الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التنوير بـ«الإظلام»

التنوير بـ«الإظلام»
4 ديسمبر 2014 00:30
عندما نتكلم على الثقافة العربية هنا، فإنما نقصد على وجه التحديد، الثقافة بجانبها الفكري الاستراتيجي، والذي يفترض بممثليه أن يكونوا فاعلين ومتفاعلين مع محيطهم المحلي والإقليمي.. واستطراداً العالمي، خصوصاً في هذه الظروف الحرجة والمصيرية التي يمر بها الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه. مفكرو هذه الأمة الجدّيون، هم بمعظمهم خارج الفضاء التداولي إذن. لقد نفوا أنفسهم، أو عُمل، وبطريقة غير مباشرة، على دفعهم لنفيها.. لا فرق.. بحكم إطباق ثقافة الكهوف والقبور والتسطيح والجهل على كل ما عداها في يوميات حياتنا العربية الراهنة، حيث بتنا خاضعين، مع الأسف، لثقافة «دعاة» ومحازبين إسلامويين (ليسوا إسلاميين إلا على سبيل الادّعاء) يتقيأون الدم والنار، ويمعنون في تدمير الدين الحنيف نفسه، قبل تدميرهم مجتمعاتنا، ونواة دولنا المدنيّة الحديثة، التي قطعت شوطاً، ولو أولياً على طريق النمو والتحديث. لقد فصّلوا «إسلاماً» على مقاسهم، وراحوا يُسوّقونه كبضاعة إيديولوجية، دنيوية وأخروية، عمادها العنف والقتل والذبح وإلغاء الآخر.. أي آخر، خارج جماعتهم وفسطاطهم وهيمنتهم الفاجرة المتسلّطة. إننا إذن أمام حالة تشويه مبرمج ومعلّب للإسلام والقيم الإسلامية الوسطية، المتسامحة، تنتج استبداداً «دينياً» من نوع آخر غير مسبوق في حياتنا العربية الإسلامية، ويُراد منه، ليس وضع الدين في سوق نخاسة سياسية مبتذلة، تشبه تخلّفهم وجنونهم الأبلق فقط، وإنما تسميم الحياة العربية الطبيعية نفسها، وترسيخ ثقافة السواطير والموت فيها، وتحويل مجتمعاتنا وبلداننا إلى مستنقعات كل ما فيها آسن ومغرق في العفونة. وقد لا يكون من باب المبالغة القول بعد إنهم يريدون تدمير الهويات المجتمعية والحضارية المؤسسة تاريخياً في نسيج واحد في هذه المنطقة العربية - الإسلامية، ومحو خصائص تفرّداتها وثقافتها التي درجت عليها، واحترمت خلالها إسلام الآباء والأجداد ودرجت عليه، كما تقتضي تعاليم القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة. الموقف التنويري للإمارات وهنا، ومن غير محاباة ولا تزلّف، أود أن أحيي موقف دولة الإمارات العربية المتحدة الأخير، القاضي بوضع هؤلاء الإسلامويين، بكامل أحزابهم وتياراتهم وفصائلهم ورموزهم، على لائحة الإرهاب والملاحقة القانونية. وإنني أرى في هذا القرار موقفاً ثقافياً استثنائياً قبل أن يكون موقفاً سياسياً بعينه. نعم، إنه موقف تاريخي وشجاع، بل وفي قمة الشجاعة والمسؤولية التاريخية، بخاصة لجهة تسميته الأشياء بأسمائها، وتحمّله تبعات نتائج ردود أفعالهم الهادرة والمهدّدة بالويل والثبور وعظائم الأمور، كيف لا وهم خبراء بصناعة الانتقام ولو بعد عشرات السنين. ونسارع للقول، انطلاقاً من هذا الموقف الفاصل والمصيب، إن على كل مثقف عربي غيور على أمته، ودينه الحنيف، وتراثه العربي الحضاري والإنساني، أن يصطف مع موقف الإمارات السيو - ثقافي هذا، وإظهار أن ثمة جهة سياسية عربية رسمية تنويرية تؤازره ويؤازرها، فيقوى بها، وتقوى به، خصوصاً عندما يتحوّل هذا المثقف إلى حالة ثقافية عريضة ترفض التخبّط الظلامي الحالي، ونمذجة التعوّد على الانكفاء والهروب من المسؤولية. ونتساءل بعد، لحساب من يعمل هؤلاء الإسلامويون بنشرهم ثقافة الفتنة والاقتتال الأهلي وتمزيق الجغرافيا العربية بناسها وتاريخها وتقاليدها الموروثة منذ آلاف السنين؟ ثمة على ما يبدو صفقة، بل صفقات، يعقدها هؤلاء مع كل من يتنسّمون فيه القوة والمقدرة على إيصالهم إلى سدّة السلطة أو الحكم، حتى ولو كان الثمن تحويل البلاد والعباد إلى حطام لا قعر له ولا حدود. وما يلعبونه حقيقة، هو ترجمة عملية باهرة لحلم فلاديمير جابوتنسكي (قيادي متقدم في الحركة الصهيونية) الذي كان وصفنا منذ أكثر من قرن من الزمان بأننا، عرب ومسلمون، لسنا سوى «كتل عصبية دينية متذرّرة، طاعنة في التخلّف، ويأكل بعضها بعضاً»، وعليه «فلنشعل النار فيهم لنتدفأ بها في الشتاءات القوارس، ونحقق مصالحنا في قيام دولتنا اليهودية الموعودة ما بين النهرين». والمعروف عن جابوتنسكي أنه كان قائدا للكتيبة رقم 38 في الجيش البريطاني، والتي دخلت الأردن وفلسطين في العام 1917، ويقال إنه هو الذي نصح البريطانيين في العام 1925 (بُعيد إنشائه «حزب الصهيونية التصحيحية») بتأسيس منظمة دينية إسلامية متطرفة لامتصاص صدمة جموع المسلمين مسبّقاً، وذلك في حال الإعلان عن قيام دولة إسرائيل لاحقاً، فكانت حركة «الإخوان المسلمين» التي أسسها الشيخ حسن البنا في العام 1928 في مدينة الإسماعيلية، وبدعم مالي ولوجستي بريطاني موثق في كتب التاريخ ذات الصلة بتاريخ الجماعة.مهما يكن من أمر، فإن عمى السلطة والسلطان هو الذي حرّك ويحرّك الإخوان المسلمين وأضرابهم في غير دولة عربية وإسلامية، بخاصة في مصر التي وصلوا إلى الحكم فيها في غفلة عن الناس والزمن، حيث حكموا سنة واحدة على إيقاع قول محمد مرسي: «سنحكم مصر 500 سنة».. هكذا بلا وجل، باح هذا الرجل في إحدى خطبه أمام «مرشده»، وسائر أعضاء مكتب الإرشاد في المقر العام للجماعة في المقطّم. فصفّق له جميع من كان في القاعة، وفي مقدمهم القيادي الإخواني المعروف خيرت الشاطر الذي صرخ بصوت جهوري: «سنحكمها إلى الأبد يا ريس.. أيوه إلى الأبد يا ريس». هذا هو إذن مفهوم الديمقراطية عند الإخوان: استخدام آلياتها مطية لمرة واحدة فقط، ومن ثمّ دفنها مدة 500 سنة قابلة للتجديد. ويمكن القول بيقين إن وصول الإخوان إلى السلطة، لا علاقة له بأي جهاد بالمعنى الديني للكلمة، ولا بأي نمط من أنماط التقوى أو الورع الدعوي. هم طلاب سلطة فقط، ولأجل شهوة الانتقام من 80 سنة خلت لم يحكموا فيها أرض الكنانة. طبعاً الميكيافيلية لديهم تطغى على كل مبدأ أو مقدس ديني. همّهم الوصول إلى مبتغاهم السياسي، حتى ولو نفّذوا شروط أعداء الأمة من إقليميين ودوليين، ولو أدّى ثمن ذلك إلى تحويل الشرق الأوسط برمته إلى «تلال من الجماجم»، على حد تعبير ألفرد س. بفاف. غير أن الشعب المصري فاجأ الجميع في 30 يونيو 2013، ووجه صفعة مدويّة وحاسمة للإخوان.. فاجأهم بثورة ملايينه الـ33 التي فاضت بها مدن وشوارع وساحات مصر كلها، هاتفة بصوت واحد ضد مرسي وبطانته: «ارحل». نعم قال الشعب المصري كلمته، وآزره فيها جيش مصر العظيم، حامي البلاد، وضامن سلامتها عبر الحقب المختلفة، منذ الفرعون «مينا» موحّد القطرين، مروراً بأحمد عرابي، ووصولاً إلى عبد الفتاح السيسي. المثقف وإنتاج الوعيفي المحصلة، ومهما تخثّر دور الثقافة العربية، ومعها، استطراداً، دور المثقف العربي، فلا بدّ من أن نلوذ بالثقافة، لنقاوم ما نحن فيه من تخلّف وهزال ثقافي عام، مترع بالخرافة والعظائيات على أشكالها، فالثقافة المتجددة والحديثة في نهاية المطاف هي القلعة الأخيرة للدفاع عن الأمة وشخصيتها، وبلورة معناها بين الأمم والشعوب. والمثقف، مهما كان وضعه، وكانت قلة حيلته، فإنه يظل مسؤولاً وضميراً حياً في المقام الأول، وعليه بالتالي أن يؤدي وظيفته على أكمل وجه، إن في التثقيف والتنوير، وإن في ردم الهوّة بين الثقافة والسياسة، وبين هذين الأقنومين من جهة، والرأي العام من جهة أخرى عبر جدلية تظل تتجدد بالمعاني، وبالمنهجية الصارمة، والاتزان في الأحكام، وممارسة النقد على نفسه، وعلى الآخر في آن معاً. صحيح في المقابل، أن الكثير من مثقفينا ومفكرينا العرب هم حيارى وضائعون اليوم في متاهات عدة: متاهة الأفول لانعدام الدور، ومتاهة الهرب لأنهم لم يعودوا مقبولين في مجتمع الاستهلاك، ومتاهة الصمت لعجز عن المواجهة، ومتاهة التدجين، لأن ثقافة الشعارات والمزايدات هي الغلاّبة على ما عداها.. صحيح كل هذا، لكن على المثقف أيضاً أن يظل متسلحاً بوضعية من يقبل التحدي والمجازفة حتى بنفسه، ويرفض بالتالي النزول من رتبة «الذات» المفكرة، الحرة، إلى رتبة المخلوق الضعيف وجودياً، والقاصر روحياً، والتابع عقدياً، والمبايع سياسياً، والخطّاء أخلاقياً. المثقف بالضرورة مشروع شهيد، لأن فكره الأعمق لا يعني له، في المحصلة، غير الانعتاق، ونقاء الإقامة في طبيعته الحقة كإنسان. ثم إن مصطلح المثقف مصطلح عام ومتعدّد المعانى، لكنه على تعدديته فيه، لا يأخذ المثقف (على مختلف الاختصاصات والاتجاهات) معناه وفاعليته إلا في مجتمع المعرفة وإنتاجيتها الخلاقة. ومع الأسف، فإن مجتمعاتنا العربية تثبت كل يوم أنها مجتمعات فاقدة للرغبة في إنتاج المعرفة، أو حتى التهيؤ لإنتاجها. ولأجل ذلك تلتهمنا المأساة في بلادنا كل يوم، ونقف على أرصفة التاريخ مبللين بانكساراتنا. نحن هنا لا نتحدث عن الثقافة في الهواء الطلق، فالتحدي كبير جداً، إن لم يكن مفصلياً وملحمياً، إزاء هذه الكوارث، أو الجائحات الكبرى التي تتدفق علينا، ويومياً، من كل حدب وصوب لتستأصل وجودنا وهويتنا، ليس في الحاضر فقط وإنما حتى من الماضي والمستقبل معاً. والسؤال الملح الآن، هل المثقف العربي، إلى أي جهة إيديولوجية انتمى، لديه الاستعداد لمراجعة الذات ونقدها بعد كل هذا الذي جرى ويجري في بلادنا؟ ثم على المقلب الآخر، من تراه سيوفر للمثقف الحر والمستقل بحق، الحد الأدنى من حاجاته المباشرة ليبقى حراً ومستقلاً؟ إذ كيف يفلح رجال الثقافة الثقات في أداء أدوارهم الثقافية النهضوية، إذا كانوا منشغلين ليل نهار بتحصيل أقوات عوائلهم؟ وما دمنا نتحدث عن الثقافة في إطار السياسة.. وبالعكس، فإنه يصح قول البعض هنا بضرورة إيجاد «رقابة ثقافية» على السياسة، لأن المثقف المتجاوز يستوعب السياسة جيداً، ويستطيع بالتالي أن ينقذ تصرفات السلطة بوعي وإيثار، لأنه في المحصلة لا يريد أن يحل محلها، وإنما يريدها أن تتحول إلى نظام عادل دوماً، ولا يخاف من الحرية، فتكتمل به ويكتمل بها. هل سنظل في حداد ثقافي على الثقافة العربية؟ سؤال لا ندّعي الإجابة عنه البتة، لأن كل حراك، أو مشروع ثقافي نهضوي بديل، هو تاريخ التحوّلات أصلاً. كما أن التنوير المنشود لا يريد أن ينير الظلام، ولكنه يريد أن يقطع معه.. وإن لم تتحقق القطيعة، جاء التنوير وكأنه شكل من أشكال الظلام. أخيراً، يستحوذ عليّ سؤال أدعو الجميع إلى محاولة معالجة مضاعفاته أكثر من الإجابة النظرية عنه: عربياً لماذا فجأة، وأكثر من أي وقت مضى، أصبح الماضي مؤسسة واسعة النطاق لإنتاج المستقبل؟ ما هو فضل جابوتنسكي على حسن البنا؟ هامش مصر وجيشها لا بدّ من الإشارة إلى أن ثمة علائق حميمة خاصة وراسخة بين شعب مصر وجيشها، وهي قديمة قدم مصر ومركزيتها المزمنة. وهذه الوشيجة يندر أن نجد مثيلاً لها بين باقي شعوب العالم وجيوشها. وقد أكّد هذا الأمر المؤرخ البريطاني العالمي آرنولد توينبي، وكذلك المؤرخ العربي الكبير فيليب حتي. كما أكده د. جمال حمدان، أحد أكبر علماء الجغرافيا السياسية العرب والأجانب في القرن العشرين، بخاصة من خلال كتابه العظيم: «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©