الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«العصر الرقمي الجديد»... وإعادة صياغة مستقبل الشعوب

«العصر الرقمي الجديد»... وإعادة صياغة مستقبل الشعوب
4 فبراير 2014 23:02
يقول خبير الأنظمة الذكية ورجل الأعمال الأميركي تشارلز كيترينج: «حريّ بنا أن نهتمّ بالمستقبل لأنه زمن سنقضي فيه ما تبقى من حياتنا». وهذا الكتاب الذي صدر حديثاً (أواخر عام 2013) عن «دار جون موراي للنشر والتوزيع» في لندن تحت عنوان «العصر الرقمي الجديد»، يتعرض بالوصف والتحليل للأطر التي ستقوم عليها «الدولة العصرية» خلال المستقبل القريب أو السنوات القليلة المقبلة التي تسبق حلول عام 2025، ويقدم تصوّراً مسبقاً لأنظمة رقمية بالغة التعقيد والأهمية ينتظر إطلاقها بالتتابع لتثري حياة البشر وتعزز من قدرتهم على التواصل وتزيد من فعاليتهم الإنتاجية. وفي قديم الزمان.. كانت العصور والحقب تُقاس بمئات السنين، والآن وبفضل ثورة المعلومات، أصبحت تقاس بالعقود والسنين، وربما بالأشهر والأيام. ويمكن أن يُعزى كل هذا الزخم التطوري المتسارع لشبكة الإنترنت التي أصبحت من بين أشياء قليلة ابتكرها الإنسان من دون أن يتمكن من فهم أبعادها الحقيقية أو يعي تداعياتها الهائلة. ومن يقرأ هذا الكتاب، سرعان ما يصل إلى استنتاج يقضي بأن كل ما تحقق من تطوّر في العالم الافتراضي خلال العقدين الماضيين يمكن أن يندرج تحت مسمى «الثورة الرقمية الأولى»، ولا يمثل إلا مقدمة لما سنشهده قريباً من تطوّر أبعد مدى وأكثر شمولاً عندما ستنطلق «الثورة الرقمية الثانية»، وهي التي يتنبأ مؤلفا هذا الكتاب بانطلاقها عما قريب. ولعل أهم ما في الأمر هو أن كل إنسان على وجه الأرض سيكون معنياً بهذا التطور الذي سيسخّر للبشرية جمعاء أساليب ذكية وغير مسبوقة للعمل والإنتاج والتجارة ويحدد ملامح الاقتصاد والحياة الاجتماعية. والكتاب من تأليف «إريك شميت» الرئيس والمدير التنفيذي لشركة «جوجل»، و«جاريد كوهين» رئيس «قسم الأفكار والابتكارات» في الشركة ذاتها والذي سبق له أن عمل مستشاراً لكل من مستشارة الأمن القومي «كوندوليزا رايس» ووزيرة الخارجية السابقة «هيلاري كلينتون»، ويقع في 316 صفحة مقسمة إلى سبعة فصول عناوينها: «مستقبلنا، المفهوم المستقبلي للهوية الوطنية والمواطنة، مستقبل الأمم، مستقبل الثورة، مستقبل الإرهاب، مستقبل الصراعات والحروب والغزوات، مستقبل أساليب وأدوات إعادة البناء والتعمير». وسوف نعرض لخلاصة الأفكار التي تتناول هذه المواضيع المهمة. الإنترنت.. وسقوط الحواجز يقول مؤلفا الكتاب إنه بفضل القوة الهائلة للتكنولوجيا الرقمية، سقطت الحواجز الصمّاء التي كانت تفصل بين البشر، كالبعد الجغرافي واختلاف اللغات والافتقار المزمن للمعلومات، وتحررت القدرات الإبداعية الكامنة لبني البشر على شكل موجة هادرة جديدة تزداد قوّة من دون انقطاع. وأصبحت هذه القدرات الضخمة تحت تصرف كل البشر وباتوا قادرين على تحريرها برؤوس أصابعهم. يبدو للمحللين الآن أن تكنولوجيا الاتصالات تحقق من سرعة التطور ما لا يمكن تقديره أو وصفه، لكن مؤلفي الكتاب لا يريان في كل ما تحقق إلا النُزر الاستهلالية والإرهاصات الأولى لتطورات كبرى جديدة أصبحت على الأبواب. وقد تتضح سرعة هذا الزخم التطوري من خلال ما تحقق خلال الفترة الأخيرة، وحيث ارتفع عدد المشتركين في خدمات الإنترنت منذ بداية وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من 350 مليوناً إلى أكثر من مليارين. وخلال الفترة ذاتها ارتفع عدد المشتركين بخدمات الهاتف المحمول «الموبايل» بسرعة مذهلة من 750 مليوناً إلى 6 مليارات. ومع هذا المدّ الاتصالي العريض، تزداد قدرة الناس في العالم أجمع على التأقلم مع التكنولوجيات الاتصالية المتطورة وتتعمق خبراتهم في فهمها واكتشاف أسرارها. وفي عام 2025، سوف يكون كل إنسان على وجه الأرض ومن دون استثناء، قادراً على الاطلاع على كافة المعلومات المتاحة أمام العالم أجمع عن طريق أجهزة حاسوبية مقبلة يمكن احتواء أي منها بقبضة اليد، وسوف يصبح سكان الأرض والذين من المقدّر أن يصل عددهم إلى 8 مليارات متصلين جميعاً بشبكة الإنترنت. وفي ذلك العام أيضاً، ستتحقق لكل فرد من بني البشر ومهما كانت الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فرصة الاتصال ببقية الناس بطرق جديدة تتميز بانخفاض التكلفة والفعالية العالية عندما ستظهر إلى الوجود «شبكات الإنترنت اللاسلكية الخفيّة». وسوف نعمل جميعاً بفعالية أكبر وبإنتاجية أكثر ووفق قدرة أقوى على الابتكار والإبداع. وستخترق تلك الشبكات التجمعات البشرية التي لا تزال تعاني العزلة الشديدة لتضعها جميعاً «على الخط» وتزيد من خبرتها في التفاعل مع العالم. ابتكارات على الطريق تمثل «سرعة الكمبيوتر» العامل الأساسي والحاسم في التطور المقبل. وبناء على «قانون مور» Moor’s Law الذي ينص على أن سرعة الرقائق الحاسوبية (التي تشكل أساس لوحات الدوائر الحاسوبية للكمبيوتر) تتضاعف كل 18 شهراً، فإننا نتوقع أن تظهر عام 2025 أجهزة كمبيوتر أسرع بنحو 64 مرة من تلك التي كنا نستخدمها عام 2013. وينص قانون آخر على أن كمية البيانات الرقمية التي تتدفق عبر كابلات الألياف الضوئية تتضاعف كل 9 أشهر. وهذا يعني أن «الواقع الافتراضي» سوف يكون متطابقاً مع «الواقع الطبيعي» من حيث سرعة الاستظهار وقوة الوضوح وربما يتفوّق عليه في بعض الخصائص. وستتيح لنا سرعة التطور التي يُنتظر أن تشهدها تكنولوجيا المعلومات أن نحوّل معظم الرؤى التي نشاهدها في أفلام الخيال العلمي إلى حقائق ملموسة قائمة على أرض الواقع. ولقد اقترب كثيراً ذلك العصر الذي سنتعامل فيه مع السيارات التي لا تحتاج إلى سائق، والروبوتات ذاتية التفكير والحركة والتي يمكنها أن تتخذ القرارات المناسبة للعمل والإنجاز وتعمل بموجبها، وغير ذلك من الابتكارات التي ستغير طريقتنا في العيش بشكل جذري. وإذا كنا نتحدث عن مثل هذه الابتكارات باعتبارها تشكل جزءاً من المستقبل، إلا أن طلائعها الأولى بدأت تظهر بالفعل وتتخذ موقعها ضمن الحركة التطورية المتسارعة. وهذا ما يضيف عنصر الإثارة والتجدد الدائم على العمل في تكنولوجيا المعلومات ليس لأننا أصبحنا نمتلك فرصة اختراع وبناء الأجهزة الجديدة فحسب، بل بسبب ما ستعنيه هذه التطورات بالنسبة لأسلوب حياتنا ولعالمنا. «الصناعة بطريقة الإضافة» ويقول المؤلفان إن هذا الكتاب ليس مخصصاً للحديث عن الأجهزة الذكية بما فيها أجهزة الكمبيوتر بالغة التطور والهواتف المحمولة التي تتصف بمستويات ذكاء تفوق تلك التي تتميز بها الهواتف التي نستخدمها الآن، ولا للخوض في تفاصيل الابتكارات الطارئة في علم الذكاء الاصطناعي على الرغم من أنه يتعرض لكل هذه المحاور بالشرح والتفصيل، ولكن موضوعه الرئيسي يدور حول العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان المستهلك لها من حيث طريقة تفاعله معها وتسخيرها في خدمة أهدافه ودمجها في بيئته الحياتية. وتكمن أهمية الكتاب في أنه يلعب دور الدليل المرشد للإنسان في العصر الرقمي الجديد. وذلك نظراً للمسؤوليات الاجتماعية والأمنية التي تنطوي عليها تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والتي يعود خيار استخدامها لتنفيذ أهداف وغايات شرّيرة أو مفيدة لطبيعة البشر أنفسهم. ويتوقع المؤلفان أن تظهر خلال السنوات القليلة المقبلة الأجيال الأولى من أجهزة «الصناعة بطريقة الإضافة» additive manufacturing التي يتم فيها تجميع المواد الأولية جزءاً تلو الآخر أو طبقة تلو الأخرى وبسرعة عالية أثناء صناعة الأدوات والمنتجات المختلفة بعد تصميمها بالاستعانة بالبرمجيات المتخصصة وتحويل التصميم النهائي إلى بيانات رقمية مخزونة في ذاكرة الكمبيوتر. وتُعرف هذه الأجهزة أكثر باسم «آلات الطباعة ثلاثية الأبعاد» ومن المنتظر أن تجعل إنتاج السلع المصنّعة مهنة الناس العاديين بدلاً من المصانع المتخصصة. وغالباً ما تتألف المواد الأولية في هذه الحالة من البلاستيك السائل أو المواد القابلة للانصهار عند درجات الحرارة المرتفعة والعودة إلى الحالة الصلبة عند درجات الحرارة العادية. ومن المنتظر أن يؤدي تطوير هذه التكنولوجيا إلى ثورة صناعية جديدة نظراً لسرعتها في الإنجاز وعدم احتياجها للأيدي العاملة وتوفيرها للبواقي والفضلات من المواد الأولية. البداية من الطابعات وليست الطابعات ثلاثية الأبعاد إلا مثال نموذجي واحد من عدد كبير من الأمثلة التي يقدمها الكتاب حول الميكنة الرقمية الذكية للكثير من الأعمال والنشاطات البشرية. ولا بدّ من التوقف في هذا الصدد عند مثال آخر يشرح فيه الكتاب الطريقة العصرية المقبلة لصناعة الملابس والأزياء بطريقة رقمية بحتة. فعندما يدخل الزبون (امرأة أو رجل) إلى مخزن البيع، يبدأ بانتقاء الزي المطلوب (الموضة) من الصور المعروضة عليه، ثم يختار نوع القماش المطلوب، ليدخل بعد ذلك إلى «غرفة القياس»، وهي غرفة سرّية مغلقة تشبه غرف التصوير الضوئي القديمة وتحتوي على عدد من «الكاميرات الرادارية» المثبتة في أماكن مناسبة من الجدران والتي تلتقط مقاس الجسم بطريقة تجميع أكبر عدد من النقط لمحيطه بطريقة «المسح الضوئي». وبهذا يتحول محيط الجسم إلى شبكة من النقاط المتوزعة في الفراغ ثلاثي الأبعاد. وخلال دقائق قليلة تنتهي عملية القياس لتنتقل البيانات إلى أجهزة القصّ والخياطة الذكية بحيث يتم الانتهاء من صناعة القطعة المناسبة خلال دقائق. الاتصالات وزيادة الفعالية وسيؤدي التطور المنتظر في تكنولوجيا الاتصالات إلى زيادة فعالية النشاطات البشرية في كافة الحقول وخاصة عندما ستتوفر خدماتها لكل سكان الأرض. ويتناول الكتاب هذه النقطة المهمة بتوسع وتفصيل، ويتوقع حدوث تطور كبير في الأداء التجاري والتواصل الاجتماعي بفضل الانتشار واسع النطاق للأجهزة الذكية مثل الهواتف المحمولة «الموبايل» وأجهزة الكمبيوتر اللوحي حتى في الدول الفقيرة، متوقعاً انخفاض أسعارها إلى الحدود التي تجعلها في متناول كل سكان الأرض بما في ذلك مواطنو الدول الفقيرة. ويضرب عن ذلك العديد من الأمثلة المستقاة من الواقع القائم اليوم نختار منها شرحه للتأثير الإيجابي الفعّال للهاتف المحمول (الموبايل) على أداء «صيّادات الأسماك» الكونغوليات في نهر الكونغو، وهنّ اللائي يحتكرن العمل في هذه المهنة بدلاً من الرجال. وفيما كنّ في سابق الأيام يأتين بصيدهنّ إلى السوق لينتظرن الزبائن، فلقد أصبحن الآن ينتظرن على خط الهاتف المحمول حتى تأتيهن طلبات الشراء من الزبائن وهنّ في عرض النهر فيقمن باصطياد الكميات من الأسماك بحسب الطلب ثم يتوجهن إلى مكان وجود الزبائن على الضفاف لتسليمها. ولقد وفرت هذه الطريقة الكثير من الأموال اللازمة لشراء ثلاجات حفظ الأسماك، وأصبح الزبائن راضين عن شراء الأسماك الطازجة. ومن بين الفوائد الأخرى التي تترتب على هذه الطريقة في بيع المنتوج هي أن الصيّادات وفّرن تكاليف استئجار دكاكين في سوق السمك وما يترتب عن ذلك من دفع قيمة الإيجار وفواتير الكهرباء والحراسة والتنظيف، كما تسمح هذه الطريقة بتجنّب حالات الصيد الجائر لأن الصيادات يأتين بالأسماك وفقاً للكمية المطلوبة. طفرة «المحمول» وأمام الفوائد المتعددة للهاتف المحمول، لم يعد من المستغرب أن يقفز عدد مستخدميه في أفريقيا إلى أكثر من 650 مليوناً بالرغم مما يعرف عن هذه القارة من أنها تضم أكثر سكان العالم فقراً. وخلال عام 2013 بلغ عدد أجهزة «الموبايل» في قارة آسيا أكثر من 3 مليارات جهاز. وبالرغم من هذه الوفرة في أعداد الأجهزة الهاتفية المحمولة في الدول الفقيرة إلا أن استعمالها يقتصر في معظم الأحيان على التطبيقات الأساسية الرخيصة مثل التحادث وتبادل الرسائل النصّية لأن المشتركين في خدماتها غير قادرين على دفع تكاليف الحصول على خدمات الإنترنت، إلا أن هذا الحال سوف يتغير خلال السنوات المقبلة عندما سيتم توفير هذه الخدمات بأسعار منخفضة أو مجاناً. ومن المنتظر ظهور أجيال جديدة من الهواتف الذكية المجهزة ببرامج تطبيقية متخصصة بحل الكثير من المشاكل بما فيها إنجاز المعاملات والحصول على تراخيص العمل وإنجاز عمليات البيع والشراء. تفوّق البشر الافتراضيين ويتناول الكتاب ظاهرة أخرى ذات أبعاد اجتماعية مهمة بعد أن أصبح معظم الناس ينتمون إلى العالم الافتراضي، بالإضافة لانتمائهم إلى العالم الحقيقي. ويتوقع المؤلفان أن يتجاوز «عدد السكان الافتراضيين» virtual population في العالم «عدد سكان الأرض» خلال العقد المقبل. وسيحدث هذا عندما يصبح كل إنسان ممثلاً على خط الإنترنت بطرق مختلفة ومتعددة وحيث ستكون له شخصية متميزة على «فيسبوك» وأخرى على «تويتر» وثالثة على «لينكد إن» وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى حساباته على مواقع البريد الإلكتروني. وهذا يعني بكلمة أخرى أن الإنترنت «استنسخت» من كل واحدِ منّا عدة شخصيات قادرة على التفاعل مع بيئتها الاجتماعية الافتراضية التي تفتقر للحدود والمعالم الفاصلة. ويقول المؤلفان إن هذه الظاهرة خلقت مجتمعات نشيطة جديدة يمكنها أن تضاعف عدد سكان العالم من دون أن تستنزف الموارد الطبيعية أو تزيد من التلوّث الذي تعاني منه الأرض. ولعل الأهم من كل ذلك هو أن «البشر الافتراضيين» هم أكثر إنتاجاً للبيانات من البشر العاديين. وبما أننا نعيش عصر المعلومات والبيانات، فإن ذلك يعني أن «البشر الافتراضيين» هم «المواطنون المنتجون الحقيقيون» للثروة. وعندما يبدأ الإنسان الافتراضي نشاطه على مواقع الإنترنت، فإنه يثري الخزين المعرفي العالمي ببيانات جديدة نافعة في العديد من المجالات والتطبيقات ذات العلاقة المباشرة بترقية الحياة العادية للبشر. وصحيح أن هذا الحكم لا ينطبق على كل الحالات بسبب الوجود الدائم لدعاة نشر المحتويات البذيئة وغير الأخلاقية أو التي تشجّع على التطرّف والإرهاب في بيئة الإنترنت، إلا أنه يمثّل القاعدة العامة، وهو الذي يعمل الآن على صياغة أسلوبنا المقبل في الحياة. ولا شك أن هناك الكثير من العمل المطلوب لحماية خصوصياتنا وأمننا الاجتماعي في ظل الوجود الدائم للباحثين عن الشرور وتهديد الأمن الجماعي للبشر، وهي القضايا التي يعالجها الكتاب بكل تفصيل في (الفصل الخامس) الذي يتعرض لكل من الأخطار والأساليب التي توفرها التكنولوجيا الرقمية للتصدي لها. محاولات فاشلة لـ«بلقنة الإنترنت» وتكمن أهم المشاكل التي تكمن في الإنترنت في أنها تمثل «فضاءً هائل الاتساع لا يخضع لأي قانون». ولعل الأهم من هذا وفقاً لما يقوله الخبراء، هو أنها مصممة بحيث لا يمكن للدول المنفردة والمجتمعة أن تتحكم بطريقة عملها أو تضع لها ضوابط جديدة. كما أن التصميم البنائي الافتراضي لشبكة الإنترنت المبني على أساس «اللامركزية»، أفشل جهود الأطراف التي حاولت التحكم فيها. وبقي هناك بعض القدرة لدى الحكومات للتحكم «بآليات» عمل الإنترنت. وتأتي هذه القدرة من أن شركات الاتصالات تستطيع التحكم في إجراءات توصيل الخدمة إلى المشتركين عن طريق البنى التحتية المخصصة لتوزيعها عليهم. ومن المعروف أن شركات الاتصالات الحكومية التي تتكفل بتزويد المواطنين بالخدمة يمكنها أن تتحكم في المحتوى الرقمي المتدفق من خلال حجبه أو السماح بمروره. ومن أمثلة ذلك أن إيران حجبت موقع «يوتيوب» بشكل كامل عن مواطنيها، وعمدت الصين إلى حجب أشهر المواقع الاجتماعية مثل «فيسبوك» و«تويتر». وعملت بعض الدول على بناء شبكة الإنترنت الخاصة بها بحيث تخدم أغراضها الخاصة. وفي «الإنترنت الصينية» مثلاً، لا يمكنك أن تعثر على معلومات أو بيانات تتعلق بنشاط جماعة «فالون جونج» Falun Gong المعارضة، ولا يمكن لأي صيني أن يطلع على المعلومات المتعلقة بأهم الانشغالات السياسية لعامة الشعب الصيني ومنها التظاهرات الدامية التي شهدتها «ساحة تيانمين» عام 1989 والمذبحة التي أعقبتها، ولا عن نضال شعب التيبت بزعامة الديلاي لاما للمطالبة بالحقوق المدنية. ولا تتضمن «الإنترنت الصينية» أية معلومات تتعلق بحقوق الإنسان أو الإصلاحات السياسية أو أي معلومة يمكن أن تسيء للسلطة السياسية. وكان لبعض أعرق المؤسسات الإعلامية الغربية أن تدفع الثمن عندما عمدت إلى التطرق لهذه الأمور ومن أشهرها موقع «بلومبيرج نيوز» الذي تم حجبه في الصين بنسختيه الإنجليزية والصينية لأنه نشر في شهر يونيو 2012 تقريراً مفصلاً عن الثروة الطائلة التي تمتلكها أسرة «زي جيانبينج» الذي كان في ذلك الوقت نائباً لرئيس الدولة، وهو الآن رئيس جمهورية الصين. وتم حظر صحيفة «نيويورك تايمز» بنسختيها الورقية والافتراضية عندما نشرت معلومات مماثلة عن رئيس الوزراء «وين جياباو». والسؤال المطروح هنا: ما هي النتيجة التي تحققت من حجب هذه المعلومات؟. لقد كانت له نتائج خطيرة على مستخدمي الإنترنت الصينيين العاديين. ومن دون توفر المعلومات حول هذه الظواهر والأحداث، أصبحت الغالبية العظمى من الصينيين لا علم لها بأي من هذه الحقائق السياسية. ولعل الأخطر من كل هذا ما يُشاع من أن المسؤولين الصينيين عمدوا عام 2010 إلى توظيف نحو 300 معلق كمحررين في مواقع الإنترنت لكتابة تعليقات تشيد بالزعماء وبالحزب الشيوعي الذي يحكم الدولة بطريقة القبضة الحديدية. ويضرب المؤلفان أمثلة متعددة حول اتخاذ بلدان أخرى قرارات بحجب بعض مواقع الإنترنت عن مواطنيها بدعوى تضارب محتوياتها مع المعتقدات والثقافات المحلية ومن بينها تركيا التي حجبت ثمانية آلاف موقع على الإنترنت من بينها «يوتيوب». إلا أن المبالغة في اتخاذ مثل هذه الإجراءات يمكن أن تجعل الحكومات عدوة لشعوبها. ومن المتوقع أن تتواصل هذه الإجراءات، وسوف تشعر كل حكومات العالم المؤيدة لزيادة الرقابة على الإنترنت بأنها تخوض حرباً خاسرة لأن الإنترنت هي البيئة الافتراضية التي لا تتوقف عن التطور والتغيّر والقدرة على الاختراق. «التحرير الجماعي» ويكمن الحل المستقبلي لهذه المشكلة في أسلوب «التحرير الجماعي» collective editing لمحتوى الإنترنت الذي يمثل من وجهة نظر مؤلفي الكتاب الحلّ المنطقي بالنسبة للكثير من الدول ذات الحساسية الثقافية والسياسية المفرطة. ولا يعني هذا الأسلوب بأي حال تغيير محتوى الإنترنت أو آلية عملها، بل يسعى من خلاله معلّقون متخصصون إلى إضافة نصوص جديدة لتصحيح وتعديل بعض المفاهيم المطروحة والترويج للأفكار والمعلومات التي يرغبون في طرحها. وسوف تبقى المعتقدات الأيديولوجية والدينية القوة المحركة الأساسية لهذا العمل الجماعي. «الهويّات الافتراضية المتعددة» يمكنها أن تخلق الكثير من المشاكل الأمنية. ولقد بدأت حكومات بعض الدول تستشعر خطورة «الوجود الافتراضي» لأشخاص غير موجودين على أرض الواقع، وهم الذين يطلق عليهم مصطلح «البشر المتنكرون». وسوف تكون لهذه المشكلة علاجها الأمني المناسب خلال السنوات المقبلة عندما ستتدخل السلطات المختصة للتحقق من البيانات الشخصية لكل صاحب حساب على المواقع الاجتماعية بطريقة إلكترونية واعتماداً على برمجيات معقدة سوف تظهر إلى حيّز الوجود قريباً. وهذا لا يعني أن التحديات والمشاكل الاجتماعية والأمنية الخطيرة ستزول من العالم الافتراضي. إريك شميت وجاريد كوهين ترجمة وعرض: عدنان عضيمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©