عدم. ولكنَّ، وفي حدود التجربة السَّردية، لا يعني التعامل مع العدم بأنه ذلك الشيء الذي لا يمكن أن يوجد مطلقاً؛ فكل تجربة سردية متخيَّلة تضمر بقدر ما تكشف، وتوحي بقدر ما تحد، خصوصاً أن الناصَّة، وبلسان “ميعاد” قالت: “وإني لأرغب في بثِّ الشوق في لفظي” (ص 121). وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن شعرية الغياب تنجلي أكثر في الخطاب الذي يحضر كعطر نافذ تفوح به طيات وثنايا المسرود حضوراً من خلال بعض الملافظ السَّردية الإيحائية؛ الخطاب الذي يتطلَّب قراءة تأويلية لبنية ما توحي به مُضمرات المحكي إذا ما أردنا القبض على تلابيبه. إن قراءة أولية للمبنى الحكائي في (آخر نساء لنجة)، تكشف عن فعل تغييب مارسته الناصَّة أو لولوة المنصوري لبعض الفاعلين في روايتها وإن كانوا حاضرين في بعض مداراتها المسرودة إلاّ أنَّهم ظلوا طي التغييب، وطي حنين “ميعاد” إلى حضورهم رغم وجودهم الغائب؛ غياب الأم “حورية” التي “ماتت كمداً” (ص 42)، وغياب الأب المنسي “راشد”، وغياب “سالم” قريب “ميعاد” عن الوطن، وغياب “يوسف” زوج “ميعاد” عن الوطن أيضاً، وهو الغياب الفادح الذي تمحور أثره في شخصية “ميعاد” نفسها التي باتت تستشعر تمزُّق أنطولوجية الوجود المحيط بها، وذلك في قولها وهي تستحضر علاقتها بزوجها الغائب: “كنّا عاشقين صغيرين على الحياة في زمن التلاشي والمحنة والانسحاب نحو الغروب” (ص 32)، وكذلك الملفوظ الذي تستذكر به “ميعاد” والدتها “حورية” جزعاً فتقول: “أبكي بحرقة، أستنجد بأمي، أنادي عليها فلا تجيب!” (ص 52). وتتجلّى شعرية الغياب أيضاً في المؤدّى السَّردي الذي ختم الفصل المعنون بـ “رئة الظل”، والذي جاء فيه: “أوان الكلمات قد انتهى، بعدما دفنتُ خيلي الأبيض في السّماء، وراء الخط الأسود في الأفق، وعدتُ أبكي مدائني لسنوات طويلة” (ص 58). وهو الملفوظ الذي جاء دالاً إلى الذات الأنثوية باليأس المطبق في ظل الهزائم المتتالية التي أحيطت بوجود “ميعاد”، الأمر الذي تبدّى في الصورة التي أوردتها الناصَّة ابتداءً من الفصل الثاني (سقف المحرَّق)، وتداعيات حرب الخليج الثانية على المحيط المتاخم لجلفار، ومن ثم الملفوظ الدال على غياب الأم في بعض إيحائه: “ثوب أمي السابحة في الأمدية الفارغة البعيدة والمجهولة” (ص 62). نبقى مع غياب الأم الذي لا تمل الناصَّة من تسريده مثلما ورد في الملفوظ الآتي: “أردتُ أن أرفع غيم نافلة الله كي تخرج أمي من جيوب الغيب، وتمارس لعبة الاختباء مع القدر، مثلما كانت تتخفّى في بيتنا، فأبحثُ عنها لأكشفها سريعاً متواريةً خلف ستارة أو باب أو في ثوب رزيقة” (ص 80). وكذلك الملفوظ الذي جاء إلى مشكلة عدم حبلها: “أنتفض على خوابي رحمي المهجور الذي لم يشأ أن يحتضن طفلةً كأمي” (ص 80). وفي هذا السياق؟، ومن ذي قبل قالت ميعاد: “رحمي المهجور الذي لم ترتع فيه المنويات منذ زمن بعيد، ولم تقتحمه زلازل التكوين بالنطف” (ص 51). وقالت تالياً: لقد “أنجبتُ باباً معلَّقاً أنتظر أن يأتي منه الفرج” (ص 175)، وكذلك قولها: “ثماني سنوات من استبراء الرحم وخلو الأحشاء” (ص 232). أن المشار إليه في كل هذه الملفوظات هو غياب حملها، وعدم ممارستها الحب مع زوجها الغائب الذي تركها سبع سنين؛ الغياب الذي ظلَّ يُطارد “ميعاد” التي قالت: “حتى بعد زواجي بيوسف، صرت أمتهن الفراغ، ونسج السيناريوهات الكئيبة والحزينة في رأسي، والاكتفاء بالتحديق في الأبواب التي قد تأتيني بجذوة أمل أو خبر عنه” (ص 92). لكنَّ “ميعاد”، وبعد يأس جلي، طلَّقت يوسف غيابياً (ص 233)؛ ذلك الزوج الذي كبَّلها “لسنوات من الوحشة والضياع والخوف والنميمة التي لطخَّت عباءتي بالسُّخرية الجائرة” كما تقول “ميعاد” (ص 229). وأغلقت بذلك آخر باب من أبواب الغياب. تبدو رواية (آخر نساء لنجة) مثخنة بجراح التكوين المجتمعي والذاتي للإنسان الخليجي، خصوصاً المرأة، قبل وبعد اكتشاف مصادر الثروة في هذه المنطقة الحيوية من الناحية الثقافية. ويبدو لي أن اللغة الشَّعرية الطافحة التي كتبت لولوة المنصوري بفيافيها سرديتها الروائية الأولى تمثل قيمة جمالية هائلة الحضور. إلاّ أن قيماً سردية أخرى يمكن أن تقع عليها عين المتلقِّي وذائقته القرائية، ناهيك عن موضوعات حيوية أخرى تطرَّقت إليها الرواية في برامج ومدارات سردية متعدِّدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©