الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنتظر عصر الظهورات!

أنتظر عصر الظهورات!
4 ديسمبر 2014 00:35
بعض الفلاسفة يتحدثون عن العتمات أو الظلمات الكبرى التي قد تصيب الأمة أو تطبق عليها من حين إلى آخر. وفي مثل هذه الظروف الصعبة يظهر المفكرون الكبار. فهم وحدهم القادرون على شق العتمات وتبديد الظلمات. الفكر رادار يضيء السماء المكفهرة والتراكمات. لا ريب في أن الأمة العربية والإسلامية ككل تعيش الآن هذا المنعطف التاريخي الخطير. لا ريب في أن الظلمات أطبقت عليها. ولكي نفهم الأمر على حقيقته، بكل أبعاده، يستحسن بنا أن نستضيء بتجارب الأمم الأخرى التي عاشت مثل هذه الحالة وخرجت منها. أقصد هنا بالطبع الأمم المتقدمة التي لم تعد خائفة على مستقبلها بعد أن اكتشفت الطريق الموصل إلى الخلاص: أي إلى الخروج من العتمة المطبقة على صدر الأمة. من الذي أخرج الأمة الألمانية من حيرتها الكبرى في القرن السادس عشر؟ شخص واحد يدعى مارتن لوثر. وهو نفسه كان مصابا بأزمة داخلية حادة كادت أن تعصف به. ولكنه بعد أن تغلب عليها، بعد أن حلها قبل أن تحله وتقضي عليه، تحول إلى مارد جبار واستطاع أن يحل مشكلة الأمة الألمانية بل والمسيحية الأوروبية ككل. من الذي أخرج الأمة الإنجليزية من ضياعها في أواخر القرن السادس عشر وبدايات السابع عشر؟ شخص يدعى فرانسيس بيكون. فهو الذي أعطاها المفتاح العلمي والفلسفي المؤدي الى الخلاص. أما لوثر قبله فكان قد أعطى المفتاح اللاهوتي. من الذي أخرج الأمة الفرنسية من بلبلتها الكبرى في القرن السابع عشر؟ انه شخص واحد أيضا يدعى رينيه ديكارت. عندما صدر كتابه الشهير «مقال في المنهج» عرف الفرنسيون أنهم قد وصلوا إلى شاطئ الأمان، أنهم قد أمسكوا بأول الخيط، أنهم قد توصلوا إلى المنهاج الصحيح المؤدي الى الحل. نعم لقد أدركوا أن مشكلتهم قد حلت، وشدتهم انفرجت، بعد أن خرج بين ظهرانيهم فيلسوف ضخم يعرف كيف يحل عقدة العصر. نفس الشيء يمكن أن يقال عن كانط في القرن الثامن عشر. هو أيضا حل عقدة العصر الألماني كله عندما أصدر كتابه الشهير نقد العقل الخالص. ثم تبعه كتاب نقد العقل العملي وأخيرا كتاب هام جدا هو: «الدين ضمن حدود العقل فقط». لقد عرف بضربة معلم عبقرية كيف يجد ثلاثة حلول دفعة واحدة: حلا فلسفيا وحلا علميا وحلا دينيا. وهكذا صالح بين العلم والدين والفلسفة وحل عقدة العصر المستعصية على الحل. وعندئذ شعر الألمان بأن نبيا جديدا قد ظهر فيهم وأعطاهم ثقة هائلة بأنفسهم. وما عادوا خائفين، قلقين، مضطربين.. وإذن فلكل عصر عقدته المستعصية التي لا يقدر عليها الا الأنبياء أو الفلاسفة الكبار. نفس الشيء يقال عن هيجل في القرن التاسع عشر فقد كان رادارا مشعا وضرب ضربة عبقرية عندما اكتشف القوانين التي تتحكم بحركة التاريخ البشري. وقل الأمر ذاته عن هيدجر في القرن العشرين، أو هابرماس حاليا، الخ.. بالطبع هناك مفكرون آخرون لا يقلون أهمية وليس هدفي تعداد الجميع فهذا فوق استطاعتي وفوق إمكانيات مقال واحد. ولكن بشكل عام فان المثقفين الكبار هم منارات الشعوب التي تضيء لها الطريق. فلولاهم لبقينا نتخبط في ظلمات ما بعدها ظلمات. بين الحاجة والعجَلَة قد يقولون بأني أتحدث هنا بشكل تعجيزي تقريبا. لماذا؟ لأني لا أذكر الا أسماء المثقفين الكبار الذين لا يظهرون كل سنة أو سنتين وانما كل مئة سنة أو مئتين. إني لا أتحدث الا عن أولئك المثقفين العباقرة الذين يشبهون الظهورات، أو الرادارات التي تشق دياجير الظلمات. وهذا صحيح. وقد يضيف المعترض قائلا: ولكننا نحن مستعجلون نريد حلا فوريا للعتمة الظلامية المطبقة على صدر الأمة العربية الإسلامية. نحن لا نستطيع أن ننتظر ظهور شخصية بحجم ديكارت أو كانط أو هيجل لكي نحل مشكلتنا. فهذا قد لا يحصل قريباً في العالم العربي ولا الإسلامي كله. وأعترف شخصيا بأن الثقافة العربية في صيغتها الراهنة عاجزة عن تشخيص مشاكلها الأساسية ناهيك عن حلها. بعد أن وصلت بالحديث إلى هذه النقطة ينبغي الاعتراف بأني أتحدث هنا عن المثقفينالذين يكتبون بالعربية. فهؤلاء على الرغم من أهمية بعضهم وألمعيته إلا أنهم يبدون عاجزين عن تشخيص المشكلة التراثية بشكل صحيح، وبالتالي غير قادرين على حل أزمة الثقافة العربية، لكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المثقفين العرب أو المسلمين الذين يشتغلون في الجامعات الأجنبية ويكتبون باللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والألمانية فإن الوضع يختلف. فهنا نجد مفكرين يمتلكون ناصية المنهج العلمي والمصطلح الحديث تماماً كالمفكرين الأجانب، لأنهم يدرسون مثلهم في الجامعات الأوروبية والأميركية. أقصد بذلك أنهم يسيطرون على المنهجية التاريخية- النقدية التي كانت قد طبقت على التراث المسيحي من قبل واستطاعت إخراج الغربيين من محنة الأصولية المسيحية والحروب الطائفية والمذهبية. أضرب كمثال على هؤلاء المثقفين المسلمين شخصيات من نوعية المفكر الباكستاني فضل الرحمن في أميركا، أو المفكر الجزائري محمد أركون في فرنسا، أو المفكر الإيراني داريوش شايغان، أو المفكر التونسي عبدالوهاب المؤدب الذي غادرنا مؤخرا. هؤلاء حلوا المشكلة التراثية أو قل شخصوها تشخيصا دقيقا. وبالتالي فيكفي أن نترجم أعمالهم ونشرحها لكي نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه. العلاج الاستشراقيوقد يقول قائل: وإذا لم يكفنا كل ذلك لحل أزمة الثقافة العربية فماذا نفعل؟ وأجيب دون تردد: نستعين بالخارج. سوف أفاجئ الكثيرين إذ أقول هذا الكلام. وربما صدمتهم. ولا أقصد بالخارج هنا فقط الباحثين العرب الذين يشتغلون في الجامعات الغربية ومراكز البحوث الأميركية والأوروبية والذين ذكرت بعضا منهم آنفا. وإنما أقصد أيضا كبار فلاسفة الغرب، لأن مشكلتنا التراثية أصبحت تهمهم بعد أن تحولت إلى مشكلة عالمية. بل وأقصد كبار المستشرقين الأكاديميين. وهنا قد ينتفض أحدهم قائلا ماذا؟ أتعطي ثقتك للاستشراق؟ عيب عليك! إنهم أعداؤنا. وأنا أقول لكم أيها الإخوة الكرام: إن الاستشراق الأكاديمي غير المسيس وغير السطحي يمكن أن يقدم لنا إضاءات لا تقدر بثمن عن تراثنا وماضينا. وتشخيص الماضي يشكل نصف الحل لتشخيص الحاضر وحل مشاكله. كان أستاذنا أركون يستخدم المنهجية «التقدمية- التراجعية» لكي يفهم مشاكل الحاضر العربي أو الإسلامي. وكان يقول ما معناه: ينبغي أن ندرس الماضي لكي نفهم الحاضر، وأن ندرس الحاضر لكي نفهم الماضي. وهكذا نظل في حركة دؤوبة متنقلة بين الماضي والحاضر، بين التراث والمعاصرة. فمعظم مشاكل الحاضر لها جذور في الماضي، بل والماضي البعيد. أضرب على ذلك مثلا الفتنة الكبرى التي تشتعل الآن مجددا بين المذاهب الإسلامية وبالأخص السنية/ الشيعية، ولكن أيضا السنية/ الإباضية في بعض المناطق. هذه المشكلة الأساسية التي تهدد مجتمعاتنا بالحروب الأهلية والتقسيم والدمار لا يمكن فهمها إذا ما اكتفينا بدراسة الحاضر: أي إذا ما اقتصرنا على دراسة الانفجارات الحالية كما يفعل الصحفيون المتسرعون أو السطحيون. ينبغي أن نموضعها ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ، كما كان يقول المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل لكي نفهمها على حقيقتها. ينبغي أن نعود ألفا وأربعمئة سنة إلى الوراء: أي إلى ما بعد وفاة النبي مباشرة. على مستوى القرآن وحياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك شيء اسمه سنة أو شيعة لسبب بسيط هو أن الفتنة الكبرى لم تكن قد حصلت بعد. كان هناك مسلمون فقط مقابل المشركين الوثنيين من أهل قريش أو مقابل أهل الكتاب من يهود ومسيحيين. الصراع كان محصورا في هذا الإطار. ولم يكن هناك شيء اسمه صراع سني/ شيعي أبداً. هذا سيحصل لاحقا. ثلاث ثوراتأخيراً سوف أقول ما يلي: لكي تخرج الثقافة العربية من محنتها الكبرى الحالية، لكي تلحق بركب الثقافات المتقدمة كالإنجليزية والفرنسية مثلا، لكي تصبح قادرة على حل مشاكل المجتمعات العربية من دينية وسياسية واجتماعية، بل وحتى اقتصادية، فإنه ينبغي عليها أن تخرج من انغلاقاتها المزمنة وانسداداتها التاريخية. ولكي ننجح في ذلك فإنه ينبغي علينا أن نحدث ثلاث ثورات معرفية دفعة واحدة: ثورة علمية، وثورة فلسفية، وثورة لاهوتية أو دينية. وذلك بغية مواجهة الثقافة الأصولية المهيمنة على عقول الشباب وبرامج التعليم. ينبغي أولا نقل الكشوفات العلمية البحتة إلى اللغة العربية. كل النظريات الفيزيائية والفلكية والبيولوجية عن نشأة الكون والحياة والإنسان على وجه الأرض ينبغي أن تعرف باللغة العربية. وعندئذ تنفتح آفاقنا وتتغير نظرتنا التقليدية الأصولية عن العالم. وهي نظرة لم تعد تناسب القرن الخامس عشر الأوروبي فما بالك بالقرن الحادي والعشرين؟ إن إدخال الثقافة العلمية إلى ساحة المدارس والجامعات وبرامج التعليم ـ بل وحتى الفضائيات!- سيكون له أثر كبير على عقليتنا الجامدة المرتكزة على يقينيات أصولية قديمة مهترئة عفى عليها الزمن. ثانيا: ينبغي نقل الثورة الفلسفية إلى العالم العربي. أنا لست متأكداً أننا نعرف معنى اللحظة الديكارتية في تاريخ الفكر أو اللحظة الكانطية أو اللحظة الهيغلية ناهيك عن اللحظات الماركسية والنيتشوية والهيدغرية والحداثة وما بعد الحداثة، الخ.. كل هذا ينبغي أن يعرف بشكل دقيق باللغة العربية. وثالثا: كما قلنا: فإن الثورة اللاهوتية أصبحت ضرورة قصوى في عصر الأصوليات المزمجرة والداعشية. ينبغي تجديد الفكر الديني بشكل جذري في كل الساحات العربية والاسلامية. وينبغي تعميم الفكر الديني الجديد على شاشات الفضائيات العربية لمواجهة الهيمنة شبه المطلقة للفكر التقليدي. لماذا لا تكون عندنا فضائيات تنويرية مقابل الفضائيات الظلامية؟ على هذا النحو يمكن للثقافة العربية أن تخرج من محنتها الكبرى، من المأزق العميق الذي وقعت فيه. وهو مأزق تضخم مؤخرا بشكل مخيف حتى لأصبح بحجم العالم! هامش 2 الاستشراق الأكاديمي حول الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى، وأقول ما يلي: لقد اطلعت خلال إقامتي الأخيرة في فرنسا على مجموعة كتب جديدة عن التراث، وبالأخص عن الدراسات القرآنية، ووجدت فيها اكتشافات وإضاءات حقيقية، قد لا تكون كل هذه الأبحاث صحيحة، أو موفقة، أو حتى قد لا تكون خالصة النية.. ولكن من المفيد جداً الاطلاع عليها، أذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر، «مقاربات جديدة للقرآن»، تأليف مجموعة من الباحثين العرب والأجانب. ويمكن أن نضيف «الموسوعة الإسلامية» في طبعتها الجديدة، أو «الموسوعة القرآنية» بالانجليزية في خمسة أجزاء ضخمة، أو «قاموس القرآن» الكريم بالفرنسية، الخ.. هامش رقم 1 من بعيد لست واثقا أننا اطلعنا على مؤلفات فضل الرحمن عن «المواضيع العظمى في القرآن الكريم» مثلاً، أو عن كيفية المصالحة بين «الإسلام والحداثة»، إلخ.. وقل الأمر ذاته عن مؤلفات داريوش شايغان الذي أمضى عمره ولا يزال في الحفر على الأصولية الشيعية الإيرانية ومشكلتها مع الحداثة.. وقس على ذلك. وبالتالي فإذا كنا نحن المثقفين العرب عاجزين عن حل المشكل حالياً فلماذا لا نستعين بأبناء جلدتنا الذين يشتغلون في الخارج؟ وهؤلاء لهم ميزة كبيرة علينا هي أنهم يستطيعون ممارسة البحث العلمي بكل حرية عن المشكلة التراثية دون أي خوف من مقص الرقيب أو من ضغط الشارع الإخواني - السلفي - الخميني عليهم. لماذا؟ لأنهم بكل بساطة يعيشون في العواصم الغربية كباريس ولندن ونيويورك.. ويكتبون باللغات الأجنبية. وبالتالي فيتخذون مسافتين عن بؤرة الخوف والقمع: مسافة جغرافية أولاً، ثم مسافة لغوية ثانياً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©