من خلال بحثي على حكايا القصائد في الشعر الأندلسي، تأكدت أن تلك النهضة العربية التي شهدتها الأندلس، لعب فيها الشعر دوراً أساسياً، وأن ثمانمائة عام من الوجود العربي الإسلامي في تلك البقعة الجميلة من الكرة الأرضية حفلت بكنوز من هذا الشعر، تحتاج حقيقة من الدارسين جهوداً للبحث عنها وتقديمها للأجيال الجديدة التي تكاد لا تعرف شيئاً عن الأندلس ولا عن شعرائها الذين سجلوا بشعرهم وسيرة حياتهم صفحات مهمة من ذلك التاريخ.
من شعراء الأندلس الذين لفتوا انتباهي وتأثرت بشعرهم شاعر يسمى ابن خاتمة الأندلسي. وهو أحمد بن علي بن محمد بن خاتمة، ويلقب بأبي جعفر الأنصاري الأندلسي.
هذا الشاعر لم يكن وزيراً ولا حتى شاعراً متفرغاً.. كان طبيباً، نعم كان طبيباً في زمن لم تكن فيه كليات خاصة لتخريج الأطباء، أو لتأسيس المتخصصين في مختلف فروع الطب.
ولكن ابن خاتمة درس الطب على ما يبدو من خلال مؤلفات بعض المبدعين في دراسة الأحياء وفيزيولوجيا الجسد أمثال الرازي وابن سينا وغيرهم.
ولم يكن ابن خاتمة طبيباً فحسب، بل إلى جانب تلك المهنة كان مؤرخاً، وكان أديباً، وكان شاعراً.
ولد ابن خاتمة في المرية بالأندلس عام 734 هجرية أي عام 1333 ميلادية.. والمرية تقع جنوب شرق الأندلس، وفيها حفظ القرآن وقرأ علوم العربية والدين على أساتذة عصره، وفي المرية حيث ولد ونشأ، قام بالتدريس في الجامع الأعظم، وقد تأثر ابن خاتم بمسقط رأسه والبلد التي عاش فيها فمنحها كتاباً رائعاً سماه: “مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية”، مسجلاً في ذلك الكتاب تاريخ تلك المدينة الجميلة من مدن الحضارة العربية في الأندلس.
ونسأل لسان الدين بن الخطيب:
? ماذا قلت عن ابن خاتمة يا لسان الدين؟
- في كتابي “الإحاطة بأخبار غرناطة” قلت: إنه صدر يشار إليه، متفنن مشارك، قوي الإدراك، سديد النظر، قوي الذهن، جيد القريحة.
? هل كان صديقك؟
- كان من أخلص وأوفى الأصدقاء.
? كيف تأكدت من ذلك يا لسان الدين؟
- أقرأ لك جزءاً من رسالته التي بعث بها إليّ ليثنيني عن الهجرة من الأندلس بعد أن ضقت بغرناطة وسلطانها الغني بالله محمد الخامس.
? تفضل..
- وإلى هذا يا سيدي، ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله الوجود بطول بقائكم، وضاعف من العز درجات ارتقائكم، فإنه من الأمر الذي لم يغب عن رأي المقول ولا اختلف فيه أرباب المحسوس والمعقول أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها وتاج مفرقها وواسطة سلكها وطراز ملكها وقلادة نحرها وفريدة دهرها وعند جيدها المنصوص وكمال زينتها على المعلوم والمخصوص، ثم أنتم مدار أفلاكها وسر سياسة أملاكها، وترجمان بيانها ولسان إحسانها وطبيب مارستانها.
? رسالة جميلة ومشاعر صادقة..
- ولقد أجبت على رسالة ابن خاتمة برسالة أخرى أقول فيها:
والله قد عوض الدنيا بمحبته، لكنني للحرمين ضجت، وفي جو الشوق إليها سرحت، فقد أفضت إلى طريق قصدي محجته، ونفرتني ـ والمنة لله ـ حجته.
? في أي عام تبادلتما الرسائل؟
- عام 770 هجرية.
? العام الذي توفي فيه؟
- كانت على ما يبدو آخر ما كتب..
? ما الذي ميّز هذا الشاعر في نظرك؟
- الذي ميّزه هو اهتمامه بموضوعات لم يسبقه إليه أحد..
? كيف يا لسان الدين بن الخطيب؟
- كان شعره يحمل وصاياه وحكمه، والقصيدة كانت لا تزيد أحياناً عن بيتين أو خمسة على الأكثر.
? مثلاً؟
- مثلاً قوله:
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل
تقاهُ عُدَّةً لصلاحِ أمرِكْ
وبادر نحو طاعته بعزمٍ
فما تدري متى يُمضي بعمركْ
? كان إذن واعظاً؟
- بل كان زاهداً متعبداً، وكان شعره يجسد سيرة حياته.
? ماذا تعني بكان زاهداً.. هل كان زاهداً في شعره أم في حياته أيضاً.
- في حياته طبعاً.. وشعره جسّد ذلك.
? هل لديك مثل؟
- أصغ إليه يقول:
دعِ التأنَّقَ في لبس الثياب وكن
لله لابس ثوب الخوف والندمِ
لو كان للمرء في أثوابه شرفٌ
ما كان يخلعُ أسناهنَّ في الحرمِ
? رائع.. وماذا أيضاً؟
- يقول:
أعرض عن العالم مسترضياً
من ليس تخفى عنه من خافية
من لم يكن رضي الورى قصده
خيَّمَ في بحبوحة العافية
? يطلب إذن رضا الله، ويعتبره الغنى الحقيقي؟
- هذا صحيح.. ولكنه كان متواضعاً ويدعو إلى التواضع.
? هل من مَثَلْ؟
- نعم.. يقول ابن خاتمة:
تواضعْ تكنْ كالنجم لاح لناظرٍ
على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه
على طبقات الجو وهو وضِعُ
? وهل كان ابن خاتمة متواضعاً فعلاً؟
- إلى درجة كنا نحسده عليها.
? لماذا؟
- لأنه لم يفتخر يوماً بفضل يملكه، أو علم يتفوق به.. بل كان يشعرك وأنت تحاوره أنه تلميذ يتعلم منك، بل يكاد يبدو متسولاً لعلمك بجمال إصغائه لما تقول..
? أكان غنياً؟
- من وجهة نظره هو كان أغنى الأغنياء.
? كيف؟
- يقول ابن خاتمة:
يا من غدا ينفق العمر الثمين بلا
حدوى سوى جمع مالٍ خيفة العدمِ
ارجع لنفسك وانظره في تخلصها
فقد قذفت بها في لجّةِ العدمِ
أو قوله:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ
? لديك الحق يا لسان الدين.. شعر ابن خاتمة لم يكن في مدح أو هجاء.. بل كان تأملاً في الحياة..
- لا تنس أنه كان يعيش في زمن خصب، وفي بلاد غنية وفي جو من الرفاهية.. ومع ذلك يزهد بكل شيء ويعيش مع فكره، ويتجه إلى مناجاة ربه قائلاً بدموع تهمي من القلب:
يا مجيب المضطر عند الدعاءِ
منك دائي وفي يديك دوائي
جذبتني الدنيا إليها بضبعي
ودعتني لمحنتي وشقائي
يا إلهي وأنت تعلم حالي
لا تذرني شماتة الأعداءِ
? مهلك يا لسان الدين.. إنك ترى ابن خاتمة من جانب واحد ألم يكن له تجارب أخرى غير الزهد؟
- ماذا تقصد، الحب؟
?نعم.. إنه رجل، وشاعر، والحب والشعر توأمان..
- هذا صحيح.
? إذن..
- أقرأ لك بعض ما قاله في الحب..
? تفضل..
- يقول:
يــــــــا لاهياً عن غرامـــــي
ومُعرضـــــــاً عن سقامــــي
وجــــــــامحاً ليس يثنـــــي
وجهــــــــاً لرد سلامــــــــي
إنـــــــــي لأصبـــــــر حتى
تعـــــــــود سهل المــــــرامِ
لابــــــدّ للشعر يلقـــــــــي
عليـــــــك أيَّ زمـــــــــــــامِ
وكـــــــل صعبٍ جمـــــوحٍ
ينقــــــــاد طوع اللجـــــــامِ
? أعتقد أن هذا شعر نُظم خصيصاً للغناء.. كمعظم الشعر الأندلسي.
- لأن القصيدة قصيرة؟
? بل لأن البحر غنائي سهل..
- اسمع ما يقوله في امرأة جميلة سمّاها بنت المنصف.
? تفضل.
- يقول:
مَنْ عاذري مَنْ ناصري مَنْ مُنصفي
هذا دمي سفكته بنت المنصفِ
بفرند(1) خدٍّ كالحسام مذرَّبٍ(2)
وقوام قدٍّ كالقناة(3) مثقَّفِ(4)
وسهام لحظٍ(5) عن قسي حواجبٍ
ترمي بريش الهرب من طرْفٍ خفي
غنّاءُ مغنية بحسن غنائها
عن لذةِ المغنى وطيبِ المألفِ
إن تشدُ فالأسماع رهن تشوّفٍ
أو تبدُ فالأبصار رهنُ توقفِ
ملء المسامع والنواظر بهجةً
ما مثلها حدِّثْ بذا ثم احلفِ
أو ما ترق على محبٍّ ما له
أمل سواكِ أجل وما في المصحفِ
ما أنت منصفةٌ ولا ابنة منصفٍ
كذب الهوى إن كنت بنت المنصفِ
? اسمع يا لسان الدين بن الخطيب.. لن أتركك قبل أن تحدثني بقصة هذا الشاعر.. ابن خاتمة..
- إذن لابد لنا من لقاء آخر..
? ابن خاتمة هذا يستحق من وجهة نظري أكثر من لقاء بيننا يا ابن الخطيب.
- ويسعد روحي أن يكون ابن خاتمة ذلك الصديق الصدوق الوفي الجميل هو موضوع اللقاء.
معاني الكلمات:
1 - الفرند: السيف
2 - مذرّب: مرهف
3 - قناة: الرمح
4 - مثقف: مقوم
5 - لحظ: عين
المراجع:
1 - ديان ابن خاتم/ جمع وتحقيق عمار الكردي
2 - الإحاطة في أخبار غرناطة/ لسان الدين بن الخطيب
3 - اتجاهات قصيدة الخوف الأندلسية/ محمد ماجد الدخيل
4 - لسان العرب/ ابن منظور
عدد اليوم
