الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأقلية الفاعلة

الأقلية الفاعلة
4 ديسمبر 2014 00:30
فائزة مصطفى في العاصمة الفرنسية وحدها، يستحضر حوالي مائتي عنوان ملامح الثقافة العربية مثل: المكتبات، الأروقة الفنية، مسارح، مقاهٍ موسيقية، مطاعم شرقية ومحال الصناعة التقليدية..، كلها تعبر عن مدى تجذر الجالية العربية وانصهارها في قلب النسيج الاجتماعي الفرنسي، وتملك الكثير من الدول العربية التي لها علاقات دبلوماسية مع فرنسا مراكز ومؤسسات ثقافية، تنشط على مدار السنة، وتستقدم مفكريها ومبدعيها وتظهر أعمالهم وغالباً ما تترجمها إلى لغة موليير، مثل: دار المغرب، المركز الثقافي الجزائري، والمصري الخ.. وفي المقابل، توجد مؤسسات ثقافية فرنسية تخصص بشكل يومي برامج تعنى بالفنون والآداب العربية، وأصبحت مواعيدها مهمة، تستقطب الآلاف من الباحثين والإعلاميين والمفكرين والسياح الفضوليين لمعرفة حضارة الشرق، والاطلاع على واقعه الذي طالما شكلت أحداثه واجهة الأخبار اليومية، ويشكل معهد العالم العربي الوجهة الأولى، حيث قدم خلال السنوات الأخيرة مشاريع وإنجازات ضخمة ذات بعد عالمي، أبرزها هذه السنة معرض فن المغرب المعاصر، إلى جانب معرض آخر يحتضنه متحف اللوفر الشهير حول تاريخ العصور القديمة لهذا البلد الاستثنائي، حيث يظهر المعرضان الضخمان مدى العمق التاريخي للبلد الأصلي للجالية المغاربية، لكونها تشكل 82 بالمائة من مسلمي فرنسا، وأقيم معرض قطار الشرق ثم معرض الحج الذي يعد الأول من نوعه في العالم، وتم تنظيمه بالشراكة مع مكتبة الملك عبد العزيز في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وأظهر المعرض طيلة ثلاثة أشهر كاملة طقوس أحد أركان الإسلام في قلب أهم عاصمة أوروبية، ليكون الحدث انتصاراً لرسالة الحضارة الإسلامية القائمة على التعايش والسلم، خاصة أن افتتاحه تزامن مع تصاعد وتيرة العنف والتعصب الديني في المنطقة العربية، وانتشار صور الممارسات الوحشية التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية باسم الدين الحنيف في العراق وسوريا، ولم ينجح المعهد بفضل ثراء برنامجه الفني والأدبي في إبراز تاريخ المنطقة العريق، بل يظهر الطاقات الإبداعية الشبابية، التي تنبئ بمستقبل واعد للحركة الثقافية العربية، وهو ما يظهر من خلال تألقهم وتميزهم في اللقاءات الأدبية والمواعيد السينمائية والتشكيلية التي يقيمها المعهد طيلة أيام السنة. نشاط بارز وعبّر جاك لانغ وزير الثقافة الفرنسي السابق والمدير السابق لمعهد العالم العربي، عن أهمية الفعاليات الثقافية التي تقام فيه قائلاً: لقد أدرك زوار المعهد أن فرنسا، خاصة مدينة باريس، تستقبل كل القادمين إليها، وتربطها علاقات قديمة بالمشرق والمغرب العربيين، وعن أهميته كمؤسسة في درء ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تغذيها الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للجالية العربية، يرى لانغ أن معرض الحج مثلاً «ساهم من دون شك في تصالح الصدام الحضاري، وقارب بين مختلف الديانات الموجودة بفرنسا».. وكشف لانغ أنه يتم التحضير لافتتاح معرض ضخم يبرز جماليات اللغة العربية قد يكون نهاية الشهر القادم. وهناك مشروع لتأسيس معاهد ومدارس لتعليمها في مختلف مناطق الفرنسية. ويعد مركز ثقافات الإسلام بباريس وجهة للمفكرين والفنانين المسلمين أو المهتمين بالثقافة الإسلامية، ونقطة تقاطع الباحثين والفلاسفة، حيث تعالج الكثير من المسائل الدينية والثقافية برؤية علمية وفلسفية، ليكون ذلك امتداداً وتكاملاً مع الدور الذي يلعبه مسجد باريس وبقية المراكز الإسلامية، ويكمن دورها أكثر في تعريف الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين على مبادئ دينهم السمحة بعيداً عن الأفكار المتطرفة التي تنتشر عادة في الضواحي الباريسية، والأحياء الفرنسية الفقيرة، حيث توجد شبكات منظمة لاستمالة الشباب المسلم نحو التعصب ورفض الآخر، بل وهناك من يعمل على تجنيدهم لالتحاق بالحركات الجهادية في المنطقة العربية. ويحرص الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند شخصياً على افتتاح العديد من المعارض التي تهتم بالثقافة العربية والإسلامية، وعليه يرى الكثير من المحللين أن ذلك يحمل دلالات سياسية قوية، تعبر عن الاعتراف القاطع بتجذر الإسلام والمسلمين في المجتمع الفرنسي، بل وهناك العديد من المسؤولين النافذين ووزراء في الحكومة الفرنسية من أصول عربية ومسلمة، وقد تزايد عددهم في حكومة مانويل فالس الثانية بشكل لافت، فيما تعود علاقات التعاون بين فرنسا وهذه المنطقة إلى الاتفاقيات المبرمة بين الملك فرنسوا الأول والخلفاء العثمانيين منذ قرون طويلة، وحضور ملامح هذا التعاون ظاهر في المدن الفرنسية، حيث تتحول باريس إلى مدينة عربية في الكثير من المناسبات. بين السياسة والثقافة فيما يرى محللون آخرون أن هذه المؤسسات الثقافية لا تنفصل عن سياسة النظام الفرنسي، وهي تنفذ أجندتها الخارجية وتلعب دوراً في جلب الأصوات الانتخابية، خاصة أنها تتلقى تمويلاً كبيراً من الحكومة الفرنسية، وتعرف بالثقافات التي تتماشى مع قيمها السياسية، ولا يمكن أن تتوجه هذه المؤسسات إلى الأقليات التي تعارض طرحها الفكري والإيديولوجي، خاصة في حساسية الوقت الراهن، يقول الناشط السياسي كريم حاج مهدي: «صحيح أن هذه المراكز تقاسم أعياد الجاليات العربية والمسلمة، وتحتفي بأيامها الوطنية وبمثقفيها، خاصة الجزائريين بحكم عددهم الكبير في فرنسا، فهم يشكلون نسبة 42 بالمائة من الجالية العربية، ويفوق عددهم سبعة ملايين جزائري في فرنسا، لكن تبقى هذه المؤسسات الثقافية غطاء تتستر به أمام كل ما يثير أحاسيس هذه الجاليات». ويضيف كريم حاج مهدي: «وهذا ما نراه في كل استحقاق انتخابي، وعلى سبيل المثال الزيارات والاهتمام بالمسجد الكبير بباريس كلما اقتربت الانتخابات التشريعية والرئاسية، باعتبار المسجد وعاء انتخابياً مهماً في نظرهم لكسب أصوات المسلمين لصالح برامجهم السياسية، وفي الأخير هناك دبلوماسية المصالح بين الدول وجالياتها، خاصة من الذين ينحدرون من مستعمراتها القديمة». ويعتبر أن الفرنسيين يدركون بأنهم اللاعب الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك هم يبررون مواقفهم عبر تلك الملتقيات والمحاضرات التي لا تخلو من المعطى السياسي، فالشعب الفرنسي في نظر الحاج مهدي يعرف الثقافة العربية والإسلامية جيداً عبر وسائل الإعلام والكتب. وإنْ لعبت الهيئات الدبلوماسية المعتمدة في فرنسا دوراً في إنشاء وتفعيل مراكزها الثقافية في بلاد الأنوار، إلا أن تأثيرها يبقى ضئيلاً، فهي موجهة بالدرجة الأولى إلى النخبة من جالياتها العربية والإسلامية، وقد لا يصل تأثيرها لأبنائهم في الضواحي، فيما يشكل عامل اللغة عائقاً في فهم محتوى الفعاليات التي عادة ما تقدم باللغة الفصحى، التي لا يتقنها أبناء المهاجرين، تقول الشاعرة غادة الأغزاوي وهي إحدى الناشطات الثقافيات في فرنسا: «وإنْ حاولت المؤسسات الثقافية العربية في فرنسا الانفتاح على كل ثقافات منطقتنا، لكن تبقى بعض البلدان مغيبة، وبعض التجارب الأدبية والفنية أيضاً، وهذا لغياب دور المثقفين من أصول عربية الذين يقصون بعض الأصوات في فرنسا أو لا يبذلون جهداً لتقديم الأصوات الجديدة في بلدانهم الأصلية»، وترى غادة الأغزاوي أن أصداء تلك المؤسسات لا تصل إلى أبناء الجالية المهاجرة، بسبب نقص الحملات الدعائية، وبالتالي جمهورها غير متنوع ومحدود، وتضيف: «يجب الرهان على المبادرات الفردية في التعريف بثقافتنا، فمثلاً تجربة مركز «سكريب لارماتون»، فبالرغم من قلة إمكاناته، إلا أن صاحبته تقوم بجهد جبار من خلال الاحتفاء بأعلام الموسيقى العربية، والأدباء والسينمائيين العرب، سواء المقيمين هنا أو في بلدانهم». فيما يثير الإعلامي الفرنكولبناني نادر علوش مشكلة تشتت المثقف العربي في فرنسا، وعدم اتفاق النخبة العربية أو المعربة الموجودة في هذا البلد على صياغة مفهوم موحد للثقافة العربية، ويرى أن عليهم إظهار اختلافاتها وتحريرها من القالب الديني، فهناك ثقافة الأقليات المسيحية والإيزيدية والأمازيغية والكردية التي هي جزء متكامل للثقافة العربية، وهذا ما لا يدركه الكثير من الأوروبيين وحتى أبناء الجالية العربية والمسلمة في فرنسا، ويراهن نادر علوش على مواكبة النخبة العربية للاستثمارات المغاربية والخليجية الكبيرة في فرنسا، بإنشائهم للتكتلات ثقافية قوية وفعالة، ويقول: «سيتحقق ذلك بعد تخلي العرب عن خلافاتهم الثقافية التي ترتبط عادة بانقسامات سياسية، وعليهم الاحتفاء بأعلامهم وفنانيهم وإبراز تنوعهم، من أجل القضاء على الصورة النمطية التي رسمت على منطقتنا». وتقع المسؤولية على المنتخبين الفرنسيين من أصول عربية أيضاً، فيحسب عليهم بأنهم يهملون ثقافات الجالية المهاجرة في برامجهم السياسية، فحل مشاكل العنف في الضواحي وتطرف شباب الجالية التي تتكرر في خطبهم الانتخابية، يكمن في التخلص من الإيديولوجية الدينية والسياسية التي تتنافى مع قيم الجمهورية العلمانية، ولن يتبقى لهم إلا الرهان على العامل الثقافي لتحقيق التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في فرنسا، وإنهاء الصدام الحضاري الذي ينفجر في كل مرة، حيث تلعب الأحزاب اليمينية على حبل أزمة الهوية التي تعاني منها الجالية، وتستغل الفرصة لتمرير خطابها المعادي للهجرة، ولوجود المسلمين في فرنسا. تحضر الثقافة العربية بشكل كبير ولافت في المجتمع الفرنسي وذلك لاعتبارات تاريخية واقتصادية وحضارية أيضاً، فالإسلام هو ثاني ديانة في هذا البلد، وينحدر أكثر من عشرة ملايين فرنسي من أصول عربية، ويمارسون فيها عاداتهم ولغاتهم وشعائرهم. ومواكبة لهذا التنوع الذي تعتبره السلطات الفرنسية سر ثرائها وقوتها، شيدت مؤسسات ومراكز ثقافية فاعلة لإبراز الخصوصية الحضارية للعالم العربي والإسلامي، ولتقديم صورة مشرقة عن هذه المنطقة الغارقة في الحروب والمآسي، وكذا لتصحيح الصورة النمطية التي تروجها وسائل الإعلام الغربية عن الجالية المغاربية، فيما يبقى دور هذه المؤسسات مرهوناً أيضاً بإملاءات السياسة الفرنسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©