الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين المتن والهامش

بين المتن والهامش
4 ديسمبر 2014 00:30
محمود بري من غير المختلف عليه أن خفوت الصوت الثقافي الحرّ في العديد من البلدان العربية، هو نتيجة وصدى لظروف الدولة العربية المعاصرة وحيرتها بين التخلّف والقمع من جهة، وتقديس الماضي من عدة جهات ورفعه إلى مصاف المبجّل، الذي لا يجوز مسّه. ذلك أن تحنيط الإرث الثقافي و«تحريم» التجرّؤ على الإضافة إليه والبناء عليه، يحوّل أمجاد أجدادنا وما حققوه من إنجازات مبهرة في الحساب والهندسة والمجتمع والطب والجغرافيا والفلك وخلافها، إلى مجرّد «جثث» منزوعة الروح تنقلب إلى أصنام لا تصلح لغير الاستعراضات الجوفاء ولكي يتكئ عليها النائمون على بَخَر الماضي، ثم يعملون عند الحاجة على التلويح بها كلّما أحرجهم التخلّف وآذاهم رميهم بتهم النكوص والكسل الفكري. لكن.. لماذا لا نترك للمثقفين العرب الطليعيين أنفسهم أن يقدموا رؤاهم و«وصفاتهم» لتدبّر الحلول، وهم الأجدر بتشخيص واقع الثقافة العربية وتوصيف دورها وتنسّم مستقبلها. فماذا يقول بعضٌ من هؤلاء عن دور المثقف العربي ومؤسساته الثقافية في ظل طغيان الانحراف السياسي وسيطرة الجاهليات على اختلافها؟ الدور الطليعي البروفسور هنري العويط، الأمين العام لـ«مؤسسة الفكر العربي» اختصر بالقول، إن الثقافة العربية، كما يبدو له، «تمرّ اليوم بحالة ركود بل تردٍّ، وذلك بسبب هامشيّتها وضعف أثرها في حياتنا، أفراداً ومجتمعات». وهو أرجع ذلك إلى «انحسار الدور الطليعيّ الذي اضطلع به المثقّفون العرب في مراحل سابقة من تاريخنا، قديمه وحديثه. فهم في الغالب الأعمّ إمّا منكفئون وغائبون عن المواقع التي ينشط فيها أهل الفكر عادةً، أو منفيّون طوعاً وبمحض إرادتهم داخل بلدانهم أو خارجها، وإمّا مغيّبون تعسّفاً بقرارات الرقابة القمعيّة، أو من جرّاء أجواء الإرهاب التي تشيعها ممارسات قوى الجهل والتكفير الظلاميّة». وتابع قائلاً : «ربّ سائلٍ يسأل: ولكنّ دور المقّفين إنّما يبرز في خضمّ الأزمات المصيريّة التي تتعرّض لها الشعوب والأمم، فأين مثقفّونا وعالمنا العربيّ يعاني ما يعانيه من ضياعٍ وتشرذم وانقسامات، ويواجه تحديّات لم يخبر منذ زمن بعيد ما يضارعها جسامةً وخطورة»؟ هل ينقصنا مثقفون؟ الجواب الأقرب إلى الحقيقة والصواب قد يكون هو أنّ في العالم العربيّ مثقّفين أفراداً، ولكنّنا نفتقر إلى مجتمعات تُعلي شأن الفكر، وتُبنى على المعرفة الخلاّقة، وتُقبل أيضاً على إنتاجها. ونحن نفتقر بالتالي إلى حراكٍ ثقافيّ فاعل ومؤثّر. وأمّا إمكانية الخروج من هذا الواقع المحبط والمخيّب فرهنٌ بقيام مؤسّسات تعمّق وعينا، حكاماً ومسؤولين، ومواطنين، بما للثقافة من أهميّة حيويّة، وتعنى بتنشيطها وإحيائها وتوليدها ونشرها، وبتفعيل دورها في المجالات المختلفة وعلى المستويات كافّة. اليقظة والثباتيرى د. أنطون سيف (الأمين العام للحركة الثقافية- انطلياس)، أن الثقافة بالمعنى المتداول عندنا، تتخذ معاني خلاصية تشبه إلى حدٍ كبير وقع الجرس الذي يُنذر بالصدمة لليقظة بعد سُبات.. وذلك اختصرناه يوماً بمصطلح «النهضة»، التي راهنّا عليها، ولا نزال، وحمّلناها آمالنا الكبرى، من غير الالتفات كثيراً إلى واقع «العُمّال» الذين ينبغي أن يقوموا بهذه الأعباء والذين هم نحن جميعاً، ومن غير استثناء. ألسنا نحتاج إلى تدبّر حاضرنا مع أثقال ماضينا؟ الدعوة إلى إعادة النظر بمقولالتنا الموروثة العتيقة التي لها حرّاسها العُتاة والذين يزدادون عُتوّاً، وحرّاسها المرتعبين فعلاً، المستبدّين مظهراً، المتواطئين مع أولئك في العمق المنظور وغير المنظور. لقد تُرك للثقافة حرية الصراخ في صحراء أو في وادٍ... الحقائق صعبة المراس بطبعها، ولكنها مع كل ذلك تبقى والثقافة متلازمتين، في نكساتها كما في إنجازاتها المحدودة. إنها الدرب الأسلم نحو المستقبل الذي تحاول دوماً تقليص المسافة الزمنية، مسافتنا العربية الزمنية، إليه. ماذا عن دور المثقف العربي اليوم في ظل طغيان الانحراف السياسي وسيطرة الجاهليات على اختلافها؟ البحث عن المثقف اليوم، مع اتساع التعليم وشهاداته الكثيرة حصر المثقفين، والمقصود هنا العرب تحديداً، في وسائل الإعلام وفي أساتذة المدارس والجامعات عموماً. فالنقد لأولئك يعني تحديداً هؤلاء لأنهم على تماس مباشر مع جماهير التلامذة والطلبة والقرّاء، أي باختصار ناقص «جماهير» شعبية عامة. هذه «الطلّة» بمعناها العام أي الفارغ عموماً، هي المحددة للمثقفين مع نسيان ثقافة هؤلاء، والثقافة التي يوزعونها وفقاً للمناهج والبرامج، ونسيان اندحار القراءة وانتشار الأمِّية التي تعني الجهل بتقنيات «فكّ الحرف» واستخدامه، وبخاصة الأمية المدرسية المتوسِّعة، غير المتخصصة، والمقتصرة عموماً على مجرّد «فكّ الحرف». عنصر مضيءيعتقد د. رياض زكي قاسم، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الجامعة اللبنانية سابقاً، أن أمَّتنا في خطر! فـ «الثقافي» يُدرَس ويُمارَس بمعزل عن «الاجتماعي». وما الجنوح السياسي المتطرِّف إلا مؤشِّر إلى انتفاء وصل العلاقة بين ظواهر التآلف الثقافي وأطر بنيتها الاجتماعية. وإذ يتساءل د. قاسم عن كيفية إعادة مَوْضَعَةِ ذلك، يجيب: قد يكون الجواب في تقديم عنصر مضيء يُشكِّل تربة صالحة لاستنبات ثقافة قادرة على نشر التفكير العقلاني؛ تِلك هي ثقافة «الوسطية»، أو لِنَقُل «الاعتدال». ويتابع: في تقليب أوجه تعريف هذه «الوسطية» نتجه رأساً إلى جدواها، أي إقامة التوازن، وهو ما ينفي عنها، أولاً، ظاهرة التوفيق، أو المصالحة العابرة. ثم نشير إلى الضدّ كي نعيّن الوجه المقابل للوسطية؛ عنيتُ الجنوح وسيطرة الجاهليات في الفكر والسلوك. عَوْدٌ إلى «الوسطية»، وبدءاً بقوله تعالى: ?وكذلك جعلناكم أُمّةً وسطاً?، محاولين أن ندركها ثقافةً، تشكّل مرجعية، قوامها تعدد موارد العطاء والتوازي بين مساراته، سواء في ذلك الناس في الوطن، جميعاً؛ والتواصل مع البُناة، إعلاءً لمبدأ التشارك والتعاون، وتعزيزاً للتجاور بين الأشياء، بما يكون عماده احترام قاعدة الاختلاف والتنوع والتمايز؛ وكذلك انتهاج العمل بأعذار الخلق والتيسير عليهم، شريطة ألاّ يتصادم مع أصول المعتقد. هذه الثقافة بمبادئها وكلياتها، سوف تأخذ حيويتها في الفكر والسلوك متى ارتضينا أنها ليست منتسبة إلى أحدّ من الناس، لكن الناس هم المنتسبون إليها. لا يصح القول إن الثقافة العربية اليوم في أزمة، بمعنى أن ثقافتنا وحدها هي المأزومة. فالثقافة عموما،ً في كل بلد وكل أمة وكل زمان، تتعايش مع الأزمة على الدوام، بل إن حالة الثقافة ودور المثقف إنما يتجلّيان في غمرة الأزمات. رسالة الثقافة أساساً أن تتصدّى للأزمات وأن تنفذ منها وبها، إلى الفضاء النظيف. وكما تولد المعرفة من الثقافة، تنبت الثقافة وتُزهر وتُثمر في تربة الأزمة. هنا يبتدئ دور المثقف ومهمته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©