الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة مأزومة ووسائل مرتبكة

ثقافة مأزومة ووسائل مرتبكة
4 ديسمبر 2014 00:30
الحديث عن ثقافة الأمًّة هو حديث عن فكرها وقيمها وسلوكياتها وممارساتها الحياتية وإنتاجها المادي والمعنوي وأحلامها وطموحاتها. بهذا المعنى الشامل تعرض الثقافة العربية نفسها كثقافة مأزومة مشوًشة. هناك مظاهر وتعبيرات عدًة تشير إلى وجود تلك الأزمة. هناك الثنائيات المتصارعة الحادة غير المبرًّرة التي تنهكها، من مثل التراث/ الحداثة، الأصالة/ المعاصرة، الدين/ العلم، الرجل/ المرأة، العقلانية/ الإيمان، العروبة والهوية الوطنية/ الهوية القومية. هناك الإصرار المرضي على رفض الكثير من الإنساني العام باسم الخصوصية المنغلقة على الذًات الخائفة من التًّغيير والمتردٍّدة تجاه تطورات المسيرة الحضارية الإنسانية. تخلّف مفجع هناك التخلُّف المفجع في الحقول التي تمدُّ الحداثة بقوًّتها ووهجها:الفلسفة والعلوم الاجتماعية والتكنولوجيا. هناك قضايا وإفرازات التاريخ والتراث التي لم يحسم أمرها بعد، من خلال التحليل الموضوعي والنًّقد الصًّارم، ومن ثمً تجاوز إشكالاتهما إلى آفاق الحاضر والمستقبل. هناك إشكالية عدم الإلمام الكافي باللًّغة العربية، وعاء الفكر والتواصل الثقافي، من قبل جيل الشباب العرب الحالي. وهو ما قد يفسّر العرب جزئياً الإحصائيات التي تشير إلى أن نسبة الشباب العربي الذين يقرأون الكتب لا تتجاوز 8%، مقارنة بنسبة 50% في فرنسا و70% في ألمانيا. ولاحاجة للتذكير بأنه عندما يضعف تواصل الإنسان بثقافة أمته تصبح هويته القومية في مهبٍّ الرٍّيح وخطر الزَّوال. وأخيراً هناك عدم الانتباه، أو حتى البخل والتقتير، من قبل أغلب أنظمة الحكم العربية وأغلب أغنياء العرب، بالنسبة لتشجيع أو بناء أو دعم مؤسّسات وأدوات عرض ونشر نتاجات الثقافة العميقة المحتوى في المجتمعات العربية. لنلاحظ قلًّة وهزال وبلادة الجانب الثقافي في برامج محطات التلفزيون والإذاعات العربية، إضافة إلى أنه حتى المعروض منها يتًّسم بالسطحية والثرثرة والابتعاد عن قضايا الأوطان والإنسانية الكبرى. لنلاحظ النُّدرة المفجعة لمحطات تلفزيونية وإذاعية عربية متخصٍّصة في نشر الثقافة الجادة التحليلية الناقدة المتوجًّهة لسمو الإنسان وحريًّته، المنبًّهة لنواقص حياته السياسية والاجتماعية والشخصية. بل العكس هو الصحيح، أذ تنتشر ألوف المحطات والأفلام والمسرحيات والأغاني والكتب والمطبوعات التي تلهي القارئ بثقافة الإلهاء عن الثقافة التي تدفعه نحو الثورة على أوضاعه الحياتية البائسة المليئة بالهيمنة والاستبداد والظلًّم والعبودية واللاُّمساواة والحطٍّ من كرامته الإنسانية. مخارج ومراجعاتويستطيع الإنسان ذكر الأمثلة إلى ما لانهاية، وكلُّها تصرخ بضرورة بناء تيًّار كبير متماسك للخروج من إشكالات الثقافة العربية المأزومة. من بين التوجُّهات المطلوب من ذلك التيًّار التعامل معها الآتية: أولا، لابدُّ من توسعة وتعميق ثقافة المراجعة التي تؤدُي في النهاية إلى قطيعة نهائية مع كل ماهو خرافي، لا عقلاني، مضاد لتوجُّهات الإنسانية نحو مزيد من التجديد والتحديث الفكري والسلوكي والتنظيمي. الهدف، كما ذكرنا سابقاً، هو إعادة قراءة ثقافة الماضي فراءة تحليلية نقدية لغربلتها وإعادة تجميعها، ثم تجاوزها إلى مشاهد جديدة دون شعور بضياع الهوية وخوف من الإنسلاخ عن الجذور والدُّخول في متاهات الغربة. لقد بذلت جهود فردية متناثرة ومتقطٍّعة منذ بدايات القرن التاسع عشر، ولكنُّها لم تصل بعد إلى بناء تًّيار ثقافي تجديدي فاعل يجرُّ جزءاً كبيراً من مكوًّنات المجتمعات العربية معه، باقتناع وحماس وبذل جهود وتضحيات. ولما كان الإسلام ليس فقط دين غالبية العرب وإنًّما أيضاً مكوًّن ثقافي لكلً العرب، فإن تلك المراجعة التي نتحدث عنها ستشمل العديد من جوانب التُراث الإسلامي، فهماً وتفسيراً للأصول وتنقيحاً لفكر مدارسه الفقهية، تمهيداً لاجتهادات وممارسات تأخذ بعين الإعتبار التغيرات الكبرى التي حدثت وتحدث في حياة العرب وفي مشاهد العصر الذي تعيشه الإنسانية. ثانياً، هناك حاجة ملحة لبناء وترسيخ ثقافة الديموقراطية على المستويات السياسية والفكرية والحياة اليومية. هذه أولوية في حياة العرب، خصوصاً بعد الحراكات الجماهيرية العربية الكبرى خلال الأربع سنوات الماضية، والتي كان أحد أسباب تعثُّرها أو انحرافات بعضها الغياب التاريخي لمفاهيم وممارسات الديموقراطية في حياة العرب. بدون وجود هذه الثقافة الفرعية التي ستثبًّت مفاهيم الحرية الفردية والجماعية، وعلى الأخص حرية الرأي والتعبير والمساءلة، والتي ستجعل المجتمعات العربية تمارس التعددية في كل المجالات بمسؤولية وتعمل من خلال مؤسسات تعبًّر عن مواقف ومصالح شرعية، وستنقل المجتمعات إلى ممارسة التسامح والحوار والنضال السّلمي من أجل الحقوق الإنسانية الكبرى.. بدون هكذا ثقافة ستكون هناك استقطابات متصارعة في الحياة السياسية والدينية والثقافية تؤدُّي إلى تجزئة الأوطان أو دخولها في حروب أهلية، كما نراها ماثلة أمامنا في العديد من أقطار الوطن العربي. القبول بالآخرإن ماسيجعل بناء هذه الثقافة الفرعية أمراً غير مستحيل، كما يدًّعي البعض استحالته بسبب قرون طويلة من الاستبداد في تاريخ العرب، هو أن مراجعة التراث ستبين وجود نهج إسلامي مبثوث في القرءان والسنّة وبعض مدارس الفقه سيساعد على تقبُّل هذه الثقافة. وكمثال على ما نعنيه ما كتبه المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه «الديموقراطية وحقوق الإنسان» عما سماها حقوق الإنسان بإطلاق في الإسلام والتي في رأيه شملت «الحقًّ في الحياة، والحق في التمتُع بالطيًّبات، والحق في الاعتقاد بحرية، والحق في المعرفة، والحق في الشورى، والحق في المساواة، والحق في العدل». وفي كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» يؤكد هشام جعيط وجود النًّزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام مشيراً إلى الإنسانية القرءانية والنزعات الإنسانية التي تجلُّت في الثقافة الدينية مابعد القرءانية من مثل فكرة العدل التي كانت قويه جداً ومن مثل الإحساس الحقيقي بكرامة الإنسان وقيمته. وفي فترات من واقعنا التاريخي وجدت حركة القدريُة كحرلة سياسية ـ دينية ثورية في وجه الجبرية الأموية، ووجدت مدرسة المعتزلة كحركة تمجًد العقلانية. لقد أُجل في الماضي القريب حسم موضوع الديموقراطية في ثقافة العرب السياسية، تارة باسم حساسية الظروف التي تعيشها المجتمعات، تارة باسم قضية العرب المقدًّسة في فلسطين، وتارة باسم عدم استعداد الفرد العربي للانتقال إلى تلك الثقافة. لقد أصًّر البعض على وجود خصوصية عربية بالنسبة لهذا الموضوع، مًّما قاد الآخرين لاتهام الإسلام وأتباعه بقابلية ذاتية لممارسة الاستبداد في مجالات العربي الخاصة والعامة. لكن أن نقبل بأن الثقافة والممارسة الديموقراطية هي عبارة عن سيرورة طويلة الأمد ومتدرًّجة فهذا شيء حسن، لكن أن نستعمل تلك البديهية لسدُ الطريق أمام بناء الثقافة الديموقراطية في حياة العرب فهذا تجديف ضدُ روح الإسلام المبني على العدل والقسط والميزان والكرامة الإنسانية وضدُ حركة التقدُّم الإنسانية نحو المساواة والأخوة والتعايش السًّلمي في ظلًّ منظومة حقوق الإنسان العالمية. العقل والعلمثالثاً، وتقودنا تلك الاستنتاجات إلى الأهمية القصوى لمعاودة الرجوع إلى المحاولة المعتزلية لنبني ثقافة عقلانية، لا كساحة لصراع ثنائي عبثي بين العقل والدين، ولا كتبنٍّ لمفاهيم الغير العلمانية الملحدة أو المهمٍّشة لمكانة الدين في حياة البشر، وإًّنما كطريقة ومنهج لتعويد الإنسان العربي على النًّظر إلى كل أمور حياته بموضوعية بعيدة عن الهوى والطًّيش والإنحيازات العمياء المتعصٍّبة، وبقدرة على ممارسة النقد التحليلي التًّركيبي، وبالابتعاد عن تقديس ماليس بمقدًّس وعن ممارسة الفكر الإيديولوجي المبتذل. رابعاً، في هذا العصر الذي نعيشه الذي يتكوًن جزء كبير من بنائه من إنجازات العلوم والتكنولوجيا وانتشار المعرفة بوسائل تواصل مذهلة، فإن من المنطقي أن يعطي للثقافة العلمية، الطبيعية منها والإنسانية، حيًّزاً كبيراً في محاولة النهوض الثقافي. إننا لانتحدث هنا عن نشر المعلومات العلمية، على أهميُّتها، وإًّنما نتحدث عن اكتساب القدرة على الملاحظة الدقيقة لما يجري في عالم الإنسان العربي، وممارسة المنهجية العلمية الاستكشافية في التعامل مع الطبيعة والأنظمة والعلاقات الإنسانية وفي تقييم المعلومات. إنها ثقافة ترفض الإيمان بالمبادئ دون تساؤل وتمحيص وتتناقض مع سلوكيات التعصُّب والتزمُّت وإدُّعاء امتلاك الحقيقة. خامساً، هناك حاجًّة ماسُة لثقافة مراجعة للفكر القومي العروبي. لسنا هنا معنيين بالجانب الإيديولوجي السياسي من الموضوع. المقصود هو ثقافة مراجعة موضوعية متعمٍقة بحثية لولادة الفكر القومي ومسيرته وأخطاء تطبيقاته وخطايا من حملوا لواءه. ومهما ينتج عن تلك المراجعة فإننا لا نستطيع الهرب من واقع التجزأة والتًّفتيت المستمر للمجزًّأ لكل أرض العرب، عن واقع العولمة الذي لامكان فيه إلاً للتكتًلات الكبيرة المتماسكة. ولنا عبرة في الاتحاد الأوروبي وتكتل «بريكس» الخماسي وعدة تكتلات إقليمية في أميركا الجنوبية والشرق الأقصى. الثقافة المطلوبة في هذا المجال ليست للإقناع فقط وإنما أيضاً لرسم الطرق وتصحيح مساراتها وتقييم نتائجها، فموضوع وحدة الأمة سيبقى معنا لسنين طويلة قادمة. خاتمةهناك سؤال يطرح نفسه: من سيقوم ببناء وتطوير ونشر تلك الأنواع من الثقافات الفرعية في الثقافة العربية الواحدة؟ في الواقع العربي الحالي كل الوسائل المسؤولة عن القيام بتلك المهمًّات هي الأخرى مرتبكة ومأزومة. فالتعليم في أرض العرب يواجه إشكالات متعدٍّدة. هناك نسب الأمية العالية التي تصل في بعض أقطار الوطن العربي إلى خمسين في المائة. هناك نوعية التعليم الذي في أغلبه تلقيني لا يمارس التحليل العقلاني والإبداع ويكتفي بتمرير نفس الثقافة عاماً بعد عام دون أية مساهمة في نقدها وتجديدها. هناك ضعف الجانب الثقافي في تهيئة المعلًّم ليصبح أداة تغيير مجتمعي من جهة وأداة تجديد لأفكار طلاًّبه وسلوكياتهم من جهة أخرى. وفي المدُة الأخيرة، وتمشياً مع متطلبات سوق العمل العولمي، أطلت علينا فجيعة ضعف الطلاب الشديد في اللغة العربية لحساب اللُغات الأجنبية، وهي فاجعة تهدٍد بإمكانية انفصال هؤلاء الطلبة عن كل مصادر ثقافتهم القومية. أما الإعلام العربي فإنه يتعامل مع الثقافة العربية من خلال التركيز على التسلية والإمتاع الحسًي والابتعاد عن القضايا العميقة المركًبة لصالح القضايا السطحية. أضف إلى ذلك سيطرة المادة الثقافية الأجنبية، من أفلام وكارتونات الأطفال والمسلسلات القصصية المترجمة وأفلام التوثيق في السياسة والتاريخ والاقتصاد، سواء في الوسائل البصرية أم السًمعية، فتصبح الصورة أقرب إلى غزو ثقافي بدلاً من أن تكون تفاعلاً ثقافياً مطلوباً. ولا حاجة هنا لإبراز فواجع المحطات التلفزيونية الدينية التي تتكاثر كالفطر المسموم الذي يمتلئ بالصًراعات المذهبية العبثية وبنشر الفقه المتخلف المشوش لأفكار الناشئة. أما المشاكل المتعلقة بانتاج الثقافة، وبالأدوار الهامشية التي يلعبها المثقفون، وبكثرة النوعية الرديئة لما يصدر عن الكتاب العرب، وبالانتاج الهزيل لمراكز البحوث العربية، وبمحنة حرية التعبير في أرض العرب، وبهجرة العقول العربية إلى بلدان ماوراء المحيطات طلباً للرزق أو هرباً من الإستبداد.. أما هذه المحن فأنها فصل مأساوي في كتاب الثقافة العربية. نخلص بالقول: نحن أمام ثقافة عربية مأزومة ووسائل ثقافية مرتبكة وعاجزة. * وزير سابق ومفكر بحريني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©